Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيمانويل كانط يقارب الدين من منظور الفلسفة

ترجمة عربية لمحاضرات جامعية تم العثور عليها وتنقلت بين أكثر من شخص حتى نشرت بعد 13 عاما على رحيل صاحبها

الفيلسوف الألماني كانط (موقع فلاسفة)

ملخص

في كتاب "محاضرات في التعليم الفلسفي للدين" يسعى الفيلسوف الألماني إمانويل كانط إلى مقاربة الدين، مقاربة عقلية وفلسفية، واضاعأ إياه في إطاره التاريخي. ولعل المقاربة الكانطية الفلسفية للدين قد تتمّ في شكل مباشر، أو غير مباشر من خلال محاورته بعض الكتابات الفلسفية واللاهوتية المتعلّقة بالموضوع، من قبيل كتابات لايبنتس وفولف وباومغارتن وإيبرهارد وغيرهم.

لعل نشأة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724 – 1804) في أسرة متديّنة، وتأثّره بالحركة التَّقَوية المسيحية، ودراسته اللاهوت، هي العوامل التي جعلته يولي الدين اهتماماً خاصاًّ في كتاباته، فيفرد له كتباً مستقلّة أو يشير إليه في كتب أخرى. وفي الحالتين يقاربه مقاربة عقلية وفلسفية، ويضعه في إطاره التاريخي، في محاولة منه لتحريره من الخرافات والأساطير التي تشوّه جوهره، وتطمس حقيقته. وهو ما يتمظهر في كتاب "محاضرات في التعليم الفلسفي للدين"، الصادر عن دار الرافدين، بترجمة مباشرة عن الألمانية، قام بها جوزيف معلوف. وهذه المحاضرات كان قد عثر على بعضها الفيلسوف واللاهوتي الألماني فريدريش تيودور رينك المهتم بالدراسات الكانطية، حتى إذا ما توفّي في العام 1810، اشتراها المؤرّخ الألماني كارل هاينريش لودفيك بوليتس ونشرها في العام 1817. على أنّ النسخة التي استند إليها المترجم كان قد أشرف عليها البروفسور كورت بايير وتعود إلى العام 1937، ناهيك باستناده إلى ترجمة إنكليزية لها صدرت عن جامعة كامبريدج في العام 1996، على حدّ تمهيده للكتاب.

 في تقديمه الكتاب، يرسم جوزيف معلوف الإطار الفكري واللاهوتي الذي نشأ فيه إيمانويل كانط؛ فيشير إلى تأثّره بالحركة التّقَوية البروتستانتية التي أسّسها فيليب ياكوب شبينز، وبنظرية اسحق نيوتن العلمية، وتفاعله مع الكتابات الفلسفية في زمانه، وتوفيقه بين العقلانية والتجريبية، وتمسّكه بالفكر التنويري، من جهة، ويلقي الضوء على المحاضرات وأهمّيتها وهدفها، متوقّفاً عند المؤثّرات في فكر كانط الديني، ومفهوم الله في كتاباته، وموقع المحاضرات فيها، من جهة ثانية، ما يشكّل إحاطة وافية بمحاور الكتاب. أمّا المقدّمة الألمانية للكتاب، فتشير إلى ضرورة وجود معيار تُقاس في ضوئه تصرّفات البشر، يتمثّل في الكائن الأسمى معرفياًّ وجسدياًّ وعملياًّ، وهو ما يمكن الاقتراب منه باللاهوت، وهذا الكائن حافزٌ على التمسّك بالأخلاق العملية التي تتقدّم على المعرفة النظرية في محاولة فهم هذا الكائن الأسمى، ذلك أنّ مجرّد الإيمان بوجوده يشكّل حافزاً على الممارسة الأخلاقية، على غرار ما فعله اليونان والرومان القدماء. من هنا، يشكّل الكائن الأسمى المحور الذي تتمحور حوله محاور الكتاب الثلاثة، المتعلّقة بالبراهين على وجوده، والآليات اللاهوتية المختلفة لفهم كنهه وطبيعة كلٍّ منها. مع الإشارة إلى أنّ المقاربة الكانطية الفلسفية للدين قد تتمّ بشكلٍ مباشر، أو بشكلٍ غير مباشر من خلال محاورته بعض الكتابات الفلسفية واللاهوتية المتعلّقة بالموضوع، من قبيل كتابات لايبنتس وفولف وباومغارتن وإيبرهارد وغيرهم.

يذهب كانط في محاضراته إلى استحالة إدراك الكائن الأسمى بالعقل الإنساني والتراكم المعرفي لاختلاف موضوع الإدراك المطلق عن أداته النسبية، ويقترح أن يتم ذلك بواسطة اللاهوت، لذلك، يعرّف اللاهوت بـ" أنّه نسق فهمنا للكائن الأعلى"، ويميّز بين المعرفة الشائعة باعتبارها "مجموعة تراكمات، إذ يُوضع شيء إلى جانب شيء آخر من دون أن نرى العلاقة والوحدة" وبين اللاهوت باعتباره النسق الذي "تسيطر فيه فكرة الكلّية في كل مكان" (ص 49). وحين نطبّق اللاهوت على الأخلاق، نكون في حضرة الدين الذي "ليس سوى تطبيق علم اللاهوت على الأخلاق، أي على حسن التصرّف وعلى السلوك الذي يرضي الكائن الأسمى" (ص 53)، وبذلك، يربط بين الكائن الأسمى والأخلاق، وهنا، نكون إزاء ما يسمّيه باللاهوت الأخلاقي التطبيقي، وهو الوجه الآخر للاهوت النظري الذي تستند إليه البراهين النظرية الثلاثة على وجود الله التي يُفرد لها القسم الأول من الكتاب. لذلك، قبل إضاءة هذه البراهين، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كانط يقسّم "اللاهوت النظري إلى اللاهوت الأنطولوجي واللاهوت الكوزمولوجي واللاهوت الطبيعي. يقارب اللاهوت الأول الله من خلال المفاهيم. ويفترض اللاهوت الطبيعي شيئاً موجوداً فيستنتج وجود كائن أسمى من وجود العالم بوجه عام. وأخيراً، اللاهوت الطبيعي الذي يستعين باختبار العالم الحاضر بوجه عام، ويستنتج من ذلك وجود خالق للعالم والصفات التي تتعلّق بهذا الخالق" ( ص 64).

  البراهين الثلاثة

 استناداً إلى هذا التقسيم، يحدّد كانط البراهين الثلاثة الوحيدة على وجود الخالق بالبرهان الأنطولوجي والبرهان الكوزمولوجي والبرهان الطبيعي. وفي هذا السياق، يستنتج المترجم "أنّ كانط لا يثق كثيراً بالبراهين العقلية والطبيعية التي تثبت وجود الله، إذ تسعى هذه البراهين إلى إثبات وجود الله من خلال طرق لا تتناسب مع طبيعة الله اللازمنية. ذلك أن هذه البراهين تجعل من الله موضوعاً يمكننا أن نعرفه، ممّا يحوّل العقل إلى أداة دوغمائية قادرة على معرفة كل شيء، حتى المعرفة الماورائية" (ص 39)، وهو ما يرفضه كانط حين يرى " أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يبرهن على إمكانية وجود الله ولا على استحالته قبلياًّ، لأنه يفتقر إلى الرؤية الضرورية في مجال الوقائع كلّها وتأثيراتها" (ص 102)، ومع هذا، نراه لا ينكر هذا الوجود، ويقبل البعد الأخلاقي كفرضية ممكنة لإثباته. هذه النتيجة يبلغها كانط من خلال تحليله اللاهوت الترنسندنتالي، بأقسامه الكائن والكوزمولوجي والطبيعي، في القسم الثاني من كتابه، من جهة، وتحليل اللاهوت الأخلاقي، بتمحوره حول صفات الله الأخلاقية وطبيعة الإيمان الأخلاقي والسببية، في القسم الثالث من الكتاب، من جهة ثانية.

  يعرّف كانط اللاهوت الترنسندنتالي بأنه "فهم الله عن طريق مفاهيم العقل المحض"، ويخلص من تطبيق هذا التعريف إلى ثلاثة مفاهيم مكوّنة لله، يرتبط كلٌّ منه بنوع من أنواع اللاهوت الترنسندنتالي، وهي: الكائن الأصلي الذي هو أساس اللاهوت الكوزمولوجي، الكائن الأسمى الذي هو أساس اللاهوت الأنطولوجي، وكائن الكائنات كلّها الذي يُشتقّ منه كلّ شيء. على أنّ كلّ نوع من أنواع اللاهوت يتمخّض عن صفات معيّنة منسوبة إلى الله؛ فالله، في لاهوت الكائن، هو الكائن الأسمى الأكثر واقعية والأشياء كلّها ما خلاه، واقعية جزئياًّ وسلبية جزئياًّ، وهو الكائن الأصلي الذي تُشتقّ منه الأشياء الأخرى، وهو الكلّي العلم والقدرة والحيوية، وهو الضروري لوجود الكائنات الأخرى. والله، في اللاهوت الكوزمولوجي، هو "الذكاء الأسمى، وأعلى كائن، يحرّك كل شيء من خلال الفاهمة والحرية" (ص 135)، وهو الحدسي الفاهمة، القَبْلي العلم، اللازمني، الحكيم الكامل المكتفي بذاته والمغتبط بها. والله، في اللاهوت الطبيعي، هو خالق الطبيعة ومنظّم شؤونها، وهو فاعل الخير المحض دون حوافز لفعله، وهو صاحب الإرادة الإلهية الحرّة المستقلّة غير المقيّدة بالحسّي والقَبْلي، وهو الخالق المتميّز عن العالم المخلوق، وغير القابل للتحديد.

  اللاهوت الأخلاقي

أمّا في اللاهوت الأخلاقي الذي يشغل القسم الثالث والأخير من الكتاب، فينسب كانط إلى الله مجموعة من الصفات الأخلاقية. وهو، إذ يعتبر "أنّ مفهوم الله هو مفهوم أخلاقي وضروري عملياًّ، لأنّ الأخلاق تحتوي على شروط سلوك الكائنات العاقلة التي بموجبها يمكن أن تستحقّ وحدها السعادة" (ص 174)، يرى أنّ هذا المفهوم يقوم على القداسة والسخاء والعدالة. وبناءً عليه، فإن الله حاجة حتمية في طبيعة الأشياء وترتيبها، وضرورة للتحفيز على التصرّف الأخلاقي والحكم  استناداً إلى مبادئ الأخلاق، وهو الصلاح المستقلّ عن أيّ دافع ذاتي لإسعاد الآخرين بمقدار طاعتهم نلك المبادئ، فالسعادة مرتبطة بالطاعة. وفي السياق نفسه، ينسب كانط إلى الله صفات الرحمة والأبدية والخلق والعناية والسيادة والوحي وغيرها. وغنيٌّ عن التعبير أنّ الصفات المنسوبة إلى الله تتداخل بين لاهوت وآخر. فقد نقع على الصفة الواحدة في غير نوعٍ لاهوتي.

 إذا كان كانط يقول بعجز العقل عن البرهنة على وجود الله أو عدم وجوده، فإن أنواع اللاهوت المقترحة تقترب من فكرة الله، إلى حدٍّ أو آخر، من دون أن تتمكّن بدورها من الإحاطة بهذه الفكرة، ذلك أنّها كلّها، وسائل بشرية نسبية  قاصرة عن بلوغ الغاية الإلهية المطلقة، والوسيلة الوحيدة المعوَّل عليها في هذا البلوغ هي الإيمان.    

المزيد من كتب