ملخص
صلة وثيقة ربطت دائماً بين النص الأدبي الخليجي والتراث والمجتمع المحلي، مما جعل الأدب أداة ناجعة وثقت التحولات الاجتماعية العاصفة، التي طرأت على المجتمعات الخليجية خلال القرن الماضي وحولته إلى ذاكرة حية لا تسجل التاريخ وحسب، بل تسائله وتعيد تشكيله وتأويله.
في روايتها "سر الزعفرانة" (دار الشروق – القاهرة)، تعمد الكاتبة السعودية بدرية البشر إلى تسجيل تاريخ المكان، لا بوصفه جغرافيا متغيرة فحسب، بل باعتباره حساً ووعياً إنسانياً شكلته طبيعة يتنازعها المنع والمنح. فتحرص عبر بنائها على النفاذ إلى معاناة الإنسان، محرضة على التأمل في طبيعة النفس البشرية ومنطق الزمن وسؤال الهوية.
تنطلق الكاتبة في روايتها التي وصلت أخيراً القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، من جرح تأسيسي، فتنقل عبر صوت البطلة "نفلة" شعوراً بالتيه والفقد والاغتراب يجتاح الطفلة إثر مذبحة تعرضت لها قبيلتها، جراء إغارة إحدى القبائل عليها، "غارة... انتخى الرجال بأسماء نسائهم، فداروا وظلال المهاجمين تطعن وتركل، إلى أن أطفأ مهاجم النار، ولم تعد المعركة سوى وهم كبير مليء بالصراخ والفزع. لم يحتمل قلبي، رحت أركض في الظلمة حتى سقطت... ومت!".
هذا الشعور بالفقد والاغتراب يلازم البطلة في ترحالها من مكانٍ إلى آخر، ومن عمر إلى عمر، ليغدو ثيمة رئيسة للسرد. أما الأماكن فتتحول إلى مرايا تعكس محاولات متكررة للهرب أو التعويض، لتتجاوز وجودها كخلفية ووعاء للسرد، وتؤدي دوراً رئيساً في دفع الأحداث، إذ تتجلى كمنبت للخوف ومصدر للحكمة ومحرك للصراع.
وبينما تشرع البشر سردها انطلاقاً من طفولة البطلة، تستمر في تتبع مراحلها العمرية المختلفة حتى بلوغها مرحلة النضج، فتبرز عبر هذا الامتداد الزمني تشكل الذات النسوية في ظل سياقات اجتماعية متباينة، تتنوع بين البادية والقرية والمدينة. وتتيح خلال الوقت عينه، إضاءة شخصية "زعفرانة" وصعودها كأم بديلة وقوة أخرى محركة للأحداث، ونافذة ينفتح السرد من خلالها على قضايا الواقع وروافد التراث.
الوصف ورؤية العالم
يتجلى عبر السرد حضور كثيف لتقنيات الوصف، التي توظفها الكاتبة كلغة طبيعية تتيح رؤية العالم على نحو يدعم صدقية السرد، ويعكس قسوة البيئة وهشاشة الإنسان.
ويتنوع هذا الحضور، فيبرز الوصف الجسدي كما في تصوير "زعفرانة"، الذي يحيل إلى انتمائها لفئة الإماء، في حين يحمل وصف عينيها دلالات رمزية، تحيل إلى مقدار ما تحملته الشخصية من آلام وأهوال، وربما أيضاً إلى رؤيتها المغايرة للعالم، وقدرتها على الاستبصار وإدراك ما لا يدركه الآخرون.
كذلك يمهد وصف جسد "نفلة" لتحول مشاعر صديقتها "نادرة" نحوها من الحب إلى الحقد، لا سيما بعد إعلان زوجها رغبته في الزواج مرة أخرى.
ولا يقف حضور الوصف عند حدود الجسد، بل يمتد إلى ما يعتمل في دواخل النفس من شعور: "شعرت أن يد الحياة طوحت بي في فضاء مظلم بلا نجوم، وجدتني في هوة سوداء بلا قرار، الفضاء بارد وجسدي كرة قطن هشة، ابتلعني ثقب أسود، لا أعرف كيف أجمع نفسي المفككة".
وإضافة إلى ما يمنح وصف تلك المنطقة الشعورية المظلمة، من مظهر وملامح لآلام البطلة وهشاشتها، وما يتيحه للقارئ من إمكانية بلوغ ذاك الشعور ورؤيته، فإنه يحيل أيضاً إلى حالة الاغتراب الوجودي وفقدان المعنى، فينقل السرد من الحيز الواقعي إلى الأفق الوجودي، ويعمق التعاطف مع الشخصية ويحقق التوازن والاتساق بين الألم النفسي الداخلي وقسوة العالم الخارجي.
هذا العالم تبلغه تقنيات الوصف ذاتها، فيتجسد في صورة حية تحمل تفاصيل البيئة ومكوناتها وتحدياتها وتحولاتها، وتنقل قسوة الصحراء ورمالها وأشجارها وأعشابها وبرد الليل وحر النهار، وهجمات الجراد واستشراء وباء الجدري وحميمية بيوت القرية ورفاهة بيوت المدينة. وهكذا تعبر الحياة عبر الوصف إلى السرد، مما يعمق من دور المكان كفاعل رئيس في التنامي الدرامي وصياغة مصائر الشخوص.
الزمن الكوني
بينما يحظى المكان بحضور قوي داخل النص، تحظى الطبيعة بحضور مماثل، إذ تستدعي الكاتبة النجوم بتسمياتها المحلية، مثل نجم سهيل والثريا والدبران الوفي ونجم الدلو، ونجم الهقعة ونجم الإكليل ونجم العواء، وكذا رياح السموم والشبط والصبا والأكيدب، وموسم الكنة والمربعانية والصفري.
وتخرج البشر عبر هذه الاستدعاءات من الزمن الخطي الضيق الذي يتتابع فيه السرد إلى زمن كوني أكثر رحابة، تؤنسن فيه الطبيعة وتمنحها صوتاً يعزز التجذر الأنطولوجي الذي يبرز بدوره الارتباط التاريخي في عوالم الصحراء بين أهلها وحركة النجوم والرياح، إذ يعدونها مرشداً لحياتهم وأنشطتهم وكذا نبوءة لمصائرهم. فبينما تؤذن رياح السموم بخروج الربيع فتسرع النساء بحصاد الحنطة، وتبشر الريح الباردة الشمالية بدخول موسم المربعانية، فيبكر الرجال في تسميد النخيل وقطع سعفها، يحمل بريق نجم الهقعة نبوءة بانحسار الوباء وعودة الإيقاع الطبيعي للكون، وتصالح الإنسان مع القدر، "لمعت نجمة تبعد ملايين السنين في أول بارح الجوزاء تسمى الهقعة، بدت في عليائها مثل عملاق أزرق مزدوج، واحد كبير والآخر قزم أبيض يطل على القرية. فتح الناس أبواب بيوتهم. شفيت الندوب وهدأت أوجاع الفقد. أصبح الوباء في نظرهم عادلاً ورحيماً. قالوا: موت مع الجماعة رحمة".
سطوة القدر
في ثنايا تلك المظاهر من التلاحم بين الإنسان ومحيطه الكوني، تمرر الكاتبة بعض المفارقات الدرامية التي تحيل إلى عجز الإنسان أمام سطوة القدر، فبينما شفي المصابون بالوباء مات الفارون منه، وبينما حظيت "سندس" بالحب والجمال انتهى زواجها بالطلاق، في حين وفقت أختها على رغم دمامتها ونحيبها ورفضها للزواج، "لم تكن هي الطباخ الذي يضع مقادير الحياة في قدرها الكوني، فما هي إلا جرم صغير في كون لا يحده إدراك. سعدت أختها بزوجها، أحبته على مهل. عاشت في حماه حتى ماتت، منعمة بأطفال كبروا وبحب دافق وفير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإضافة إلى ما تمرره من مفارقات ورؤى، تطرح الكاتبة عدداً من القضايا الإنسانية والاجتماعية، التي وسمت الواقع المحلي خلال تلك الحقبة الزمنية، مثل الصراع بين القبائل وإغارة بعضها على بعض، والثأر والاغتراب والعنصرية والعبودية، وكذا نقص الخدمات الصحية الذي جعل الأوبئة أكثر خطورة وأشد فتكاً.
وعلى أرضية هذه القضايا الشائكة والمفارقات القدرية، يبرز الموت مراوحاً ما بين حضور واقعي وآخر مجازي، باسطاً هيمنته على إيقاع السرد، فتموت أم "نفلة" موتاً حقيقياً جراء إغارة إحدى القبائل، ويموت أبوها نتيجة إصابته بالجدري بعد تفشي الوباء، وتموت صديقتها مقتولة بيد ابن زوجها.
أما "نفلة" فتموت موتاً مجازياً مرات متكررة، مع كل فقد وكل انكسار وكل حنين. وعبر هذا الحضور الكثيف للموت الذي يعبر عن نزوع ما بعد حداثي، تحول الكاتبة الفقد من مأساة فردية إلى حالة وجودية، وتمنح السرد عمقاً فلسفياً، وتكسوه بغلالة من الحزن الشفيف.
التمهيد والتفسير
توظف الكاتبة حالة من الفيضان الحلمي داخل السرد بهدف تحقيق غايات متعددة، إذ تعمق من خلال الحلم البعدين النفسي والرمزي. وتفكك الزمن الخطي، فتمنحه سيولة يتيحها استدعاء الماضي والمستقبل في آن.
وتنفذ عبره إلى لا وعي الشخوص، ولا سيما البطلة، لاستجلاء أسرارها وتعرية شعورها بالعجز والهشاشة، فيحمل حلم "نفلة" بأنها تصعد مع صديقتها "نادرة" جبلاً من الرمل، تغوص أقدامهما فيه، بينما يطاردهما رجال القرية ومعهم "شجاع"، دلالات تحيل إلى انسداد أفق النجاة وشعورها بالعجز أمام عوائق الواقع، وسلطة المجتمع الذكوري.
كذلك يبرز الحلم كأداة للنبوءة والاستبصار، إذ يمهد حلم "فوزة" بأناس تلونت وجوههم بالرماد، وأناس يمتطون صناديق من الخشب تمشي وحدها، لظهور الوباء وموتها. ويمهد حلم "نفلة" بأبيها شاباً سعيداً يتسلق نخلة ويأكل رطبها، لموت الأب. أما حلم "سندس" بوحش يدخل جوفها، فيمهد لإجهاضها وفساد زواجها.
وإلى جانب التفسير والتمهيد تدعم الأحلام النزوع الصوفي للسرد، إذ تعتمده الكاتبة كوسيلة لكشف الحجب، فتعرف "نفلة" عبره نوع جنينها. وتعرف كيف تعالج داءها وتحمي جنينها من السقوط، "جاءت زعفرانة في المنام، كعادتها، وقالت: احضري عشبة الجعدة واشربيها ثلاثة أيام على الريق وسبعة قبل النوم. شربت منقوع جعدة عشرة أيام فتوقف الدم، وعدت إلى الدروس". وفضلاً عن كل تلك الأدوار التي يلعبها الحلم في النص، فإنه يمنح البطلة مساحة من الحرية بعيداً من واقع مؤلم يزدحم بالفقد، والوباء، والضغوط المجتمعية، والعبودية، والنفوس الرديئة، ليغدو وسيلة للمقاومة بقدر ما هو وسيلة للكشف.
البداوة والحداثة
ترصد الكاتبة التحولات التي طرأت على بطلتها بانتقالها من البادية إلى القرية ثم إلى المدينة. وتوازي بين تحولاتها الذاتية من الطفولة إلى الأمومة، ومن الجهل إلى الوعي، ومن الاستلاب إلى المقاومة، وبين تحولات المجتمع من البداوة إلى الحداثة.
وفي مقابل ما ترصده من تحولات تستدعي الموروث الشعبي من العادات والتقاليد والأعراف، فتتعرض لما كان معهوداً من قصر البيع والشراء بالأسواق على العبيد، وترفع الأحرار عنه، وامتناع الشعراء عن الإفراط في الغزل كيلا يلحق بهم العار، والأنف من مناداة العبد إلا باسمه الصريح، لا باسم أمه ولا أبيه.
وتوثق موروثاً من التطير والاعتقاد بالجن والحسد والفأل، وموروثاً من الطب الشعبي والتداوي بالكي وبأنواع من النباتات والأعشاب. ولا يقتصر استحضار الموروث على الجوانب الاجتماعية فحسب، بل توثق البشر تاريخاً من الصراع بين القبائل، والصراع مع الأوبئة وهجمات الجراد والبيئة القاسية، وصولاً إلى صراع الأفكار الذي مثل أهم تحديات العبور نحو الحداثة. ويعكس هذا الحضور للموروث وتاريخ النزاعات مغزى النص في التمسك بالهوية من جهة، ومساءلة التراث ومواجهته من جهة أخرى.