Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في معنى العودة اليوم إلى الفيلسوف الألماني كانط والذات العارفة

هل من حدود نهائية يمكن أن نرسمها للعقل البشري أو أداة التفكير الأولى؟

الفيلسوف الألماني كانط (موقع فلسفة )

ملخص

هل من حدود نهائية يمكن أن نرسمها للعقل البشري أو أداة التفكير الأولى؟

لا ريب في أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) أشعل ثورة فلسفية قلبت المقاييس رأساً على عقب، إذ تناول مباشرة أداة التفكير الأولى، أي العقل، ورسم حدوده المعرفية الذاتية، قبل أن يبني عمارة فكرية تزينت بأشد الأفكار جرأة وأصالة. من جراء إصراره على نقد آلة المعرفة، دعيت أنظومته بالنقدية المعرفية التي تجعل العالم يتمحور حول الذات العارفة. ذلك بأن الكائنات والموجودات والأشياء التي تكتنفنا في العالم لا يمكننا أن ندركها في جوهر حقيقتها، بل في قرائن انفطار الذات العارفة على شرطي أو قانوني المكان والزمان. ومن ثم، كل معرفة إنسانية ينبغي أن تنطلق من الذات، أي من بنيتها القائمة قبل المعرفة، ويدعوها كانط البنية القبلية الاقتضائية السابقة أو، بعبارة فلسفية تقنية، البنية الترانسندنتالية. من خصائص هذه البينة أنها تقترن بما انفطر عليه الإنسان من طبيعة كيانية نسبية تعرف العالم وفقاً لقوانينها الخاصة. استناداً إلى القاعدة الجوهرية هذه، يمكننا أن نستوعب مقاصد المشروع النقدي الكامل الذي بناه كانط بتأن، ولم يبدأ بنشره إلا في سن الـ57.

الانتظام المسلكي الحياتي المذهل

ولد كانط في مدينة كنيغسبرغ في مقاطعة بروسيا الشرقية، وفي المدينة عينها هذه أمضى حياته كلها، فلم يغادرها إلا لفترات وجيزة من أجل التعليم في مناطق شتى من المقاطعة نفسها. الحقيقة أنه كان يلازم مدينته وحارته ومنزله ملازمة منتظمة جعلته يقف بنفسه على خدمة الفلسفة التي نذر حياته لها. أما الخلفية الثقافية التي انتمى إليها، فتجلت في ركونه إلى المذهب التقوي الذي كان يروم أن يجدد الكنيسة البروتستانتية اللوترية من الداخل بواسطة تحرير النفوس المسيحية من التشدد العقائدي والتصلب الفكري. اعتنق هذا المذهب بفضل والدته التي كانت تحثه على اختبار الإيمان فعلاً وجدانياً ذاتياً يشعر به المؤمن في صميم وعيه المستنير بالحضور الإلهي.

كان والده رجلاً باراً صالحاً مستقيماً يزاول صناعة الجلود السروجية، أما والدته فكانت امرأة تقية محافظة أنجبت 13 ولداً، وتوفيت حين كان كانط في الـ13 من عمره. شهادته فيها من أنصع الأقوال البنوية: "لن أنسى والدتي أبداً، إذ إنها زرعت في بذار الخير الأول وأنمتها. ففتحت قلبي على مآثر الطبيعة، واستثارت في الأفكار ووسعتها. فكان لتعاليمها في حياتي كلها الأثر الخلاصي الذي ما برح فاعلاً فيها".

المسيرة الجامعية الفذة

بعد الانتهاء من المرحلة المدرسية، دخل عام 1740 كلية الفلسفة في جامعة كنيغسبرغ، وحصل على تنشئة فلسفية متأثرة بميتافيزياء الفيلسوف الألماني كريستيان ڤولف (1679-1754)، وعلى زاد معرفي علمي مستقى من فيزياء نيوتون (1643-1727). بعد وفاة والده، اضطر إلى التدريس لكي يعيل إخوته. اجتهد حتى أنهى إعداد أطروحتي الدكتوراه الأولى "تجديد شرح مبادئ المعرفة الميتافيزيائية الأوائل" والثانية "شكل العالم الحسي والعقلي ومبادئه" التي أهلته لرتبة الأستاذية. في هذه الأثناء، كان قرأ أعمال الفيلسوف البريطاني التجريبي ديڤيد هيوم (1711-1776) الذي أنقذه من سباته الدوغمائي. في الأطروحة الثانية هذه، أعلن أن كل معرفة مشروطة بما انفطرت عليه حساسيتنا من ائتمار بقانوني المكان والزمان.

ابتدأ مسيرته الجامعية في عام 1755 مدرساً في جامعة كنيغسبرغ على رتبة معلم خاص (Privat-docent) يستحصل على أجره التعليمي من الطلاب أنفسهم. وما لبث أن عين في عام 1770 أستاذاً أصيلاً في الجامعة عينها. في أثناء تعليمه الجامعي، كان يحرض طلابه على إتقان فن التفكير الذاتي: "يجب ألا نلقن الأفكار، بل أن نعلم فن التفكير. يجب ألا نحمل الطالب على كتفينا، بل أن نرشده لكي يصبح قادراً على المشي بقوته الذاتية". تناول في تعليمه مواضيع تدريسية شتى تتصل بالميتافيزياء ونظرية المعرفة والأخلاق والأنتروبولوجيا والتربية والسياسة واللاهوت والرياضيات والفيزياء والجغرافيا الفيزيائية. فأنشأ أبحاثاً متنوعة نشرها في هذه الحقول. ومن ثم، أكب على نشر أعماله النقدية التي تناولت ملكات الإدراك الأساسية: "نقد العقل المحض"، و"نقد العقل العملي"، و"نقد ملكة الحكم"، و"الدين في حدود العقل المجرد"، و"أسس ميتافيزياء الأخلاق"، و"الأنتروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية"، و"في السلام الدائم"، و"ما الأنوار؟"، و"خواطر في التربية".

التبتل الفلسفي

عانى كانط مشكلات صحية شتى بسبب ضعف بنيته الجسدية، فأدرك باكراً أن عليه أن يستثمر وقته استثماراً فطناً حتى ينتج أعظم قدر من الأفكار التي كانت تختمر في ذهنه. ففرض على نفسه نظاماً صارماً من العمل التأليفي، وضحى بملذات الحياة حتى ينهي القسط الأعظم من مشاريعه الكتابية. اضطرته الوضعية النضالية هذه إلى الاقتصاد حتى في تنزهه الذي عقده وفقاً لميقات شديد الانتظام لم يغيره إلا في الأحوال الطارئة، ومنها متابعة أخبار الانتصار الذي أنجزته جيوش الثورة الفرنسية عام 1792 في مدينة ڤالمي (مقاطعة المارن، شمال شرقي فرنسا) بعد أن دحرت الغزاة الألمان البروسيين.

لم يتزوج ولم يبن أسرة، بل اكتفى بعلاقات الود التي عقدها مع أصدقائه، ومنهم الصديق الوفي الطبيب ماركوس هرتس الذي راسله بانتظام، فأتاحت لنا هذه المراسلات أن نطلع على نظام حياته المتقشفة وعلى آلام الصداع الرأسي الذي كان يعانيها متجلداً متصبراً حتى ينهي رسالته الفلسفية. بعد أن تقاعد، واصل الكتابة حتى انهارت قواه، فلم يقو على إعادة النظر في أنظومته، وكان عقد العزم على استعادة كل ما كتبه وتطويره. في السنة الأخيرة من حياته فقد نظره واختلت ذاكرته. فانطفأت شعلته في عام 1804، ولسان حاله يردد: "حسن". احتشد أهل مدينته في جنازته ورافقوه إلى مثواه الأخير في مدافن حصن الكاتدرائية.

التأثر الفلسفي في بناء الأنظومة النقدية

يجمع العارفون على استجلاء المصادر الفلسفية والعلمية التي أثرت في بناء عمارة كانط الفلسفية. التأثر الأول أتاه من فكر لوتر (1483-1546) الإصلاحي الذي جعل الإيمان وثبة حياتية وجودية يستحيل تسويغها تسويغاً نظرياً. ذلك بأن التسليم بحقائق الإيمان فعل إرادي محض لا يستند إلى أي مسوغ عقلي. لذلك استطاع كانط أن يستنقذ حقائق الميتافيزياء الأساسية، عنيت بها الحرية وخلود النفس ووجود الله، من بعد أن أبطل كل معرفة ميتافيزيائية. هذا في الجانب الميتافيزيائي المتأثر بفكر لوتر اللاهوتي. أما في الجانب الأخلاقي فأثر كانط عن المصلح البروتستانتي حرية الضمير الذاتي، وجعلها أساس فلسفته النقدية الأخلاقية. ذلك بأن اللاهوت البروتستانتي يبيح للمؤمن أن يفسر الكتاب تفسيراً حراً من غير الخضوع لأحكام الكنيسة والسنة الآبائية. ومن ثم، استثمر كانط الحدس الفتاح هذا في حقل التأصيل الأخلاقي، فرسم أن الضمير مستقل لا يخضع إلا للقوانين التي يسنها بنفسه لنفسه.

التأثر الثاني أصابه من ميتافيزياء كريستيان ڤولف التي نقدها نقد الميتافيزياء العقائدية الأساسية، ويقينه أنها تستدل على الحقائق من غير أن تتفحص إمكانات الأداة المعرفية المستخدمة، أي العقل عينه. ضلال هذه الميتافيزياء أنها تدعي معرفة جوهر الكينونة بواسطة العقل المحض من غير الاستعانة بالاختبار. لو تسنى لڤولف أن يستقصي إمكانات هذا العقل، لوجد أنه عاجز عن معرفة كينونة الكائنات معرفة قبلية. غير أن كانط استفاد من ميتافيزياء ڤولف، إذ أيقن أن الميتافيزياء، إذا شاءت أن تصون دعوتها، ينبغي أن تكون قبلية، أي غير مستندة إلى الاختبار الحسي. لذلك لا يستطيع العقل، في الطور الأول من المعرفة الحسية، أن يمهد لبناء ميتافيزياء صلبة، إذ إن معارفه مشروطة برسوم المكان والزمان.

انعقد التأثر الثالث بفضل مبادئ نيوتن العلمية التي تقوم عليها الرياضيات. من أسباب نجاح العلم في شرح المادة والظواهر المقترنة بها أنه يستثمر قواعد الرياضيات في تفسير ظواهر الطبيعة. بما أن هذه الظواهر متغيرة، فإن العقل يبتكر قوانين ضرورية تستطيع أن تضبط حركة الطبيعة. ومن ثم، يتبين أن العقل يهب الوقائع المادية معقولية منضبطة، في حين أن هذه الوقائع تمنح الفكر مضمونه المعرفي. من الواضح أن هذه الخلاصة توجز عصارة فلسفة كانط النقدية، إذ إن نظريته المعرفية تقوم على التعاون الناشط بين الصورة الذهنية، أي أحكام الذات العارفة، والمادة المبعثرة المبثوثة في الطبيعة.

لا بد من ذكر التأثر الرابع الذي نجم عن قراءة أعمال هيوم، وعاين فيها كانط خلاصة المذهب الشكي الذي يحصر المعرفة في الظواهر. ومع أن النقد الكانطي يوافق على مثل هذا الحصر، إلا أن تعطيل هيوم مبدأ السببية يزعزع العمارة النقدية الكانطية برمتها، إذ يهدم العلم الذي يقوم على القوانين الضرورية، وينقض الأخلاق التي تستند إلى الواجب القطعي غير المشروط. لذلك اجتهد كانط في تجاوز الانسداد الذي أفضت إليه ريبية هيوم.

أما التأثر الخامس فأدركه من جراء شغفه بأفكار الأديب الفيلسوف الفرنسي روسو (1712-1778) الذي عاين فيه "نيوتن العالم الأخلاقي". فضلاً عن أفكار المساواة والعقد الاجتماعي، استقى كانط من فلسفة روسو الشعورية التي تعبر عنها نصوص الأديب الوجدانية، لاسيما في اعترافات كاهن الساڤوا الذي يضع الضمير الأخلاقي في مقام المطلق الهادي وأصل الحقائق الميتافيزيائية وقاعدة المسلك الوحيدة. لا ريب في أن أبلغ ما نقله كانط عن روسو الاعتصام بصفاء النية ناموساً وحيداً للأخلاق التي تسمو بمقاصدها الصالحة من غير الالتفات إلى الأفعال الإنسانية وأغراضها الملتبسة.

مشروع كانط النقدي

يمكن القول إن مسعى كانط الفلسفي برمته يقضي باستنقاذ الميتافيزياء والعلم بواسطة نقد العقل البشري الذي يبني أحكامه من غير التدقيق في شروطه المعرفية وإمكاناته الإدراكية. من أجل ذلك عقد عزمه على استجلاء مقام الذات العارفة في كل عملية معرفية. فاتضح له أن هذه الذات تعمل عملها وفقاً لبنية قبلية انفطرت عليها يمكن وصفها بالبنية الاقتضائية أو المجاوزة أو الترانسندنتالية. عوضاً عن أن تتمحور الذات حول العالم، يتمحور هذا الأخير حول الذات ويخضع لناموسها المعرفي. ومن ثم، يجدر بالمرء أن يسأل نفسه عن طبيعة عمل العقل في إدراك العالم الخارجي وأشيائه. أما الأسئلة التي يقتضيها المسعى النقدي هذا، فيوجزها كانط في أربعة: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟ ماذا يجوز لي أن آمل؟ ما الإنسان؟ السؤال الأول تجيب عنه الميتافيزياء، التي حررها كانط من إرباكات العقل النظري وربطها بمسلمات الواجب الأخلاقي. الثاني تجيب عنه الأخلاق. الثالث يتدبره الدين. الرابع تتفحصه الأنتربولوجيا.

انطلق كانط من معاينتين واضحتين: واقع العلم الضروري، وواقع الأخلاق الواجبة. فخلص إلى أن الناس يثقون بنتائج العلوم، ويركنون إلى المبادئ الأخلاقية. غير أن السؤال الذي استثارته هذه الخلاصة يتعلق بأصل هذه الثقة التي يضعها الناس في العلم والأخلاق. لا بد، والحال هذه، من النظر في طبيعة العقل عينها، إذ إن ضرورة القوانين العلمية لا تنبثق من التجربة، بل من بنية الذات العارفة التي تفرض قوانينها الذاتية على الأشياء. ليست هذه القوانين قائمة في بنية العالم الخارجي، بل ناشبة في صميم الذات عينها. لذلك لا نستطيع أن ندرك الأشياء في جوهرها، بل بحسب ما تظهر لنا خاضعة لأحكام بنيتنا الذاتية العارفة.

ما حدود عقلنا النظري؟

يميز كانط في بنية الذات العارفة ثلاث وظائف متكاملة: الحساسية (Sinnlichkeit)، والفاهمة (Verstand)، والعقل (Vernunft). لذلك يجب نقد عمل الذات العارفة في وظائفها الثلاث هذه. نقد الحساسية يسميه الإستطيقا الترانسندنتالية، إذ يستجلي بواسطته الشروط القبلية (الترانسندنتالية) التي تخضع لها الحواس. ذلك بأن الإستطيقا مشتقة من فعل يوناني يدل في أصله على الإحساس أو الشعور. نقد الفاهمة يدعوه التحليلية الترانسندنتالية، إذ يتحرى بواسطته عمل المقولات الـ12 التي تنفطر عليها الفاهمة. أما نقد العقل فيطلق عليه اسم الجدلية الترانسندنتالية، إذ يتقصى بواسطته متناقضات العقل النظري أو تكافؤ أدلته. إذا أردنا أن نفهم مشروع كانط النقدي، كان علينا أن ندرك كيف نقد كل وظيفة من الوظائف الثلاث هذه بحسب منهجه المثالي الذي يربط المعرفة ببنية الذات العارفة.

نقد وظيفة العقل الأولى: الحساسية

لنبدأ بالحساسية والمعطيات التي تنطبع في حواسنا انطباعاً مختلف الأشكال. في المرحلة الأولى هذه من المعرفة تكتفي الذات، على مستوى الحساسية، باقتبال معطيات الحواس اقتبالاً يخضع لما يسميه كانط الشكلين أو القانونين القبليين الناشبين في بنية الذات: المكان والزمان. جميع مواد المعرفة تنسلك حتماً في قرائن المكان والزمان. كل ما يتجاوز هذه الحدود لا يخضع لناموس المعرفة. وعليه، يتضح لنا أن القضايا الميتافيزيائية الماورائية الغيبية تخرج من دائرة المعرفة العقلية. لا يعني هذا الأمر أن كانط يرفضها رفضاً قاطعاً، بل يدل على أنه لا يعدها من نطاق عمل العقل النظري. من الضروري التذكير بأن المكان والزمان ليسا جوهرين منفصلين أو خاصيتين من خصائص الأشياء الخارجية، بل شرطان مقترنان ببنية الذات الإنسانية العارفة. المكان شكل الحواس الخارجية، في حين أن الزمان شكل الحس الداخلي، أي شكل الوعي أو الحدس الذي نفوز به حين نتأمل في أحوالنا الجوانية. أما كيف ندركهما وندرك أثرهما في ضبط انطباع المعطيات الحسية، فإن كانط يلجأ إلى عبارة الحدس المحض الذي يؤهلنا لنتدبرهما تدبراً تلقائياً مباشراً من غير وساطة التجربة الخارجية.

من حسنات نقد وظيفة الحساسية في العقل أنه يسوغ الرياضيات التي تنظر نظراً محضاً في الأشكال والأعداد، وتنطبق انطباقاً تجريبياً على التجربة. شأنها شأن الأحكام التركيبية القبلية التي تغني المعرفة بتركيبيتها وتلتزم الموضوعية والإصابة العلمية بفضل طبيعتها الاقتضائية الضرورية الترانسندنتالية. في هذا السياق، يجدر التذكير بالتمييز الذي أنشأه كانط بين الأحكام التحليلية القبلية والأحكام التركيبية التجريبية. التحليلية مبنية على مبدأ عدم التناقض، تبين لنا أن الأجسام منبسطة في المدى وأن المثلث له ثلاثة أضلاع. مثل هذه الأحكام لا تغني المعرفة، بل تصف الوقائع كما هي. التركيبية مستندة إلى التجربة التي تزودنا بعض المعارف بواسطة المعاينة. المشكلة تنشأ من الأحكام التركيبية القبلية، إذ إن العلوم ازدهرت بفضل هذه الأحكام. في الرياضيات المعادلات قبلية، إذ إنها ضرورية اقتضائية، وفي الوقت عينه تجريبية، إذ إنها تساهم في تقدم المعرفة. حين نعلن أن الخط المستقيم أقصر طريق من نقطة إلى أخرى، نصدر حكماً تركيبياً لأن مفهوم الاستقامة النوعي لا يتضمن مفهوم القصر الكمي. لذلك كان هذا الحكم حكماً تركيبياً. في الوقت عينه أثبت ضرورته العلمية وجدارته. كذلك الأمر في الفيزياء، إذ ينطوي مبدأ السببية على جزأين: كل ما يحدث إنما يحدث لعلة. من الواضح أن مفهوم الحدوث غير مفهوم العلية. لذلك كان هذا الحكم حكماً تركيبياً. ولكنه حكم اقتضائي ضروري برهن صلاحيته برهاناً قاطعاً.

ومن ثم، يرسم كانط أن ازدهار العلوم يقترن باستنادها إلى الأحكام التركيبية القبلية، في حين أن الميتافيزياء تقوم على أحكام قبلية ينتمي فيها الحامل والمحمول إلى الحقل المفهومي الواحد. فلا تتقدم المعرفة الفلسفية من جراء عقم الأحكام التحليلية القبلية. إذا أردنا أن نجعل الفلسفة والعلوم الإنسانية تنمو وتزدهر، كان علينا أن نبنيها على قاعدة الأحكام التركيبية القبلية. وهذا ما أنجزه كانط في استجلاء الحدس القبلي الذي ينطوي عليه قانونا المكان والزمان، إذ إنهما يجعلان الذات تضبط معطيات الحساسية وتسوقها إلى الفاهمة.

نقد وظيفة العقل الثانية: الفاهمة

على مستوى الفاهمة يتدبر العقل هذه المعطيات الممنوحة. في الحساسية تنطبع المعطيات فينا، في الفاهمة ننظمها ونرعاها ونتفكر فيها. ولكن ما الذي يجعل الفاهمة، أو وظيفة العقل الثانية، قادرة على معالجة معطيات الحساسية؟ لنفترض أني دخلت غرفة وعاينت فيها كتلة من الطاولات والكراسي والألواح. للوهلة الأولى تنطبع معطيات الأغراض هذه في حواسي. ولكني لن أفوز بمعرفتها معرفة دقيقة ما دمت لم أنقلها إلى مستوى الفاهمة التي تنطوي على 12 مقولة فطرية عفوية تلقائية مزروعة في بنية عقلي الأصلية تساعدني في إنجاز المعرفة المطلوبة. على سبيل المثال، مقولة الكمية تؤهلني لكي أحصي، في حين أن مقولة النوعية تتيح لي أن أصف، ومقولة الكيفية تجعلني أربط بين وضعيات الطاولات والكراسي والألواح ربطاً منطقياً يستجلي الفائدة المنشودة من انبساط هذه الأغراض في الامتداد. وهكذا دواليك في وظيفة المقولات التسع الباقية.

في قسم التحليلية الترانسندنتالية التي تعالج وظيفة العقل الثانية يبين لنا كانط أن الفاهمة لا تبتكر مادة المعرفة، إذ إنها لا تستند إلى حدس عقلي خلاق. وظيفتها الوحيدة أن تعالج معطيات الحساسية المنقولة إليها في حدود المكان والزمان. ولكن ما الذي يجعل هذه المقولات الخالصة المنبثقة من بنية ذاتنا العقلية تلائم طبيعة المعطيات الحسية الناشئة من حقل التجربة؟ كيف يفرض العقل ناموسه على الطبيعة وعلى الأشياء الخارجية؟ لا يناقش كانط مسألة حصر المقولات في عددها هذا. ولكنه يجتهد في تسويغ ضرورة هذه المقولات وارتباط معطيات الحساسية بها. ذلك بأن الظواهر التي لا تتدبرها الفاهمة في مقولاتها تظل ظواهر ذاتية تنقصها سمة الموضوعية. وحدها المقولات تمنح اختباراتنا الحسية موضوعيتها المطلوبة. المقولات ضمانة الموضوعية. من دونها يسقط الناس في صراع الانطباعات الذاتية التي لا تليق بالحقيقة الموضوعية. إذا دخل إنسان آخر الغرفة عينها وأحصى إحصاء مختلفاً، فإن الناس سيعجزون عن الإحصاء في مطلق الأحوال. لذلك تساعدنا مقولة الكمية في إحصاء موجودات الكون إحصاء موضوعيا صائباً. تخيلوا أن كل إنسان يحصي على هواه. فما عسانا نفعل بالتباينات الإحصائية المدمرة هذه!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تبقى مسألة دقيقة عالجها كانط في تحليلية الفاهمة، عنيت بها الوساطة التي تنشأ بين الظواهر الحسية الآتية من التجربة، والمقولات القبلية المنتمية إلى بنيتنا العقلية. يستكشف كانط صلة وسطية يسميها الترسيمية أو التخطيطية (Schematismus)، ويعرفها بأنها فن طبيعي عفوي مزروع في أعماق النفس الإنسانية تقوم وظيفته على التوسط بين الحسيات (الظواهر) والعقليات (المقولات). فيؤكد أن الترسيمية وظيفة في الفاهمة تتيح للأفاهيم المجردة أن تقترن بالزمان اقتراناً يمكنها من ضبط معطيات الحساسية وتنظيمها وترتيبها.

خلاصة القول إن وظيفة الحساسية ووظيفة الفاهمة متضامنتان متكافلتان، إذ إن الحساسية عمياء من دون الفاهمة التي تنظم المعطيات، والفاهمة خاوية من دون معطيات الحواس التي تتلقاها. أما الخلاصة الأخطر فترسم أن المعرفة تقف عند حدود عمل الفاهمة. في القسم الثالث الذي يعالج وظيفة العقل بحد ذاته (الجدلية الترانسندنتالية)، ليس من معرفة جديدة على الإطلاق، إذ إن المعرفة مقتصرة على معطيات الحساسية، وقد تدبرتها الفاهمة بواسطة مقولاتها. ولكن ما وظيفة العقل النظري؟

نقد وظيفة العقل الثالثة: الأفكار الذهنية الثلاث

يعلن كانط في صريح العبارة أن معرفتنا تبدأ بالحواس، ومنها تمر على الفاهمة، قبل أن تنتهي إلى العقل الذي لا مرتبة فوقه على الإطلاق. فالعقل مصنع الوحدة المعرفية الأعلى، إذ يهب المعارف المنتظمة في الفاهمة وحدتها الأرسخ والأرفع بواسطة المبادئ الناظمة أو الأفكار الموحدة. ليس للعقل النظري أي اتصال بالتجربة، بل يقتصر عمله على ضمان وحدة أحكام الفاهمة. ومن ثم، يستجلي كانط ثلاث أفكار ناظمة هادية أساسية: الفكرة التي تضمن وحدة الذات المفكرة العارفة، والفكرة التي تضمن وحدة الظواهر المنبسطة في العالم، والفكرة التي تضمن وحدة الذات والعالم. بعبارة أوضح، لا بد من مبدأ يضمن وحدة الاختبارات الجوانية التي تنجزها الذات الإنسانية. فالأنا يحتاج إلى وصال عميق يجعله يدرك ذاته في جميع الأحوال التي يختبرها منذ الولادة حتى الممات، بحيث يظل الإنسان إياه على تعاقب الأحداث والاختمارات والاكتسابات والإنضاجات. كذلك يحتاج الإنسان إلى وصال عميق يربط بين الاختبارات الخارجية التي تتناول الظواهر المختلفة المنبسطة في أرجاء العالم. أما الوصال الذي يضمن علاقة الذات بالعالم فيحتاج إلى مبدأ ناظم ثالث. وعليه، يعرف كانط النفس بالفكرة التي تضمن وحدة اختبارات الإنسان الداخلية في صميم الذات، ويعرف العالم بالفكرة التي تضمن وحدة اختبارات الإنسان الخارجية في منبسط العالم، ويعرف الله بالفكرة التي تضمن وحدة الإنسان والعالم.

من أخطر خلاصات التحليل الناشط في الجدلية الترانسندنتالية المتعلقة بنقد وظيفة العقل الثالثة أن الأفكار الثلاث أو المبادئ الثلاثة ليست جواهر قائمة في حيز منعزل عن ذهن الإنسان، بل ينشئها العقل إنشاء نظرياً لكي يضمن مبدأ الوحدة في الاختبارات المعرفية كلها. لا يجوز لنا أن نبرهن وجودها الفيزيائي خارج ضرورات العقل التوحيدية، وذلك حتى لا نسقط في ما يدعوه كانط الوهم الترانسندنتالي. يجدر بالذكر هنا أن كانط عاد إلى إثبات وجود الله واستخراج ضرورة خلود النفس والتحقق من مبدأ الحرية بواسطة التأمل في مسلمات العقل الأخلاقي الذي لا يستقيم نشاطه إلا بالاعتماد على الحقائق الثلاث هذه.

نقد الميتافيزياء العقلية

أما أصل الوهم الترانسندنتالي هذا فناشب في طبيعة الذهن البشري الذي يميل ميلاً فطرياً إلى الميتافيزياء، أي إلى الماوراء والغيب والتعالي المفارق. لذلك كان لا بد لكانط في نقد العقل النظري من أن يناهض الميتافيزياء العقائدية التي تستغل الميل الماورائي هذا لكي تنسب إلى الأفكار الذهنية الموحدة الثلاث هذه وجوداً جوهرياً قائماً بحد ذاته. وهم القول بالنفس جوهراً قائماً بمعزل عن ضرورة فكرة النفس الناظمة يفضي إلى الضلالات التي وقع فيها دكارت على سبيل المثال حين انتقل من فعل التفكير (cogito) إلى افتراض جوهر الكائن المفكر (res cogitans)، أي النفس. وهم القول بالعالم جوهراً قائماً بمعزل عن ضرورة فكرة العالم الناظمة يفضي أيضاً إلى التناقضات التي تجعل الناس يستطيعون أن يبرهنوا في الوقت عينه على تناهي العالم ولاتناهيه، على الحرية الهادية أو على السببية الحتمية في مسار العالم، على بساطة العناصر التي يتكون منها العالم أو على تعقدها وتجزئها. وهم القول بالله جوهراً قائماً بمعزل عن ضرورة فكرة الله الناظمة يفضي إلى تكافؤ الأدلة في البرهان على وجود الله والبرهان على عدم وجوده. ذلك بأن كانط يؤكد أن العقل لا يستطيع بقوته الذاتية أن يبرهن على الوجود الإلهي. لا بد من سبيل آخر غير العقل النظري من أجل التثبت من السماء المرصعة بالنجوم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة