ملخص
بعد اغتيال الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله، لم تثأر إيران على رغم حجم الضربة التي تلقتها باغتياله. فيما وجد الحزب نفسه في وضع أقرب إلى إدارة جماعية باهتة، تدار عبر مجلس الشورى وبتوجيه مباشر من طهران، من دون أن تنجح في استعادة الزخم الـ"كاريزماتي" الذي كان يختصره الأمين العام السابق. ومع مرور الوقت، أخذت صورة الحزب تتآكل تدريجاً من قوة صلبة متماسكة، إلى كيان مترهل تحكمه البيروقراطية، ويعيش على إرث زعيم راحل أكثر مما يعيش على قدراته الحالية.
عام مر على اغتيال الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله، لكنه يبدو أطول بكثير، وكأن الزمن تمدد ليحمل معه تحولات أعمق من مجرد غياب شخصية محددة. فالرجل الذي شكل طوال أكثر من أربعة عقود ركيزة الحزب وواجهة محور إقليمي تقوده طهران ومظلة تعبئة قادرة على جمع الأجنحة المتباينة تحت شعار واحد، رحل تاركاً فراغاً تحول إلى شق يتسع يوماً بعد يوم في جدار الحزب والمحور معاً.
اغتيال نصرالله لم يكُن ضربة لشخصه وحسب، بل بداية تفكك بنيوي لحزب بني على حضوره الـ"كاريزماتي" وقدرته على توحيد المتناقضات تحت راية واحدة. ومع مرور عام على الحادثة، يتضح أن موت الرجل عجل بانحلال كيان صمد أكثر من 40 عاماً، وأطلق أيضاً مسار تآكل لمحور إقليمي نشأ منذ أن بدأت إيران تمددها في الإقليم. وما كان يسوق على أنه جبهة صلبة لـ"محور الممانعة" صار اليوم أقرب إلى أطراف مبعثرة، تفتقد الرابط الرمزي الذي كان يمسك بخيوطها.
من هنا، فإن الحزب الذي ورث تاريخه العسكري والسياسي عن زعيمه الراحل، دخل في مرحلة موت بطيء وقرارات بيروقراطية وقيادة جماعية بلا بريق وتراجع تدريجي في الهيبة والفاعلية. بهذا المعنى، لم تكُن سنة الاغتيال مجرد ذكرى، بل نقطة تحول كبرى، سنة واحدة اختزلت عقوداً من القوة والسطوة، وحولتها إلى مسار انحدار متسارع.
ماذا حدث ومتى؟
حيكت روايات عدة عن اغتيال نصرالله، وظهرت تقارير غالبيتها إسرائيلية شرحت خلفيات الحادثة وتوقيتها. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، نشر موقع "والا" الإسرائيلي تفاصيل عن عملية الاغتيال، بعدما رفعت السرية عنها، وكشف التقرير حينها عن هوية الضابط في الجيش الإسرائيلي الذي كان وراء رصد تحركات نصرالله والمشاركة في تنفيذ عملية اغتياله. الضابط الذي عرف بالرائد "جي"، اسمه الحركي، ويبلغ من العمر 29 سنة، كان يعتبر أحد المقربين من نصرالله بطريقة لم يكشف عنها بالتفاصيل. وبحسب تقارير إسرائيلية، فإن ملاحقة نصرالله بهدف اغتياله بدأت بعيد حرب 2006، لكن القرار السياسي لم يتخذ حيال ذلك في حينه.
وقبل أيام، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" تقريراً تضمن تفاصيل جديدة عن عملية الاغتيال، وفيه أن عملاء "الموساد" زرعوا أجهزة متطورة قرب المخبأ السري لنصرالله تحت غطاء قصف جوي كثيف، وأن ذلك وقع أثناء الغارات التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي على معاقل "حزب الله" في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال سبتمبر (أيلول) عام 2024. وتسلل حينها عدد من عناصر "الموساد" إلى حارة حريك وهم يحملون حزماً مجهزة بعناية فائقة. وكان العناصر على دراية تامة بخطورة المهمة وأن أي خطأ قد يكلفهم حياتهم، كما أن ضبط الأجهزة التي يحملونها كان سيؤدي إلى ضرر أمني كبير لإسرائيل. وأوضحت المعلومات الاستخباراتية التي وصلت إلى تل أبيب أن نصرالله كان حدد لقاء هناك مع قائد قوة القدس الإيرانية في لبنان الجنرال عباس نيلفروشان ومع قائد الجبهة الجنوبية للحزب علي كركي.
وكان من المقرر أن يلتقي الثلاثة في مخبأ يعرف بوجوده أشخاص محددون، بينما كان يفترض أن يضع عناصر "الموساد" الأجهزة في المواقع المقررة مسبقاً، وكانت احتمالات العودة سالمين تقدر بـ 50 في المئة، إذ حتى في حال عدم اعتقالهم، كان هناك احتمال كبير أن يتعرضوا لشظايا القنابل التي أسقطها سلاح الجو.
عملية "النظام الجديد"
أتى يوم الـ27 من سبتمبر 2024، نفذت إسرائيل عملية الاغتيال وقتل حسن نصرالله في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. العملية التي أطلق عليها الإسرائيليون اسم "النظام الجديد"، نفذت بينما كان كبار ضباط "حزب الله" في المقر ويشاركون في تنسيق العمليات ضد إسرائيل، بحسب تقارير إسرائيلية نشرت حينها. وبدأ الهجوم بعد إسقاط طائرات سلاح الجو الإسرائيلي 80 قنبلة خارقة للتحصينات من نوع "هايفي هايد" MK84 تزن الواحدة منها طناً، فيما القنبلة قادرة على اختراق التحصينات بعمق يراوح ما بين 50 إلى 70 متراً تحت الأرض. أما الوحدة التي نفذت العملية، فهي "الوحدة 119" في سلاح الجو بالجيش الإسرائيلي المعروفة باسم "بات"، فيما الطائرات التي نفذت الهجوم هي طائرات "إف- 15".
الحزب بعد نصرالله
كان لاغتيال نصرالله أثر كبير على "حزب الله"، وبغيابه وجد الحزب نفسه في وضع أقرب إلى إدارة جماعية باهتة، تدار عبر مجلس الشورى وبتوجيه مباشر من طهران، من دون أن تنجح في استعادة الحال القيادية التي كانت موجودة في السابق. ومع مرور الوقت، أخذت صورة الحزب تتآكل تدريجاً من قوة صلبة متماسكة، إلى كيان مترهل تحكمه البيروقراطية، ويعيش على إرث زعيم راحل أكثر مما يعيش على قدراته الحالية.
لماذا لم تقدم إيران على "ثأر مباشر"؟
على رغم كبر الضربة التي نفذت باغتيال نصرالله وتأثيرها في الحزب و"محور الممانعة" في آن واحد وعمق الضربة التي تلقتها إيران باغتياله، فضلت الأخيرة التريث وعدم الانتقام المباشر، مدركة أن أي رد مفتوح سيجرها إلى مواجهة شاملة لا تملك ترف الدخول فيها بعد سلسلة من الضربات الإسرائيلية الموجعة لمقدراتها النووية والصاروخية.
ومع أن طهران رفعت سقف التهديدات عقب اغتياله، فإنها لم تقدم على انتقام مباشر يعادل حجم الضربة. والتريث الإيراني كان انعكاساً لمعادلة معقدة، ضغوط دولية كثيفة وهشاشة في الداخل بعد ضربات إسرائيلية موجعة استهدفت البنية النووية والصاروخية وحسابات استراتيجية تدرك أن أية مواجهة مفتوحة مع إسرائيل قد تعني تدمير ما بقي من نفوذها الإقليمي. وهكذا، بدا الصمت الإيراني، أو الاكتفاء بالرد عبر الوكلاء، أشبه باعتراف غير معلن بأن ثمن الحرب الشاملة يفوق القدرة على الاحتمال، علماً أن حرب الـ 12 يوماً بين طهران وتل أبيب، أو عملية "الأسد الناهض" التي نشبت في الـ13 من يونيو (حزيران) الماضي، اغتالت إسرائيل خلالها عشرات القادة العسكريين الكبار، على رأسهم رئيس الأركان محمد حسين باقري وقائد الحرس الثوري حسين سلامي، فضلاً عن قائد مقر "خاتم الأنبياء" علي شادماني بعد أيام قليلة على تعيينه وغيرهم العشرات. كما قضت إسرائيل على أكثر من 17 عالماً عبر استهداف منازلهم بغارات جوية أو مسيّرات، وسيارات متفجرة.
من هنا ووفقاً لتقديرات متقاطعة، فإن تلك الحرب "القصيرة" كبدت إيران أضراراً حساسة، وأجبرتها لاحقاً على إعادة البناء في مواقع صاروخية رئيسة. وفي ظل هذا الواقع، يصبح "الثأر المباشر" عالي الأخطار. وربما لا يحسب النظام الإيراني خسارة اغتيال نصرالله بميزان الدم والخسارة القيادية، بل بميزان الرمزية والشرعية، وهو ميزان لا يعوض بسهولة.
منطق "الحرب بين الحروب" عبر الوكلاء
تقوم العقيدة الإيرانية المعلنة على تعظيم "العمق الاستراتيجي" عبر شبكات وكلاء من بينها "حزب الله" والحوثيون وفصائل عراقية وسورية يديرها "فيلق القدس"، أي إن الردود المفضلة تكون بالوكالة وغير منسوبة مباشرة لطهران. في السياق كان المرشد الأعلى علي خامنئي وخلال كلمة متلفزة، أعلن أن "حزب الله باقٍ ولا يستهان به ولا يجب التغافل عن هذه الثروة، فهو ثروة للبنان ولسواه".
من هنا فإن اغتيال نصرالله كان ضربة رمزية ونفسية قاسية، لكن رداً إيرانياً مباشراً ومعلناً سيعرض النظام لمواجهة مفتوحة أميركية وإسرائيلية ومع المجتمع الدولي ككل، وهو لا يزال في حال إعادة تموضع. لذلك ربما تكون طهران تتجنب مقامرة قد تفضي إلى ضربات أعمق في مرحلة استثنائية، ورجحت خيار الاستنزاف المتدرج عبر الساحات، مع إبقاء إيران نفسها تحت عتبة الحرب الشاملة.
وإسرائيل لم تستهدف نصرالله فقط، بل أتت سلسلة اغتيالات سبتمبر وأكتوبر (تشرين الأول) عام 2024 لتقضم طبقات القيادة والسيطرة، مما قلص من قدرة الحزب ومعه "المحور" على تنفيذ رد مدروس عالي الأخطار في توقيت قصير، ورفع كلفة أي تصعيد غير محسوب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يدير "حزب الله" فعلياً اليوم؟
في الواجهة التنظيمية، وبطبيعة الحال يأتي الأمين العام الجديد نعيم قاسم، وهو تاريخياً يعتبر "العقل التنظيمي" و"المنظر"، ويتولى اليوم إعادة لملمة مفاصل الحزب السياسية والدينية والإعلامية.
وتحدثت تسريبات إعلامية خلال الفترة الأخيرة عن إعفاء مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وأحد أبرز وجوه الحزب الأمنية والسياسية وفيق صفا من مهماته، مما أطلق موجة إرباك داخل "حزب الله" لا تقل خطورة عن وقع الضربة الخارجية، فصفا ليس مجرد مسؤول ميداني، بل "العقل الشبكي" الذي يدير خطوط الاتصال المعقدة بين الحزب والدولة اللبنانية، وبين الحزب وأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، وغيابه أو حتى مجرد الإيحاء بإبعاده، يكشف عن حجم الأزمة العميقة التي يعيشها الحزب منذ اغتيال نصرالله، أي أزمة ثقة داخلية وإرباك في آلية اتخاذ القرار وتنازع خفي بين مراكز القوى.
وإشاعة إبعاد صفا في هذا التوقيت، سواء كانت صحيحة أو مقصودة كرسالة داخلية، تؤكد أن الحزب دخل مرحلة "ارتباك استراتيجي" يتجاوز فقدان الزعيم الـ"كاريزماتي" إلى اهتزاز ركائز البنية الأمنية والتنظيمية التي شكلت لأعوام الهيكل الصلب. وبذلك، يصبح "حزب الله" أمام معادلة خطرة، تفكك تدريجي في القيادة وفقدان القدرة على ضبط روايته الداخلية وانكشاف أمام جمهور بدأ يقرأ ما يجري كعلامات انحدار لا كمرحلة انتقالية.
أيضاً تحدثت معلومات عن إعفاء المنسقة في وحدة العلاقات الإعلامية في "حزب الله" رنا الساحلي من موقعها، ولم يصدر أي بيان رسمي عن وحدة العلاقات الإعلامية يؤكد الموضوع أو ينفيه.
يقول رئيس تحرير موقع "جنوبية" الصحافي علي الأمين خلال حديث إعلامي إن الضجة التي أثيرت بعد إقالة المسؤولة بمكتب الإعلام في الحزب تعكس حال صراع القوى داخل الحزب، لكن "تحت المظلة الإيرانية"، ويلفت إلى أن "غياب نصرالله، الأمين العام السابق للحزب، جعل الجماعة من دون قيادة قادرة على اتخاذ القرارات وفرضها من دون أي اعتراض". أيضاً لم يعيّن حتى الآن نائب للأمين العام، وتشير تقارير إعلامية إلى أن الاسم الأكثر تداولاً داخل أروقة الحزب هو رئيس كتلة نواب الحزب البرلمانية النائب محمد رعد.
وعن ذلك، يعتبر المحلل السياسي علي الأمين أنه "بعد حرب الإسناد صعدت إلى الواجهة داخل الحزب وجوه سياسية تمثل جناحاً قائماً بحد ذاته، مثل محمد رعد ومحمود قماطي ومحمد فنيش في مقابل طي صفحة صفا وصلاحياته الأمنية"، ويضيف أن "الحزب يعيش صراعاً داخلياً ينقسم بين وجهتي نظر، الأولى ترفض الانصياع لقرارات الشرعية اللبنانية بتسليم السلاح، والثانية تدعو إلى التعاطي بمرونة أكثر مع الدولة وعدم التصادم مع الداخل اللبناني"، وأن "هذا الصراع ينعكس على القاعدة الحزبية ويحول دون التوجه إلى خطاب جديد".
ولكن تبقى على المستويين السياسي والأمني، أسماء محورية مثل محمد رعد ووفيق صفا للربط بين مؤسسات الحزب والبيئات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية.
نعيم قاسم بعد عام على اغتيال نصرالله
منذ توليه دور المتصدر للواجهة، سعى نعيم قاسم إلى اعتماد خطاب متوازن يطمئن جمهور الحزب ويظهر استمرارية القيادة. وخلال المقابلات والتصريحات الأخيرة، ركز على رسائل الثبات والتزام خط الحزب وتجنب الانفعالات. لكن المراقبين لاحظوا أن حضوره الجماهيري لا يزال محدوداً مقارنة بنصرالله، إذ لم ينجح حتى الآن في تحريك الشارع بالقوة نفسها التي ارتبطت باسم الأمين العام الغائب، ناهيك عن وجود تحديات داخلية وخارجية تواجهه، وهي ليست سهلة.
فداخل الحزب يواجه قاسم تحدي الحفاظ على وحدة الصف في ظل غياب القائد الذي كان يتمتع بشرعية تاريخية واسعة. وكما ذكرنا سابقاً هناك أجنحة مختلفة داخل الحزب بين جناح سياسي وآخر عسكري وديني، وكان نصرالله يوازن بينها.
أما خارجياً، فيتعين على قاسم التعامل مع ملفات حساسة أبرزها العلاقة مع إيران ومواجهة الضغوط الإسرائيلية والأميركية، إضافة إلى الحفاظ على صورة الحزب في البيئة اللبنانية التي تشهد انقسامات حادة.
وحتى الآن، يبدو أن نعيم قاسم تمكن من ضمان الاستقرار التنظيمي ومنع أي ارتباك علني داخل الحزب، وهو إنجاز في حد ذاته. لكن رمزية نصرالله الاستثنائية تجعل مهمة سد الفراغ كاملاً شبه مستحيلة في المدى المنظور. وربما ينجح قاسم في ترسيخ صورته القيادية تدريجاً، لكن الأمر يتطلب وقتاً وحضوراً ميدانياً وإعلامياً متراكماً ليقترب من مستوى التأثير الذي مارسه نصرالله لعقود.