Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواد المقهى السوري المهجور في مسرحية "جورة"

المخرج سامر عمران اتكأ على نصوص سعد الله ونوس وبيكيت وشكسبير في توليفة عبثية

مشهد من مسرحية "جورة" السورية (ملف المسرحية)

ملخص

البلاستيك والبودرة مادتان اعتمدهما المخرج سامر عمران في سينوغرافيا عرضه الجديد "جورة" (الحفرة)، والذي يعود فيه الفنان السوري إلى نص "المقهى الزجاجي" لسعد الله ونوس، دامجاً إياه مع مونولوغات من مسرحيتي "هاملت" لويليام شكسبير، و"نهاية اللعبة" لصموئيل بيكيت. قدم العرض على مسرح "جامعة المنارة" في اللاذقية، بعد أن عدل عمران عن فكرة تقديمه في أحد مقاهي المدينة البحرية لأسباب أمنية.

تدور أحداث "جورة" في مقهى شعبي، وهو المكان الذي حاول سعد الله ونوس منذ بواكير كتابته في ستينيات القرن الفائت، أن يصوّر عبره عالماً رتيباً تحرسه تقاليد وطقوس لا تتغير، ويسهر المعلم ظاظا (أسعد منى) كرمز للسلطة على صيانة هذه الطقوس وتكريسها ومنع تغييرها. لعب النرد وتناول كؤوس الشاي الخمير والقهوة، إضافةً الى تدخين النراجيل وتبادل النمائم، أشبه بشعائر لا تتبدل، وصورة لنمطية الحياة وتكرارها. لكن أُنسي (أحمد خشوف) يكسر هذه الرتابة، ويحاول أن ينبّه زملاءه من زبائن المقهى المزمنين، أن جيلاً من أبنائهم بدأ يتربص بمكانهم اليومي، وها هم يشرعون برمي المقهى الزجاجي بالحصى والحجارة (عوّض عنها المخرج بأصوات انفجارات تقترب من المكان). محاولة أنسي تبوء بالفشل، وهو في النص الأصلي يطرده صاحب المقهى من المكان، لكونه تمرد على أعرافه، أما في النسخة الجديدة فنشاهد أنسي وقد انتابته مشاعر الخوف مما هو قادم، وكيف يرى أن رياح التغيير لا بد آتية حتى من عيني ابنه الرضيع.


يبدأ العرض بمونولوغ مقتبس من مسرحية "نهاية اللعبة" لصموئيل بيكيت، ويؤديه الراوي (أنور عامر)، فيقول وهو يتوكأ على عكاز، مرتدياً معطفاً شتوياً ومعتمراً قبعة أقرب إلى قبعات الحواة: "يوماً ما ستكون في بيتكَ أعمى، ذرةً ضائعةً في الفراغ، في الفراغ إلى الأبد. الفراغ النهائي سيحاصرك، وكل الموتى الذين يبعثون من كل العصور، لن يسدّوا هذا الفراغ". عبارات جسّدت مقولة "جورة"، كما دلت على الشكل الفني الذي حاول مخرج العرض (تعاون معه في الإخراج فؤاد العلي) أن يقارب من خلاله المرحلة الوجودية في كتابات سعد الله ونوس، وتأثرِّه بمسرح العبث الفرنسي عند كل من ألبير كامو وسارتر. المكان الذي لا يشهد أحداثاً ولا يطرأ تصاعداً درامياً يذكر على شخصياته الثمانية، يركّز على عدمية الوجود وعبثية الحياة، فيكرر جميع زبائن المقهى سؤالاً: "في أي يوم نحن؟ سبت أم ثلاثاء أم خميس"؟ إلا أن أحداً لا يعرف شيئاً عن التوقيت أو التاريخ.

زبائن وأحاديث

 

ومع أن أحداث "جورة" جعلها المخرج تمتد منذ خمسينيات القرن الفائت وصولاً إلى المرحلة الراهنة، إلا أن هذا ليس أمراً بالنسبة إلى رواد المكان الغارق في دخان سجائر زبائنه وأحاديثهم المكررة، في حين نلاحظ صاحب المقهى مشغولاً في مقارعة البراغيث، تسليته الوحيدة في زمن متجمد. فجأة يستذكر أحد رواد المقهى رجلاً لم يعد يأتي إلى المكان، ويكتشفون أنه فارق الحياة منذ برهة، إلا أن هذا أمسى اعتيادياً بالنسبة إليهم. أبو فهمي وعبد الحميد الدرويش وآخرون من كبار السن، كانوا قد ماتوا هم أيضاً من مبالغتهم في تحلية الشاي بكميات كبيرة من السكّر، أو من تناول القهوة المُرّة. آخرون ماتوا في عزلتهم الموحشة من دون أن يشعر أحد بغيابهم. يبدو هذا ليس ذا شأن في مسيرة الشخصيات وعبثية سلوكها وردود أفعالها إزاء واقع غير مفهوم.

سكون المقهى يهدينا بدوره إلى طبيعة شخصياته. لوقا (محمد سنكري) الأقرب هنا إلى شخصية "ناج" في مسرحية "نهاية اللعبة"، والذي يعيش في برميل للنفايات، لكنه في "جورة"، يحسب المسافة التي تقطعها الكرة الأرضية مع كل دورة تدور فيها حول نفسها. في الماضي حلم لوقا بأن يسافر إلى أميركا كي يكمل دراسته، لكن كان ذنبه أنه ولد في مكان سارق للأحلام، كما يخبرنا. نعثر أيضاً على شخصية صافي (أحمد محمد). نادل المقهى الشاب الذي يستذكر موت أمه المفاجئ، والتي قضت سنوات شبابها تعمل خلف ماكينة للخياطة، لكنها على حين غرة امتلأ جسدها ووجهها بالدمامل وانفجرت كالبطيخة.

 

أحاديث زوار المقهى تكشف تباعاً عن وحشية مضمرة، فمثلاً جاسم (علي مكنّا) يستعرض أمام الجميع بطولاته في تأديب ابنه حين ضبطه يدخّن سجائر التبغ في الخفاء، إذ لم يتردد في ربطه بالحبال ووضعه على سطح المنزل، ثم ضربه وطلى وجهه وجسده بالمربى، مما جعله مقصداً لعشرات الدبابير التي انهالت على جسد الفتى اليافع قرصاً وتنكيلاً. هذا المشهد ينقلنا في لعبة مؤسلبة إلى اللحظة الراهنة، إذ اعتمد سامر عمران على مادة البودرة لتكبير أعمار شخصياته، ففجأة يطل الراوي ليوزع مسحوق البودرة على الممثلين، الذين بدورهم يصبغون بها شعورهم كدلالة على تقدمهم في السن. كسر الوهم هنا كان أيضاً في توظيف جرس صغير في يدي الراوي، فكل جلجلة لصوت هذا الجرس، تكون بمثابة نقلة زمنية. ومن ثم يأتي التنقل بين شخصية وأُخرى لتروي لسان حالها، خيباتها وآمالها المؤجلة.

الساعاتي الأرمني

المعلم جانو (محمد سباغ) مصلح الساعات الأرمني، وكذلك خرطبيل (إبراهيم العبدة) يضفيان جواً من الإفيهات (القفشات) الساخرة، من مثل تقليد شخصية وسيم الأسد ابن عم الرئيس المخلوع بشار الأسد، أو محاكاة تريند (موضة) على وسائل التواصل الاجتماعي، من مثل فيديو انتشر لسائح أجنبي مسِّن يغني أغنية شعبية للزيتون والليمون بلكنة مضحكة. مفارقات يقودها عمران كل مرة نحو تغريب بريختي مقصود، فيطلب الراوي من كل شخصية أن تتوقف عن أداء دورها في المسرحية لتروي أحلامها في الواقع. هنا نصبح أمام مساحة من البوح مختلفة ومغايرة لأجواء مقهى سعد الله ونوس، ونطل على جوانيات الممثلين وخوفهم من المجهول. فالممثل الذي كان يحلم بأن يحقق عروضاً لمسرح الشارع في مدينته يتساءل: "كيف سأحقق مسرح شارع في شارع أخاف أن أمشي فيه؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ممثل آخر يحكي عن ذكرياته في قطعة الأرض التي زرعها هو ووالده بأشجار الزيتون، والتي يبدو أنه غير مستعد لهجرتها تحت أي ظرف كان، في حين يعبّر ممثل ثالث عن حلمه بأن يصير نجماً من نجوم الصف الأول. ويتحدث ممثل رابع عن حيرته بين البقاء في مدينته البحرية أو مغادرتها إلى الأبد. في هذه اللحظة يهجم أبناء زوار المقهى الزجاجي بالحجارة على المكان، فيحيلونه إلى شظايا من بلّور مهشم يتساقط على رؤوس الجميع.

 تنتهي سنوات طويلة عاشها رواد المقهى في انتظار الخلاص. مثّل عمران هذا الانهيار بقطع من البلاستيك تحفُّ بالخشبة وتطوقها من كل الجهات، وهي أقرب إلى تلك البيوت البلاستيكية التي تنتج خضاراً وفاكهة لا طعم لها ولا نكهة ولا رائحة. منتوجات يتم حقنها وتغذيتها بالهرمونات والأسمدة الصناعية، توصل بدورها رواد المقهى إلى حالة من التسمم الجماعي. وفي حين يموت نادل المقهى بين أيدي رفاقه من هول الصدمة، يتم إنزال قطع البلاستيك على الممثلين كستارة نهاية العرض. عندئذٍ يتقدم الراوي مردداً مونولوغاً من مسرحية "هاملت" لويليام شكسبير: "نموت يعني أن ننام لا أكثر، بالنوم وحده نطوي أوجاع القلب، وننسى ألم وجودنا في هذه الحياة، وكأن النوم انعتاقٌ موقت نرجوه كل ليلة. نموت يعني أن ننام، وفي النوم أحلام كثيرة، ولكن عندما نستسلم للموت، وننام إلى الأبد، ما هي الأحلام التي نحلم بها؟ ربما لا شيء، هذا الحب هو ما يجعلنا نتمسك بالحياة، وإلا كيف يستطيع الإنسان تحمل ظلم القدر، جرح الحب الماضي، وانعدام العدالة على الأرض؟".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة