Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توت عنخ آمون يموت في قبره مرتين

مقبرته في مرمى الانهيار ودراسات علمية وخبراء ترميم معماري يحذرون من صدوع في سقفها وتسرب مياه وارتفاع للرطوبة وفطريات تهدد زخارفها وجدرانها

التابوت الذهبي للملك توت عنخ آمون في حجرة دفنه في وادي الملوك بالأقصر (رويترز)

ملخص

يبدي متخصصون أسفهم لما آلت إليه مقبرة توت غنخ آمون في جنوب مصر، مؤكدين أن الأزمة بحاجة إلى البحث عن حلول مثل تشكيل إدارة متخصصة لرصد الأخطار تضم أكاديميين يصدرون بيانات موثوقة، تكون مهمتها متابعة سلامة المواقع الأثرية باستمرار، ومتسائلين: أين النشرات الدورية التي ترصد المواقع المهددة وتحدد أساليب التدخل والحماية؟ ومشددين على أهمية استخدام التقنيات الحديثة في الرصد والتحليل، وتوظيف أجهزة استشعار دقيقة لقياس الرطوبة وكشف تسرب المياه ورصد الأخطار التي تواجه المقبرة.

بشقوق تمتد على الأسقف وطبقات صخرية تتقشر بفعل الرطوبة، وألوان جداريات تفقد بريقها تحت تأثير الفطريات، تبدو الآن مقبرة توت عنخ آمون بالأقصر، لتواجه أخطر مراحلها منذ اكتشافها عام 1922، وقد رصدت "اندبندنت عربية" أن المقبرة التي تُعد من أصغر المدافن الملكية في وادي الملوك تعاني صدعاً رئيساً يمر بسقف غرفة الدفن والمدخل، وقد تسبب في شروخ سمحت بتسرب مياه الأمطار إلى الداخل، ومع طبيعة صخور الإسناشيل التي تتمدد وتنكمش مع تغير الرطوبة، أصبح خطر التشوهات والانهيارات قائماً على بنيتها وزخارفها الداخلية.

ويضم وادي الملوك غرب الأقصر عشرات المقابر الملكية المنحوتة في عمق الجبل، ولم يسلم معظمها من آثار السيول المفاجئة التي تضرب المنطقة بين حين وآخر، بينما كان فيضان عام 1994 الأشد تدميراً، إذ غمر الوادي بمياه محملة بالأتربة تسببت في تآكل الطبقات الصخرية وارتفاع معدلات الرطوبة داخل المقابر، مما جعلها بيئة خصبة للفطريات التي أضرت بالرسوم والجداريات، كما فاقمت الطبيعة الجيولوجية للوادي، المكونة من صخور الإسناشيل الضعيفة، هذه الأزمة.

مقبرة مهددة بالانهيار

ويشير الدكتور سيد حميدة في دراسة حديثة نشرت في "مجلة نيتشر" (مايو 2025) إلى أن مقبرة توت عنخ آمون تعاني انخفاضاً في عوامل الأمان الإنشائي لسقفها، كاشفاً عن أن فيضان عام 1994 مثّل العامل الأكثر خطورة بعدما أدى إلى تسرب المياه داخل المقبرة، ورفع مستويات الرطوبة وتسبب في نمو فطريات أضرت بالزخارف الجدارية.

كما بينت الدراسة أن الصدع الكبير الذي يقطع سقف غرفة الدفن وغرفة المدخل "سمح بتسرب مياه الأمطار وزاد التشققات، مما وضع السقف تحت ضغوط تتجاوز قدرة صخور الإسنـا شيل على التحمل، خصوصاً مع قابليتها للتمدد والانكماش عند تغير الرطوبة"، لتخلص الدراسة إلى أهمية "تقليل تذبذب الرطوبة للحفاظ على المقبرة عبر ضبط الظروف البيئية داخلها وتنفيذ برنامج مركز للتدعيم والترميم".

وتعد مقبرة توت عنخ آمون، المعروفة برمز KV62)) من أهم الاكتشافات الأثرية خلال القرن الـ 20، إذ اكتشفها عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1922 بعد أعوام من التنقيب، وعُثر عليها خلف مدخل بسيط كان مغطى بأنقاض مقابر أخرى، وتميزت بصغر حجمها مقارنة بمقابر ملوك الأسرة الـ 18، ويعتقد أنها لم تصمم لتكون مدفناً ملكياً بل استخدمت على عجل بعد وفاة توت عنخ آمون الشاب فجأة.

 

وتضم مقبرة توت عنخ آمون أربع غرف رئيسة تشمل المدخل والغرفة الأمامية التي عثر فيها على الأثاث والعربات، وغرفة الدفن التي حوت التوابيت الثلاثة داخل بعضها، ثم غرفة الكنوز التي ضمت الأغراض الثمينة والرمزية، وحوت كذلك 5 آلاف قطعة أثرية من بينها القناع الذهبي الشهير وتماثيل مذهبة وأثاث فاخر وأسلحة وأدوات جنائزية، مما يدل على الطقوس المعقدة المرتبطة بالدفن الملكي.

ويقول أستاذ الترميم المعماري في كلية الآثار بجامعة القاهرة، محمد عطية هواش، إن معظم مقابر وادي الملوك منحوتة في الصخر، وعلى أعماق كبيرة، مما يجعلها عرضة للسيول التي تتكرر من حين لآخر، مسببة فجوات قد تغمرها المياه وتؤدي إلى تلف الجداريات، موضحاً أن طبيعة الجبال نفسها تعاني تصدعات واسعة، ليس في الوادي فقط بل أيضاً في منطقة الدير البحري حيث معبد الملكة حتشبسوت، ومشيراً إلى أن كثرة الشقوق والفواصل تهدد بانفصال كتل صخرية كبيرة قد تسقط وتدمر المقابر المجاورة.

أين إدارة الأخطار؟

ويحذّر هواش من أن مقبرة توت غنخ آمون "ليست الوحيدة"، لكنها تمثل "جرس إنذار يجب الالتفات له"، مشدداً على أنه "لا ينبغي أن ننتظر حتى تقع الكارثة إذا كنا نريد فعلاً الحفاظ على وادي الملوك"، ومؤكداً أن المنطقة وعلى رغم تسجيلها ضمن "قائمة التراث العالمي" لـ "يونيسكو" كجزء من موقع مدينة طيبة القديمة ومقبرتها، لكنها ليست في مأمن من الخطر، متسائلاً عن غياب خطط إدارة الأخطار وصمت الجهات المسؤولة في مواجهة هذه التهديدات.

وأشار هواش إلى أن دراسات حذرت بالفعل من صدوع جديدة واحتمال تعرض المنطقة لسيول أخرى، لكنها لم تقابل بتحرك فعلي على الأرض، قائلاً "لدينا القدرة على رصد الأخطار علمياً لكن غياب فلسفة الوقاية يجعلنا نتحرك فقط بعد وقوع الكارثة، وهناك إدارة أزمات بهياكل تنظيمية لكن فعاليتها حبر على ورق"، موضحاً أن مقبرة توت عنخ آمون تكشف عن تقنيات متطورة في التلوين وصناعة الألوان الصناعية، مثل الأزرق والأخضر المصري، وأنه من الضروري التفكير في حلول عملية كتخفيف الأحمال فوق الجبل المحيط بالمقبرة أو إنشاء تدعيمات داخلية قابلة للفك والتركيب، تحافظ على طبيعة المكان وتمنع أي انهيار محتمل.

ويقول الخبير الدولي في الترميم الأثري حجاج إبراهيم إنه حذر منذ عقود من تأثير المياه الجوفية في مقبرة توت عنخ آمون، لكن لم يتخذ أي إجراء لإنقاذها، والحل يكمن في الترميم الدقيق لحماية المقبرة على غرار ما جرى في ترميم مسرح الدراويش، مشدداً على ضرورة محاسبة المتساهلين الذين تركوا مقابر وادي الملوك حتى وصلت إلى هذا الوضع.

 

أما عضو "اتحاد الأثريين المصريين" عماد مهدي فيوضح أن التغيرات المناخية تمثل تهديداً لمقابر وادي الملوك، ومقبرة توت عنخ آمون تعاني تصدعات وتحيط بها مياه جوفية، مما يجعلها في وضع حرج يستدعي التدخل العاجل، مطالباً بضرورة المتابعة المستمرة وإجراء الصيانة والترميم بصورة دورية.

ووفق مهدي فإن أهمية المقبرة تنبع من العثور داخلها على أكثر من 5 آلاف قطعة أثرية، مما يمنحها قيمة تاريخية استثنائية، مشيراً إلى أن هذه القيمة تتطلب حماية الموقع من الأخطار المحدقة به، وعن الإجراءات المطلوبة قال لـ "اندبندنت عربية" إنه "ينبغي تشكيل لجنة فورية تضم خبراء على مستوى عال من الكفاءة، تتولى تحليل الموقع جيولوجياً وأثرياً ورصد حجم التأثير في النقوش الجدارية، والتوصل إلى صورة دقيقة للأخطار ثم إعداد تقرير عاجل يرفع إلى أعلى المستويات لاتخاذ قرارات سريعة لإنقاذها".

وأضاف، "بصفتي أثرياً ينتابني الحزن لما آلت إليه المقبرة، فهذه الأزمة بحاجة إلى البحث عن حلول مثل تشكيل إدارة متخصصة لرصد الأخطار تضم أكاديميين يصدرون بيانات موثوقة، تكون مهمتها متابعة سلامة المواقع الأثرية باستمرار"، وتساءل "أين النشرات الدورية التي ترصد المواقع المهددة وتحدد أساليب التدخل والحماية؟"،مشدداً على أهمية استخدام التقنيات الحديثة في الرصد والتحليل، وتوظيف أجهزة استشعار دقيقة لقياس الرطوبة وكشف تسرب المياه ورصد الأخطار التي تواجه المقابر.

الطبيعة الصخرية لوادي الملوك

ويبدي العميد السابق لكلية الآثار في جامعة القاهرة محمد حمزة الحداد قلقه مما وصلت إليه حال مقبرة توت عنخ آمون، قائلاً إن "مقابر وادي الملوك تواجه أخطاراً عدة فيما تزداد خطورة الوضع بالنسبة إلى مقبرة توت عنخ آمون التي تعد الأشهر في التاريخ لكونها الوحيدة من مقابر مصر القديمة التي لم تتعرض للسرقة"، ومضيفاً أن "المنطقة تتأثر بالفيضانات والسيول خصوصاً مع طبيعة الصخور الطينية المعروفة باسم صخور الإسناشيل، إضافة إلى تأثيرات التغير المناخي التي تضاعف المشكلات وتؤثر في التراث المعماري تحت الأرض".

وتعرضت المقبرة لتأثيرات شديدة بسبب الظروف الجيوتقنية والزلزالية الصعبة، بحسب ما يقوله الحداد لـ "اندبندنت عربية"، مسلطاً الضوء على انعدام الرؤية وعدم التحرك الجاد لإنقاذ المواقع الأثرية في وادي الملوك على رغم التحذيرات المتكررة، ومضيفاً "نحن لا نريد موظفين في الإدارات المعنية بالآثار بل نريد أصحاب رؤية وارتباط بالتراث".

 

وأشار الخبير الأثري إلى ضرورة إعداد خرائط شاملة للترميم ورصد جميع الأخطار التي تواجه المواقع الأثرية في مصر مع ترتيبها بحسب الأولوية والخطورة، مشدداً على أهمية تشكيل لجان محايدة من خبراء الجامعات تضم أثريين ومتخصصين في الترميم المعماري، بعيداً من المتعاونين مع المجلس الأعلى للآثار، ولافتاً إلى أن هناك دراسات أكاديمية مليئة بتوصيات عملية للصيانة والترميم وإعادة التأهيل لكنها بقيت بلا تنفيذ، مشيراً إلى مشكلة الاعتماد على شركات مقاولات غير متخصصة.

وحذّر الحداد من أن مقبرة توت عنخ آمون مهددة بالانهيار بسبب الإهمال في ظل وجود صدوع رأسية ضخمة وتشوهات ورطوبة تؤثر مباشرة في النقوش الجدارية، مشيراً إلى أن كلفة إنقاذها ستكون مرتفعة مما يستدعي توجيه نداء عاجل بدعم من "يونيسكو" لترميم مقابر وادي الملوك، وختم متسائلاً "أين الخطط المستقبلية؟ ولماذا لا نملك أجهزة التنبؤ والرصد الجيوتقني والجيوبيئي المتوافرة في أماكن أخرى؟".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات