Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فواتير المصريين... ورطة الشراء السهل والسداد الصعب

بينما يأتي قرار اقتناء سلعة أو مُعدّة أو جهاز سهلاً بفضل عروض التقسيط فإن الغالبية تواجه معضلة تشغيلها لأنها تنضوي على نفقات مستمرة ومتكررة مثل الفواتير وشراء الوقود وسداد قيمة القسط والتأمين والضرائب والصيانة وغيرها

التخفيضات المعلنة في غالبية المحال يقابلها المصريون بحالة من الحذر خوفاً من سداد الأقساط والفواتير (رويترز)

ملخص

صدمات متتالية وفزعات متواترة تواجه ملايين المصريين ما إن يفتحوا باب البيت استعداداً للخروج للعمل أو الذهاب إلى الجامعة أو شراء حاجاتهم. الأسعار القافزة من مرتفعة إلى مرتفع جداً ومنها إلى مرتفع للغاية ضربت كل ما يشتريه المصريون بدءاً بالمواد الغذائية، مروراً بالدواء والكساء ومصروفات المدارس، وانتهاء بفواتير يقول المصريون إنه قد جُن جنونها

سلسلة المتجر الكبير "سوبر ستور" المنتشرة فروعه في أنحاء مصر تحتفل بمرور عقدين على تدشينها. الأسعار مخفضة، والعروض رائعة، والمنتجات متنوعة ومتوافرة. أما الإقبال فهزيل وشحيح. عملية اتخاذ قرار الشراء التي كانت تستغرق دقائق معدودة أمام إغراء التخفيضات الرهيبة قبل عقد أو ستة أو خمسة أعوام صارت تستغرق ساعات وأياماً ورحلات ذهاب وإياب وحسابات دقيقة وأخرى عميقة، ومنها ما يُلقي بظلال وخيمة على العلاقات الأسرية بين شد يميل إلى سرعة الاقتناء خوفاً من تبدد الفرصة، وجذب يدعو إلى التمهل لأن الغد قد يأتي محملاً بمزيد من الضغوط والجديد من الصدمات.

صدمات وفزعات

صدمات متتالية وفزعات متواترة تواجه ملايين المصريين ما إن يفتحوا باب البيت استعداداً للخروج للعمل أو الذهاب إلى الجامعة أو شراء حاجاتهم. الأسعار القافزة من مرتفعة إلى مرتفع جداً ومنها إلى مرتفع للغاية ضربت كل ما يشتريه المصريون بدءاً بالمواد الغذائية، مروراً بالدواء والكساء ومصروفات المدارس، وانتهاء بفواتير يقول المصريون إنه قد جُن جنونها.

جنون الفواتير يضرب ملايين المصريين حتى قبل مرحلة فتح الباب لقضاء المشاوير. يطرق محصل الغاز أو الماء أو الكهرباء الباب ليفجر قنبلة قيمة الفاتورة في وجه المواطن، الذي يفجر في وجه المحصل بدوره قنبلة الشكوى والأنين من هذا الارتفاع غير المفهوم في القيمة. وهنا يعاود المحصل إلقاء القنبلة في وجه المواطن، مخبراً إياه بأنه (المحصل) مواطن مثله، يكتوي بنيران الأسعار، ويئن تحت وطأة الزيادات، وكون خانة العمل تشير إلى أنه "محصل" لا يعني أبداً أنه لا يعاني أو يتألم أو يتأوَّه.

سبتمبر (أيلول) شهر يخشاه الجميع، أو على وجه الدقة، يخشاه كل مسؤول عن إعاشة نفسه وغيره. إنه موسم بدء العام الدراسي الجديد. وما أدراك ما العام الدراسي الجديد؟ مصروفات مدرسية تقفز قفزات عنترية، ورسوم باصات ووسائل انتقال الطلاب من وإلى المدرسة تسابق فواتير الوقود في الزيادة وتناطح قيمة صيانة المركبات في المبالغة، وزي وحذاء وحقيبة ومستلزمات مكتبة ودروس خصوصية ووجبات ومشروبات مدرسية لم يتبق سوى إفراد جلسات لها في "وول ستريت".

 

ولأنه موسم البدايات، بداية العام الدراسي، وبداية الخريف، فقد أصبح كذلك بداية قفزات سنوية في الأسعار، إضافة إلى القفزات الشهرية، وأحياناً الأسبوعية المرتبطة بتغيرات الاقتصاد العالمي وأسعار الصرف، وقيمة الجنيه مقابل الدولار، وإجراءات التعويم والتحرير، وكذلك تلك غير المرتبطة بأي مما سبق، فقط أهواء التجار أو رغبات الموزعين أو انشغالات الحكومة عن المراقبة والمتابعة.

الملاحظ في "موسم البدايات" هذا العام هو تنامي ظاهرة جديدة على المصريين، ألا وهي القدرة، ولو بصعوبة، على اقتناء أجهزة أو معدات أو سلع معمرة، مع تضاؤل مستمر للقدرة على الوفاء بكلفة التشغيل.

عائلة (حسن وإيمان) تتكون من خمسة أفراد. حسن يعمل مهندساً في شركة خاصة، وإيمان محاسبة في بنك حكومي، والأبناء الثلاثة في مراحل دراسية مختلفة. دخل الأسرة الشهري البالغ نحو 25 ألف جنيه (نحو 520 دولاراً أميركياً) (مجموع الراتبين مضاف إليه قيمة إيجار شقة يملكها الزوج ويؤجرها لآخرين) آخذ في التضاؤل من حيث القدرة الشرائية، وهو ما يسمى "انخفاض القوة الشرائية". ما كانت الأسرة تشتريه وتسدده بقيمة 25 ألف جنيه قبل عامين تضاءل وانكمش، وأصبحت الأسرة في حاجة إلى ما يقارب ضعف دخلها، لتتمكن من الإبقاء على بنود الإنفاق، وهي البنود التي تعرضت لعدة موجات من التقليص والترشيد على مدار السنوات الماضية، تحديداً منذ التعويم المحوري الأكبر في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016.

يشار إلى أن قدرات الأسر المصرية على شراء حاجاتها، وعلى الحفاظ على الإبقاء على هذه الحاجات عبر سداد فواتيرها، تغيرت وتبدلت وتعثرت ما لا يقل عن خمس هبدات قوية، إضافة إلى عشرات، وربما مئات الهزات الارتدادية متراوحة القوة على مقياس "ريختر" للصدمات الاقتصادية. وكانت الهبدة الأقوى الأولى في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، وهو ما يطلق عليه المصريون تفكهاً "سنة التعويم" (على رغم أنه لم يكن الأول في رحلة الجنيه المصري). في هذا العام، انخفض الجنيه المصري من 8.88 جنيه للدولار الواحد إلى 15.77 جنيه للدولار. وتوالت الهبدات لتراوح قيمة الدولار حالياً بين 49 و50 جنيهاً مصرياً.

القوة الشرائية تنهار

الهبدات الكبرى والارتدادات المتوسطة والصغرى أثرت في الغالبية المطلقة من الأسر المصرية. وعلى رغم زيادات متكررة في الدخول والأجور، وعلى رغم حزم المساعدات والدعم المادي لفئات مختلفة على مدار السنوات الماضية، فإن ارتفاع التضخم المؤدي إلى ارتفاع الأسعار، مع انخفاض قيمة الجنيه، وفرض رسوم وضرائب جديدة تحت تسميات مختلفة، على مدار هذه السنوات أدت إلى تراجع مستويات الدخل الحقيقية، وتقلص أو عجز عديد من الأسرة عن الإبقاء على مستويات إنفاقها المعتادة.

الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يقول إن معدلات التضخم في المدن المصرية شهد تباطؤاً في يوليو (تموز) الماضي، إذ سجل المؤشر السنوي لأسعار المستهلكين نحو 13.9 في المئة، مقارنة بـ14.9 في المئة في يونيو (حزيران) الماضي. وبحسب الجهاز أيضاً، انخفض المؤشر العام الشهري لأسعار المستهلكين بنسبة 0.5 في المئة في يوليو مقابل انخفاض 0.1 في المئة يونيو الماضيين.

عديد من المتخصصين في مجال الاقتصاد المصريين أكدوا مراراً على مدار الأسابيع القليلة الماضية أن ضعف القوة الشرائية لدى القاعدة العريضة من المصريين دفع بعض التجار إلى تخفيض أسعار بعض السلع، وذلك لتحريك حركة البيع. على سبيل المثال، شهدت سوق السيارات الجديدة والمستعلمة انخفاضات متعددة. كما دشن عدد من أصحاب المصانع والشركات الكبرى المنتجة للسلع المعمرة مثل أجهزة التكييف والبرادات والغسالات والمواقد وغيرها مبادرات لخفض الأسعار، تخفيفاً عن كاهل المواطنين من جهة، وكذلك تصريفاً للأجهزة والمنتجات من جهة أخرى حركت السوق بعض الشيء، لدرجة أن حسن اشترى سيارة جديدة بدلاً من القديمة التي احتارت مراكز الصيانة في تشخيص أعطالها، وحالت هبدات التعويم دون إحلالها بأخرى جديدة.

 

تمكن حسن من شراء السيارة الجديدة بفعل وفضل نظام تقسيط، ضمن حزمة من مبادرات التقسيط التي تشجعها جهات عدة بين حكومية ومصرفية وخاصة لتنشيط السوق. ليس هذا فحسب، بل وبفعل زمجرات الصغار الصيفية المتعالية، وضغط إيمان بلين الوعد بالمساعدة في السداد تارة، ووعيد ترك البيت لحين قدوم الشتاء، إذ "بيت بابا فيه تكييف"، اقتنت الأسرة جهازي تكييف الأول جرى تركيبه في غرفة أكبر الأبناء مع شرط السماح لأخويه بالنزوح لغرفته للاستمتاع بنسمة الهواء البارد، والآخر في غرفة الجلوس التي تحولت في بعض ليالي أغسطس (آب) وسبتمبر إلى عنبر ينام فيه كل أفراد الأسرة، أملاً في السيطرة على فاتورة الكهرباء.

المتخصصون في الاقتصاد كرروا وزادوا في الأسابيع القليلة الماضية، منوهين بالأثر الإيجابي لمبادرات التقسيط والتخفيض لتحريك السوق وبيع السلع، لا سيما المعمرة من سيارات وأجهزة منزلية وغيرها، ربطوا الأثر الإيجابي واستدامته بعدم حدوث أية زيادات في أسعار الكهرباء والوقود، وهي الزيادات التي من شأنها أن تعيد تفاقم التضخم وما ينجم عنه من ضغوط. وما كاد ينتهي المتخصصون من التنويه والتحليل عن ربط الأثر الإيجابي للمبادرات والتخفيضات بعدم زيادة أسعار الوقود والكهرباء، حتى كانت "مصادر موثقة" أو "مقربة من وزارة الكهرباء" أو "رفضت ذكر اسمها" تتحدث عن زيادة جديدة في أسعار شرائح الكهرباء.

اللافت أن بعض الزيادات يكتشف ولا يعلن عنه صراحة، وذلك حين يفاجأ العميل بأن قيمة الفاتورة المتوقعة ارتفعت بصورة غير متوقعة، أو أن القيمة التي جرى شحن العداد بها نفدت بعد أيام، لا أسابيع كما جرت العادة.

جداول عاجزة وتطبيقات قاصرة

جداول "إكسيل" على هاتف "إيمان" ومعه دعاء الرزق في المال والرزق وسداد الفواتير، وتطبيقات "مانيفاي" و"مصاريف" و"ماني مانيجير" على جهاز الكمبيوتر وقفت عاجزة، لا أمام اقتناء الأجهزة الكبيرة والسيارة، بل أمام سداد فواتيرها المستمرة، وهي الفواتير التي لا تعترف بعثرات اقتصادية واجتماعية، أو تقر بضرورة خفض الكلفة أو تأجيل الدفع. تأجيل الدفع لا يعني إلا وقف الخدمة، أو وقوف السيارة محلك سر، وفي أحوال أكثر تعقيداً وخطورة مثل عدم سداد قيمة القسط في الوقت المحدد، قد تعرض المتعثر لعواقب قانونية.

أسرة حسن وإيمان نموذج مثير لتغير فريد في المجتمع المصري. هي أسرة تنتمي إلى ما كان يعرف بـ"الطبقة المتوسطة". الأب والأم يحملان شهادات جامعية متميزة، لديهما "أملاك متناهية الصغر" متمثلة في شقة ورثها حسن عن والده، وشاليه صغير في الساحل الشمالي اشتراه الزوجان بالقسط في "سنوات الرفاه"، أي ما قبل التعويم وما ارتبط به من عقبات اقتصادية عدة. الابن الأكبر ملتحق بجامعة خاصة مصروفاتها كانت معقولة تحولت إلى ثقيلة على رغم عدم الارتفاع الكبير في الزيادة السنوية. الابن والابنة الأصغر في مدرسة خاصة جرى نقلهما إليها بعد تعثر سداد مصروفات المدرسة الدولية.

زيادات فواتير وأسعار شرائح الكهرباء المتتالية، ومعها الغاز والمياه، ويضاف إليها بند "المياه المعدنية" الذي فاق الـ1500 جنيه شهرياً، وذلك بعدما لاحظت الأسرة تغير لون الماء بسبب الشوائب، وعدم قدرة "الفلتر" (منقي المياه) على تطهيرها أو تنقيتها بصورة آمنة، ناهيك بمصروفات التعليم الآخذة في الارتفاع، وعداد الدروس الخصوصية وثيق الصلة بنسبة التضخم ومعدلات زيادة الأجور، وباقات الإنترنت والاتصالات المتصاعدة بجنون، إلى آخر القائمة من علاج وترفيه وطوارئ وجميعها يقفز بلا هوادة أو رقابة جعل من حياة الأسرة صراعاً مستمراً بين رضا يتبدد باقتناء كل الأجهزة والأدوات المطلوبة لتبريد الجو وتنقية الماء وحفظ الطعام ومشاهدة الأفلام والاتصال بالإنترنت والانتقال من جهة، وبين قلق يتصاعد حول ضمان تشغيل كل ما سبق عبر دفع الفواتير من جهة أخرى.

شعوب عدة تعرف ورطة وتناقض السهولة النسبية في اقتناء الأجهزة والمعدات المرتفعة الثمن، وبين ضمان تشغيلها والاستفادة منها عبر سداد فواتيرها. أما المصريون، فالورطة حديثة، والتناقض جديد، وهو ما يتطلب سبل تعامل ومواجهة خارج الصندوق.

 

المثير أن البعض ممن وجد نفسه في هذه الورطة الحديثة يقرأ بنهم عن تجارب الآخرين. قدر من راحة البال يتحقق لمجرد المعرفة بأنهم ليسوا وحدهم. أعداد متزايدة من المصريين، لا سيما من أبناء الطبقة المتوسطة، والأدنى والأعلى منها قليلاً، باتوا يعرفون أن كلفة التشغيل أحياناً تكون أكثر صعوبة من عملية الشراء، وذلك لأنها تنضوي على نفقات مستمرة ومتكررة مثل الفواتير، وشراء الوقود، وسداد قيمة القسط والتأمين والضرائب والصيانة وغيرها. وكل ما سبق من كلفة مستمرة يصعب تحديد قيمتها بالضبط، وقد تفاجأ صاحبها بكلفة إضافية غير متوقعة، ولا مجال لتخفيضها أو تأجيل سدادها أو تجاهلها، وذلك على عكس شراء السيارة أو مكيف الهواء أو الغلاية وغيرها مما يجري دفع ثمنه مرة واحدة، أو عبر قرض، وهو ما يمكن التنبؤ به وعمل حسابه.

ما تمنحه المعرفة من راحة بال يسلبه عدم القدرة على السداد أو العجز عن التنبؤ أو صعوبة ضبط الاستهلاك بناءً على الإمكانات. عديد من الأسر المصرية ممن تمتلك راحة البال المتمثلة في البنى التحتية من سيارات وأجهزة كهربائية غالية الثمن تضع تكتيكات مواجهة. يتمثل بعضها في تحديد عدد ساعات، وأحياناً دقائق، تشغيل جهاز التكييف، أو تكديس أفراد الأسرة في غرفة واحدة، أو مشاركة كل أفراد الأسرة في التنقل بسيارة واحدة حتى لو كانت الأسرة تمتلك أكثر من سيارة، وذلك عبر نظام "كار بولينغ أسري"، أي تجميع أكبر عدد من الأفراد في سيارة واحدة تقوم بمشاوير عدة، أو غلي الماء للشاي والقهوة ووضعها في "ثرمس" (وعاء حافظ للحرارة)، لا سيما أن الغلاية الكهربائية تستهلك كهرباء كثيرة، وقصر عدد مرات تشغيل الغسالة على مرة واحدة أسبوعياً لكل ما لا يمكن غسله يدوياً، وغيرها من خطط المواجهة، وتعظيم القدرة على سداد الفواتير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل نجح الإصلاح الاقتصادي؟

تبدو قصص وجهود كهذه وكأنها تقف على طرف نقيض من تصريحات رسمية، وكذلك بيانات دولية تتحدث عن اجتياز الأزمة الاقتصادية، أو تحقيق أرقام اقتصادية إيجابية، أو التنبؤ بمكانة مال، أو استثمار أو اقتصاد دولية بارزة. مثل هذه الأرقام والبيانات تحمل حقيقتين متضاربتين: الأولى هي صدق عديد منها بلغة الأرقام والإحصاءات، والثانية هي عدم شعور المواطن العادي بأي من معانيها أو مردوديتها، لأنه لا يزال إما عاجزاً عن شراء ما كان يشتريه من قبل، أو يشتري، لكن يجد سداد كلفة ما يشتريه أقرب ما تكون إلى "حسبة برما".

قبل أيام قليلة كتب المتخصص في الشأن الاقتصادي والتمويل وعضو اللجنة الاستشارية المتخصصة للاقتصاد الكلي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء المصري مدحت نافع أن الفجوة بين المؤشرات الرسمية ومشاعر المصريين تضيق وتتسع وفقاً لعوامل أهمها: كلف وعوائد الإصلاح، وأن كثيراً من الإصلاحات تسدد كلفها من معاناة المواطنين بصورة آنية، وقد تتأخر عائداتها سنوات أو عقود، ضارباً مثالاً بتحرير أسعار الطاقة وضبط المالية العامة، وجميعها أمور وصفها بأنها "لا تعطي المواطن انطباعاً فورياً بالتحسن في أحواله المادية، إذ هي بالضرورة تضيف إلى معاناته عبء ارتفاع كلف معيشته".

وأضاف نافع في مقاله وعنوانه "الإصلاح الاقتصادي بين البيانات وأحوال الناس" (أغسطس 2025) أنه يجب الالتفات إلى حقيقة أن أعباء وثمار الإصلاحات الاقتصادية لا تتوزع بالعدل بين الطبقات وفئات المجتمع، إذ قد يستفيد أصحاب الدخول الأعلى بصورة أسرع من أصحاب الدخول المحدودة، وهو ما يؤثر سلباً في الشعور بالعدالة". وتحدث كذلك عن غياب قنوات فعالة لقياس الرأي العام، وربطه بعملية صنع السياسات. وتطرق إلى مواصلة مصر "مسيرة الإصلاح الشاقة" التي يجب أن تلتمس وضع حاجات المواطن ومشاعره في صلب أولوياتها، مؤكداً أنه "لا قيمة لتحقيق فائض في الميزان التجاري أو زيادة الاحتياطات الأجنبية إذا كان المواطن يعاني صعوبة الحصول على الخدمات الأساسية، أو يعجز عن مواكبة غلاء المعيشة"، مؤكداً أن الإصلاح الاقتصادي الناجح لا يقاس بالبيانات المصمتة فحسب، ولا يكتمل بسن القوانين وحدها، بل بقدرته على خلق تجربة يومية إيجابية للمواطنين، إذ "الرواية الوطنية" التي يتبناها المواطن العادي ويشعر أنه أحد أبطالها وحدها هي أكثر ما يميز الإصلاح الاقتصادي الناجح.

 

وقبل أيام قليلة استيقظ المصريون على "سردية وطنية للاقتصاد"، لم يحكيها المواطنون، بل سردتها الحكومة. السردية هي رؤية اقتصادية استراتيجية للسنوات الخمس المقبلة، تحوي بنوداً عدة أبرزها التوسع في الاعتماد على القطاع الخاص، وتخفيف دور الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والتركيز على النمو وزيادة فرص العمل، ورفع معدل النمو الاقتصادية، وزيادة قيمة الصادرات، والنزول بمعدلات الدين، وذلك "لضرورة أن تنعكس الإصلاحات الاقتصادية بالإيجاب على أحوال المواطنين خلال الفترة القصيرة المقبلة"، بحسب ما قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي.

"سردية مصر الوطنية" هي أقرب ما تكون إلى رؤية الحكومة المصرية لاقتصاد مصر في مرحلة ما بعد صندوق النقد الدولي. الصندوق، الذي يقول متخصصون في الاقتصاد إنه أخرج مصر من أزمة اقتصادية كادت تقضي عليها على مدار السنوات الـ10 الماضية، وربما تؤدي سياسات تحرير سعر الصرف وأسعار الطاقة والغذاء وغيرها من الإجراءات الصعبة والمريرة إلى فوائد مستقبلية، وقدرة على إعادة البناء الاقتصادي على أسس أكثر استدامة، التي حملت بالأرقام والبيانات، تسبب كذلك في كثير من الألم والمعاناة لغالب المصريين.

المؤكد أن الغالبية العظمة من المصريين غيرت كثيراً من نمط الإنفاق، وعدلت بصورة واضحة من بنود الإنفاق وترتيب أولوياته، وذلك بدرجات نجاح وتعثر مختلفة، إذ إن أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن نحو 66 في المئة من الأسر المصرية غيرت من نمط إنفاقها في ضوء الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

وبعيداً من جدليات دواء الإصلاح الاقتصادي المر، وانتهاء دور "صندوق النقد الدولي"، ومعدلات الفقر، وغيرها، تبقى ورطة السهولة النسبية لاقتناء الأجهزة والمعدات مع الصعوبة الكبيرة في سداد فواتير تضمن إبقاءها في الخدمة في عين عاصفة الاقتصاد وثمار الإصلاح.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات