Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فلوس المواصلات"... المسألة المعقدة في حسابات المصريين

على مدى الأعوام الماضية خاضت غالبية البيوت المصرية تجارب تقليص نفقاتها المتعددة لكن بند المواصلات لا يمكن إلغاؤه أو تقليصه

تنعكس زيادات الوقود على حياة المصريين لكن تظل المواصلات على رأس القائمة التي طالها التغيير (رويترز)

ملخص

ذهاب المصريين وإيابهم في تنقلاتهم اليومية، بسياراتهم أو بوسائل المواصلات العامة بدرجاتها، بعد زيادة جديدة هي الـ11 منذ عام 2016 المفصلي محور الاهتمام والقلق حالياً، وعلى رغم أن زيادة أية من السلع "الإستراتيجية"، وأبرزها الوقود والسجائر، تؤدي إلى "أثر الدومينو" في بقية الأسعار، من سلع غذائية ومعمرة وخدمات وغيرها، فإن الأثر على المواصلات يبقى هذه المرة الأكبر اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً

تتصاعد المشاعر القلقة على المستوى الأسري عقب رفع أسعار الوقود في مصر، فيعاد ترتيب موازنات البيوت وهيكلة أولويات الإنفاق وتقليص هوامش الرفاهيات، أو ما تبقى منها، وذلك كل بحسب قدراته المادية والمنطقة التي يحتلها في الهرم الطبقي الذي بات ملتبساً مبتئساً. هذه المرة، تحولت "فلوس المواصلات" إلى قضية محورية ومسألة حياة وسعي وكد، أو عرقلة لكل ما سبق بعدما تفاقم ثقل هذا البند.

منذ قرار رفع أسعار الوقود، وعلى رأسه البنزين والسولار وعدد من منتجات الطاقة الأخرى، والحديث ليس عن "الغلاء" أو "الموازنة" أو "الأكل والشرب" أو حتى "الصب في المصلحة" (عبارة تحوّلت إلى دعابة بين المصريين قبل أعوام، حين تكرر استخدام المسؤولين لها كلما زادت أسعار أو تقلص دعم أو تغيرت محتويات بطاقة التموين)، إنما عن "فلوس المواصلات".

وعلى رغم أن بنود الإنفاق في غالبية البيوت المصرية من سكان منتصف الهرم الاقتصادي وما تحته تبلغ نحو 6.1 في المئة (بحسب تقديرات وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني في 2024)، وهي النسبة الثابتة إلى حد كبير على مدى العقد الأخير، وإن اختلفت قيمة الستة في المئة باختلاف القيمة المادية، فإن ارتفاع وقود المركبات هذه المرة فرض نفسه هماً رئيساً وأولوية بلا منازع في أحاديث المصريين.

هذه الملايين المعتمدة في تنقلاتها اليومية على وسائل المواصلات العامة بين باصات نقل عام وميكروباصات (سرفيس) وسيارات صغيرة تسمّى "ثمناية"، أي ثُمن نقل، وتوك توك ومترو أنفاق وغيرها، استيقظت على أنباء زيادة أسعار الوقود، وهي الزيادة التي تترجم حرفياً وفعلياً في الدقيقة التي يقول فيها قارئ نشرة الأخبار "قررت لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية زيادة أسعار البنزين"، وذلك قبل أن يصل إلى بقية الجملة، "وذلك اعتباراً من الساعة السادسة من صباح يوم الجمعة الموافق كذا".

إنفاق المصريين

وعلى رغم أن الزيادة بدأ تطبيقها الجمعة، فإن قلة قليلة فقط من المصريين تبحرت ودققت في تفاصيل الزيادة التي كانت متوقعة، لكن الملايين تمنت وابتغت وتضرعت إلى السماء أن تنسى أو تتغاضى أو تؤجل الحكومة قرار الزيادة، رأفة أو تفهماً أو رحمة بالجموع الغفيرة.

قليلون تمعنوا في الزيادة، وحساب النسب المئوية والأرقام، وأثرها المباشر وغير المباشر في موازنة البيت. الزيادات الأخيرة شملت كل أنواع وقود المركبات، وعلى رغم أن قرار الزيادات شمل كذلك أسطوانات البوتاغاز المنزلية التي ارتفعت من 150 إلى 200 جنيه، والتجارية من 300 إلى 400 جنيه، وغيرها من أنواع الوقود، فإن غالب الحسابات المضنية دار في فلك "فلوس المواصلات".

بنود إنفاق المصريين مرتبة كالتالي بحسب "فيتش" (2024): الطعام والمشروبات 35.2 في المئة، والإسكان والمرافق 18 في المئة، والصحة 10 في المئة، والمواصلات 6.1 في المئة، والملابس والأحذية 5.6 في المئة، والتعليم 4.6 في المئة، والسجائر والمشروبات الكحولية 4.6 في المئة، والمشروبات والأثاث 4.1 في المئة، والمطاعم والفنادق 3.9 في المئة، والتأمين 3.4 في المئة، والاتصالات 2.4 في المئة، والثقافة والترفيه 2.1 في المئة.

حكمة المصري الفطرية قادت الملايين إلى نتائج شبه متطابقة، كل ما سبق من بنود الإنفاق قابلة للتطويع والمراوغة والتقليص والتأجيل والتدني بالمستوى. ملايين البيوت المصرية خاضت تجارب تقليص نفقات جديرة بجائزة نوبل في الاقتصاد. أصناف الجبن غير البدائية، اللحوم والأسماك والبيض، أنواع الزيت والسكر والشاي العالية الجودة، وغيرها من صنوف الطعام والشراب تُعومل معها بحزم وحسم، منها ما اختفى تماماً ومنها ما أصبح نادر الظهور.

 

وكذلك معدلات التردد على الأطباء، وشراء الملابس والأحذية، والذهاب إلى السينما أو المطاعم انخفضت كثيراً، أو تدنت درجاتها الاجتماعية والاقتصادية بصورة ملحوظة، حتى المدارس شهدت حراكاً لنقل الصغار من مدرسة ذات مصروفات باهظة إلى أخرى نصف باهظة، ومن مدارس خاصة إلى حكومية، حتى الدروس الخصوصية ونوعيات "السنتر" شهدت هجرات من الأعلى إلى الأقل جودة والأرخص سعراً، وذلك على مدى أعوام ما بعد التعويم الأول في 2016، التي يسميها بعض المصريين "أعوام الإصلاح الاقتصادي"، ويفضل آخرون مسمى "الأعوام العجاف".

مصطفى سعيد (43 سنة) محاسب في إحدى الوزارات وأب لثلاثة أبناء في مراحل التعليم المختلفة، يقول إنه يعتمد على خبراته الحسابية الدراسية والعملية بصورة مكثفة في هذه الأعوام، وذلك في محاولات مضنية لتكييف دخله وزوجته الموظفة بحيث يعادل ما يُنفق أو في الأقل يُرحل 1000 أو 2000 جنيه من مستحقات بطاقة الائتمان للشهر المقبل. يقر سعيد أن خبراته تتهاوى أمام طوفان الزيادات، وبعضها لم يعد يصلح معه التدني بمستويات الخدمات المطلوبة، أو تقليص بنود الإنفاق، ومنها مثلاً بند الصحة، إذ تحل "الروشتة الدوارة" محل التردد على الطبيب حال تكرار الأعراض المرضية.

يقول، "غالب بنود الإنفاق قابلة للتطويع، ما عدا قيمة الإيجار وبند المواصلات. قيمة الإيجار غير خاضعة للتفاوض مع صاحب الشقة، وبند المواصلات مهما قُلص لا يمكن إلغاؤه أو تأجيله، لا سيما أنه وزوجته يتوجهان إلى العمل يومياً، والأبناء الثلاثة يذهبون إلى مراكز الدروس الخصوصية المختلفة، وهو ما يعني مصروفات ذهاباً وإياباً".

ذهاب المصريين وإيابهم في تنقلاتهم اليومية، بسياراتهم أو بوسائل المواصلات العامة بدرجاتها، بعد زيادة جديدة هي الـ11 منذ عام 2016 المفصلي محور الاهتمام والقلق حالياً، وعلى رغم أن زيادة أية من السلع "الإستراتيجية"، وأبرزها الوقود والسجائر، تؤدي إلى "أثر الدومينو" في بقية الأسعار، من سلع غذائية ومعمرة وخدمات وغيرها، فإن الأثر على المواصلات يبقى هذه المرة الأكبر اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً.

الأجرة زادت يا حضرات

بين سائق الميكروباص، الذي يخبر الركاب بلهجة حاسمة محذرة متوقعة أصوات المعارضة والعصيان المحكوم عليها بالوأد والإجهاض، إن لم يكن اليوم فغداً "الأجرة زادت جنيهين يا حضرات"، والراكب يرد رداً مطابقاً للسيناريو: "الليتر الواحد زاد جنيهين، حرام عليك تفرض زيادة على كل راكب جنيهين، اتقوا الله"، يستمر "الاسكريبت" إذ السائق إما يتجاهل "القلة المنحرفة" من الركاب المعترضين ويمضي في طريقه مع الاستعداد لمعركة "جمع الأجرة" التي قد تؤدي إلى التوجه إلى قسم الشرطة بدلاً من الوجهة الأصلية، أو يعلن عدم التحرك إلا بعد جمع الأجرة سابقاً بالزيادة التي قررها، على أن يضرب المعترض رأسه في أقرب حائط.

الجهود التلطيفية واللمسات التخفيفية والرتوش التجميلية التي حاول بعضهم إبرازها في صحف ومواقع وقنوات إخبارية لم تؤت ثمارها، بل أتى بعضها بثمار عكسية، فالقول بأن الزيادة "هي الأولى" في عام 2025، وأن كبار المسؤولين موجودون في مواقف الباصات والميكروباصات ليتابعوا بأنفسهم اتباع السائقين التعريفة المقررة وغيرها أدى إلى مزيد من الغضب والاستفزاز.

فبين التعامل مع عبارة "الزيادة الأولى" باعتبارها نذير شؤم، ناهيك بتحويلها الزيادات إلى قاعدة سنوية وأحياناً نصف أو ربع سنوية، إلى التساؤل عن مفارقة وصول كبار المسؤولين إلى مواقف الباصات، وذلك بسياراتهم الحكومية الفارهة ومواكبهم الرسمية الفاخرة وبين مراجعة سائق في جنيهين أو ثلاثة، تتصاعد موجة الغضب من ثقل "فلوس المواصلات" بصورة لافتة بين مختلف الطبقات.

 

مختلف الطبقات تخوض إجراءات هبوط الهرم الطبقي والاجتماعي والاقتصادي منذ أعوام. وفي ما يختص بهرم المواصلات، أقبل بعض المصريين على تقليص استخدام السيارة الخاصة والاعتماد على وسائل النقل العام بعد حسابات بنزين السيارة ورسوم الصيانة واحتمالات الخبطات والاحتكاكات الدائمة مقارنة بتعريفة المواصلات العامة، آخرون استغنوا عن مترو الأنفاق واعتمدوا على الميكروباصات الأرخص نسبياً، الطبقات الأدنى اقتصادياً وجدت في "الثمناية" والتوك توك وسيارات ربع النقل غير المخصصة أو المهيأة أو المرخصة لنقل الأفراد، بحثاً عن توفير بضعة جنيهات.

عمليات الارتطام الطبقي المستمرة تنعكس بصورة واضحة في "فلوس المواصلات"، لكنها هذه المرة تجد نفسها في خانة اليك، حيث لم يعد هناك مجال لمزيد من الارتطام أي مزيد من الهبوط، وإن كانت جهود البحث والتنقيب دائرة للخروج بفكرة مبتكرة هنا أو مخرج إبداعي هناك.

بند "فلوس المواصلات" يضرب الجميع، لكن فئة من المصريين ممن انتقلت إلى المجتمعات السكنية الجديدة على أطراف المدن الكبرى، سواء الفاخرة مثل "مدينتي" و"الشيخ زايد" و"التجمع" أو غيرها المحتضنة الطبقات المتوسطة الدنيا والطبقات الدنيا مثل "أكتوبر" و"بدر"، يجدون المعاناة مضاعفة.

دعاء (عاملة نظافة) تسكن في مدينة بدر تستخدم أربع وسائل مواصلات مختلفة للوصول إلى عملها في العباسية (شمال شرق القاهرة)، كل توك توك أو ميكروباص تستخدمه فرض زيادة تراوح ما بين جنيه وثلاثة جنيهات، مما يعني أنها تدفع الزيادة بنحو ثلاثة أضعاف، مقارنة بزميلتها التي تسكن في الزاوية الحمراء (شمال القاهرة) وتستخدم ميكروباصاً واحداً بزيادة واحدة.

معضلة الزيادات المضاعفة التي يتحمّلها سكان التجمعات الجديدة ليست حكراً على طبقة بعينها. أصحاب السيارات أيضاً وجدوا أنفسهم مجبرين على زيادة بند الإنفاق على المواصلات بعد زيادة أسعار البنزين، مضافاً إليها رسوم "البوابات" (محطات تحصيل رسوم المرور) التي أصبحت سمة الطرق السريعة، مثل طرق القاهرة - السويس، والقاهرة - الإسماعيلية، والعاصمة الجديدة وغيرها، وهي الطرق التي يستخدمها ملايين المصريين ممن يسكنون أطراف المدن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكوميديا حاضرة

وكالعادة، لا تمضي المعضلات والمشكلات والهموم من دون عنصر كوميدي مصري أصيل، فقد استرجع بعض المصريين رأياً صدر عن دار الإفتاء المصرية في مثل هذا الوقت قبل عام، وطالبوا الدار بمراجعته في ضوء "فلوس المواصلات الجديدة".

قبل عام، قال الشيخ محمد عبدالسميع من دار الإفتاء المصرية إن الحج واجب على كل مسلم توافرت لديه شروط أدائه، وقال في إطار توضيحه للشروط إن "سيدنا النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) أبلغنا أن من ملك ذاتاً وراحلة يؤدي الحج، أي اللي معاه (من يملك) فلوس المواصلات والأكل والشرب وما يكفى أولاده حتى يرجع وجب عليه الحج".

تداول بعضهم هذا الرأي مطالبين بمراجعة بند "فلوس المواصلات" التي أصبح امتلاكها يعني بالضرورة رفاهية أو ترفاً بعد الزيادة الـ11 الطريف أو المؤسف أو كلاهما أن بعض المصريين يطرح سؤالاً مفاده: هل التهرب من دفع تذكرة المواصلات العامة يجوز في ظل الزيادات التي أثقلت كاهل كثر؟ وهنا يأتي الرد الديني سريعاً، إذ أكد أمين الفتوى في دار الإفتاء المصرية علي فخر أن ركوب القطارات وغيرها من وسائل المواصلات العامة من دون دفع التذكرة حرام شرعاً، لأنها من المال العام، وعدم دفع الأجرة يعتبر تعدياً على حقوق المجتمع وماله العام، وهو ما دفع بعضهم إلى معاودة السؤال: إذا كانت وسائل المواصلات مالاً عاماً يملكه المجتمع، فباعتباري جزءاً من المجتمع، قررت عدم دفع الأجرة.

ولأن القانون لا يعرف الحرام والحلال، فقط القانوني وغير القانوني، فإن عقوبة التهرب من دفع تذاكر القطارات ومترو الأنفاق تصل إلى الحبس ستة أشهر وغرامة لا تقل عن 10 جنيهات، ولا تزيد على 200 جنيه، أو إحدى العقوبتين، ومثلها، في التهرب من دفع تذاكر الباصات، أما التهرب من دفع أجرة الميكروباص و"الثمناية" والـ"توك توك"، عبر التظاهر بالنوم أو الحديث المستمر في الهاتف المحمول، أو الغياب عن مجال رؤية السائق في المرآة الأمامية، فعقوبته بين السائق والمتهرب وبينهما وساطة شعبية لتخليص هذا من ذاك.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات