ملخص
استفزاز روسيا لبولندا عبر اختراق الطائرات المسيرة يعد اختباراً لحلف الناتو، الذي يوازن بين الرد العسكري وتجنب التصعيد، وسط تساؤلات حول النية الحقيقية وراء الحادثة واحتمال تكرار مثل هذه الانتهاكات في ظل تصاعد التوترات الإقليمية.
من الوهلة الأولى، يبدو أن اختراق الطائرات المسيرة الروسية الأجواء البولندية يشكل حالاً واضحة لتفعيل المادة الخامسة الشهيرة من ميثاق حلف الناتو، التي تلخص عادة بأن الهجوم على دولة واحدة [عضو في الحلف] يعتبر هجوماً على جميع الدول الأعضاء، ويستوجب رداً جماعياً.
وهذه الضمانة هي السبب الرئيس وراء رغبة الدول المستقلة حديثاً في أوروبا الشرقية والوسطى في الانضمام إلى الحلف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ووراء رغبة أوكرانيا الشديدة في الانضمام إليه الآن.
ينظر إلى حلف الناتو والمادة الخامسة على أنهما المعيار الذهبي لضمانات الأمن.
وسارع رئيس وزراء بولندا، دونالد توسك، إلى التحذير من أن بلاده باتت أقرب ما تكون إلى صراع مفتوح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقال إن اختراق الأجواء البولندية هو "اختبار يجب على ’الناتو‘ أن يرد عليه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعندما قدم تقريره إلى البرلمان بعد بضع ساعات، اختزل الأمر إلى اتهام مفاده أن 19 طائرة مسيرة روسية دخلت المجال الجوي للبلاد، مع إسقاط "ما يصل إلى أربع" طائرات منها من قبل المقاتلات البولندية والإيطالية والهولندية التي أرسلت لاعتراضها – وهي المرة الأولى التي يجري فيها إسقاط معدات عسكرية روسية فوق أراضي دولة عضو في حلف الناتو. ووصف الاتحاد الأوروبي ذلك بأنه انتهاك "أرعن" من جانب روسيا. وبالنسبة إلى كير ستارمر، كان ذلك "هجوماً بربرياً على أوكرانيا" و"انتهاكاً صارخاً وغير مسبوق".
ومع ذلك فإن العدد الصغير نسبياً للطائرات المسيرة يشير إلى أنه كان توغلاً عرضياً وليس متعمداً. ويجب أن تكون النية عنصراً حاسماً في تحديد ما إذا كان ما حدث يصل إلى مستوى الاستجابة بموجب المادة الخامسة. ويبدو أن بولندا قد قبلت ذلك بالفعل، إذ يقال إنها تتحدث عن عقد اجتماع طارئ لحلف الناتو بموجب المادة الرابعة، التي تنص على الإخطار والتشاور، بدلاً من المادة الخامسة.
ومن يذكر أيضاً أن هذه ليست المرة الأولى التي تتهم فيها روسيا بانتهاك الأراضي البولندية في عملياتها ضد أوكرانيا. في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، في الخريف الأول من الحرب، سقط صاروخ على الجانب البولندي من الحدود الأوكرانية، مما أسفر عن مقتل شخصين على الأرض. وطالبت أوكرانيا على الفور حلف الناتو بتطبيق المادة الخامسة، لكن اتضح أن روسيا والولايات المتحدة كانتا على تواصل واستنتجتا أن الصاروخ الضال جاء في الواقع من أوكرانيا. وتوقف كل الحديث عن تحرك حلف الناتو، على رغم أنه لم يجر توضيح ما إذا كان ما حدث حادثة عرضية أم، كما ادعى البعض، عملية مدبرة من قبل أوكرانيا في محاولة لاستدراج رد من حلف الناتو.
وباختصار، على رغم استخدامه أحياناً خطاباً تخويفياً، فإن حلف الناتو أبدى حتى الآن حذراً بصفة عامة حيال شن أي رد عسكري يمكن أن ينظر إليه على أنه بداية صراع شامل بين حلف الناتو وروسيا – بدلاً مما ينظر إليه حالياً، في الأقل من جانب روسيا، على أنه حرب بالوكالة بين حلف الناتو وروسيا.
وتدل المؤشرات الأولية على أن حلف الناتو سيتخذ الرد المتزن نفسه هذه المرة، إذ سيدعم حلف الناتو إجراء بولندا في اعتراض الطائرات المسيرة، ويحذر روسيا من أخطار تصعيد الصراع، ويكتفي بذلك. من المحتمل أن تطالب أوكرانيا باتخاذ إجراءات أكثر عدوانية، لكن الحذر، في هذه المرحلة، سيكون الرد الأكثر عقلانية.
ومع ذلك هناك عناصر في هذه الحادثة لا تزال في حاجة إلى تفسير، إذ يوحي البعض بأن المسيرات ربما تكون قد ضلت طريقها بسبب تشويش أوكراني (أو بولندي؟)، بينما يرى آخرون أنها قد تكون عملية أوكرانية مدبرة – وكلا الاحتمالين سبب يدعو حلف الناتو إلى توخي مزيد من الحذر.
وهناك فرضية أخرى، لا تتعارض تماماً مع نظرية الحادثة، وهي أن روسيا كانت تختبر رد حلف الناتو على مثل هذه الانتهاكات. ففي الأسبوع الماضي، ضربت روسيا مبنى حكومياً في كييف للمرة الأولى – وهو هجوم فسر على أنه غير مقصود ونتيجة لتشتيت انتباه الدفاعات الجوية الأوكرانية (النظرية التي طرحها عمدة كييف، فيتالي كليتشكو، الذي لا يمكن اعتباره صديقاً لروسيا)، أو تصعيد متعمد من جانب روسيا، لإرسال إشارة إلى كييف بما يمكن أن تتوقعه إذا لم تقبل شروط روسيا الحالية لإنهاء الحرب.
يعد التصعيد من جانب روسيا وأوكرانيا، مع استهداف روسيا مدناً خارج شرق أوكرانيا، مثل لفيف قرب الحدود البولندية، التي نجت إلى حد كبير حتى الآن، رداً منطقياً تماماً على احتمال إجراء محادثات سلام، إذ يحاول كل طرف تعزيز مكاسبه قبل توقف إطلاق النار، كما نأمل.
سواء كان هذه الحادثة الأخير خطأً أم متعمداً – قبل اجتماع مرتقب في لندن لمجموعة "إي 5" E5 التي تضم الدول الأوروبية بريطانيا وبولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا – فإن الخطر يكمن في احتمال تزايد مثل هذه المواجهات، مع تزايد الدعوات إلى تدخل حلف الناتو بشكل مباشر.
© The Independent