ملخص
تقول نهى السيد، "على مدار أكثر من 10 أعوام عملت بدوام كامل في واحدة من المؤسسات الكبرى، كان الأمر مستنزفاً للوقت والجهد والطاقة في الانتقال من منزلي في منطقة التجمع الخامس (شرق القاهرة) إلى مقر عملي في مدينة السادس من أكتوبر، كنت أعود في غاية الإرهاق، وبخاصة مع بعد المسافة، الآن أعمل مع مؤسسة أخرى من المنزل منذ نحو ثلاثة أعوام بنظام الفريلانس، والفارق كبير طاقتي ليست مهدرة وإنتاجي أفضل، وبخاصة أن طبيعة العمل تحتمل ذلك"... لهذه الأسباب يفضّل مصريون العمل من المنزل.
أصبح مألوفاً في المجتمع المصري خلال الأعوام الأخيرة عند التوجه صباحاً إلى واحدة من المناطق التي تضم مجموعات من الأماكن العامة مثل الكافيهات وجود أشخاص منهمكين في العمل أمام أجهزة اللابتوب، باعتبارهم يعملون في مؤسسات لا تلزمهم بالحضور للمقر، وتمنحهم ميزة العمل من المنزل، والأعداد تتزايد والأمر أخذ في الانتشار.
وعلى مدار الأعوام كانت فكرة العمل تنحصر في ذهاب الموظف إلى مقر الشركة أو المؤسسة وإمضاء ساعات دوامه اليومية المعتادة والانصراف في وقت محدد، هكذا كانت الحال طوال أجيال، وحتى عقود عدة مضت كانت فكرة العمل من المنزل شيئاً غير مطروح من الأساس، وأخيراً بدأت تدخل سوق الوظائف في مصر، بل تقدمها بعض الشركات باعتبارها واحدة من المميزات التي سوف يحصل عليها المتقدم للوظيفة، إذ إنه لن يُجبر على الحضور للمكتب بصورة يومية، وأن المؤسسة لديها مرونة في التعامل.
وكان العمل من المنزل موجوداً في سوق العمل المصرية، بخاصة خلال العقد الأخير، لكن بصورة محدودة، لكنه انتشر بصورة أكبر بعد فترة كورونا ومع بقاء الناس مرغمين للعمل من منازلهم مع فترة الحظر، وبعد انتهاء الجائحة عادت قطاعات كبيرة من الناس إلى مكاتبهم، لكن بعض الشركات اتجهت إلى التوسع في نظام العمل من المنزل، إما لأن المؤسسة وجدت أن هذا الوضع أفضل وأقل كلفة وبه مميزات مثل قدر أقل من الإنفاق، حيث لا حاجة إلى مقرات كبرى وموارد لتشغيلها، وإما لأن العاملين أنفسهم وجدوا أن الأمر ممكن، بل إنه أفضل حيث يوفر الوقت والجهد والطاقة ويقلل من الإنفاق، وبخاصة مع الامتداد العمراني الكبير، الذي شهدته العاصمة المصرية في الأعوام الأخيرة، والتوسع في المدن الجديدة، التي أصبحت تقطنها قطاعات كبيرة من الناس، مما جعل المسافة بين منزل الشخص وعمله يمكن أن تستهلك فترة زمنية طويلة تسبب ضياع للوقت والجهد والطاقة، إضافة إلى النفقات الكثيرة للانتقالات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صدر في مصر قانون جديد للعمل جرى بدء العمل به أخيراً، ومن ضمن المميزات التي تضمنها هو المادة 96 التي أشارت إلى أن العمل الحر تدخل ضمنه أي صور أخرى للعمل، التي يمكن أن يصدر بتحديدها قرار من الوزير المختص، لأنه يقوم على أداء عمل لمصلحة الغير مقابل أجر، لكن بصورة غير تقليدية وخارج منظومة التوظيف المعتادة، كما أن القانون سيعترف بالعقود الإلكترونية باعتبارها عقوداً صحيحة.
وتفيد المادة 97 من قانون العمل الجديد بأن الحقوق لا تختلف بين العامل التقليدي والعامل في الأنماط الجديدة، هذه المواد بحسب الخبراء يمكن أن تصبّ في إيجاد وضع قانوني لحماية الفئات الكبيرة التي تعمل بنظام الفريلانس، وإن لم ينص عليها صراحة، وإيجاد وضع قانوني لحمايتها والحفاظ على حقوقها، باعتبار أن هناك أنماطاً جديدة دخلت لسوق العمل المصرية بحكم التطور لا بد أن تؤخذ في الاعتبار عند وضع قوانين جديدة تنظم سوق العمل.
وفي الوقت نفسه، فإنها يمكن أن تؤدي إلى زيادة العاملين بهذا الوضع، باعتبار أنه أصبحت هناك بداية لتنظيمه ومحاولات لإيجاد سند قانوني لحماية العاملين بكل الأنظمة الجديدة، إذ إنها أصبحت آخذة في الانتشار في العالم كله، ومن المتوقع أن تدعمها كثير من الشركات في مصر مع زيادة الإقبال عليها.
"طاقتي ليست مهدرة وإنتاجي أفضل"
وفي ظاهرة جديرة بالملاحظة فإن قطاعاً من المصريين حالياً أصبح يرفض بصورة قاطعة العمل من المكتب، وقد يرفض عروضاً مميزة، فقط لأن المؤسسة ترفض أن يكون العمل من المنزل، والعكس صحيح بعض المؤسسات أصبحت هي التي تطرح الوظائف المتاحة فيها، باعتبار أن لديها ميزة كبيرة، وهي العمل من المنزل أو في الأقل عدم اشتراط الحضور إلى المقر سوى أيام معدودة في الشهر.
الانتشار في ظاهرة العمل من المنازل يتواكب معه انتشار في العمل بنظام الفريلانس في كثير من المؤسسات وبين أعداد كبيرة من الناس أصبحت تفضله لأسباب تختلف عند كل شخص.
تقول نهى السيد، (39 سنة)، تعمل في واحدة من المؤسسات الإعلامية "على مدار أكثر من 10 أعوام عملت بدوام كامل في واحدة من المؤسسات الكبرى، كان الأمر مستنزفاً للوقت والجهد والطاقة في الانتقال من منزلي في منطقة التجمع الخامس (شرق القاهرة) إلى مقر عملي في مدينة السادس من أكتوبر، كنت أعود في غاية الإرهاق، وبخاصة مع بعد المسافة، الآن أعمل مع مؤسسة أخرى من المنزل منذ نحو ثلاثة أعوام بنظام الفريلانس، والفارق كبير طاقتي ليست مهدرة وإنتاجي أفضل، وبخاصة أن طبيعة العمل تحتمل ذلك، عرضت علي المؤسسة أن تقوم بتعييني على أن أعمل من المقر 8 ساعات يومياً، ورفضت العرض تماماً فالزيادة في المرتب ستنفق على الانتقال والبنزين وركن السيارة، إضافة إلى المجهود الذهني وإضاعة الوقت".
وتضيف، "أعتقد أن نظام العمل من المنزل من أفضل الأشياء التي حدثت أخيراً في مصر، أتمنى أن تتوسع فيه المؤسسات باعتبار انعكاساته ليست في تقليل الضغط على الأفراد فقط، لكن على المجتمع كله بتقليل الزحام في الشوارع والتلوث وترشيد استخدام الطاقة في المؤسسات".
فيما يرى محمد حسن (42 سنة)، يعمل في مجال البرمجة، "كنت أعمل من المكتب حتى قبل فترة كورونا حينما التزم العالم كله بالحظر الإجباري من وقتها لم نعد إلى المكتب، إنما نلتزم بالحضور يوماً واحداً في الأسبوع للمحادثات والاجتماعات، كثير من الناس حولي حدث معهم الشيء نفسه، قطاع كبير من المؤسسات وجد أن سير العمل لم يتأثر والكلفة أصبحت أقل، حتى إن بعض المؤسسات أخذت مقرات أصغر من السابق، الأمر له بعض الإيجابيات بلا شك، لكن سلبياته كثيرة، من بينها الشعور بالملل والكسل، فإمضاء الوقت كله في المنزل أمر لا يناسب الجميع، أتحايل على هذا الوضع أحياناً بالعمل من مساحات العمل المشتركة أو من أحد الكافيهات الهادئة فالتغيير مطلوب".
التوازن بين العمل والحياة
لكن ما أبرز تحديات العمل من المنزل وما السبل التي يمكن من طريقها أن يحقق العامل من المنزل إنتاجية أعلى وكيف يمكنه أن ينظم وقته؟
مدرب التطوير المهني حاتم قناوي يقول "الكورونا كانت نقطة مفصلية في عالم الحياة المهنية وأحدثت نقلة وتغيراً كبيراً في شكل سوق العمل، قديماً كانت فكرة العمل من المنزل غير مطروحة من الأساس، لكنها الآن أصبحت واقعاً موجوداً ومنتشراً، وبخاصة نظام العمل الذي يعرف بـhybrid أي إنه يجمع بين العمل من المنزل والمكتب، ولا يجبر الموظف على الحضور بصورة يومية، فالمؤسسات الكبرى حالياً أصبحت تهتم بالتركيز على الجودة، وعلى ألا يتعرض الموظف للاحتراق الوظيفي، وأن يحقق التوازن بين العمل والحياة الشخصية مما ينعكس على جودة العمل وزيادة الإنتاجية، وهذا التوجه آخذ في الانتشار".
ويستكمل، "العمل من المنزل له تحديات من بينها أن عوامل التشتت كثيرة مثل وجود الأسرة أو الأطفال أو حتى قيام الشخص بمهمات أخرى في وقت العمل وعدم تنظيمه وقته، وهناك أشياء عدة لا بد من مراعاتها في حالة الالتزام بالعمل من المنزل، من بينها تخصيص مكان محدد للعمل حتى يرتبط بالالتزام ويفضل تنظيمه بصورة مميزة، وارتداء ملابس مريحة تصلح للعمل، والبعد عن المشتتات بجميع أنواعها، ويمكن أن يشرح للأسرة طبيعة الوضع ويطلب مساعدتهم على التركيز، كذلك من المهم الحفاظ على الحالة النفسية والبدنية مثل ضرورة الحركة كل فترة وممارسة بعض التمرينات البسيطة".
ويوضح قناوي، "الموضوع به جزء متعلق بالشخص نفسه فالبيت مرتبط بالراحة والاستقرار وعدم أداء أعمال كبيرة فعند العمل من المنزل لا بد من وضع خطة للعمل مثل تحديد أوقات معينة ومهمات محددة لإنجازها والالتزام بها، فهذا يكون له علاقة بزيادة الإنتاجية، البعض أصبح يعمل من كافيه أو مكان مفتوح به مناظر طبيعية ولا يرتبط فقط بالمنزل، وآخرون يحفزهم الاستماع للموسيقى فمن المهم أن يعرف كل شخص تفضيلاته".
فرص عمل لبعض الفئات
عند الحديث عن العمل من المنزل فغالباً ما يكون من منظور الأفراد الذين يرون أنه أكثر راحة وتوفيراً للوقت وأكثر إتاحة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، لكن كيف هو انعكاس هذا الوضع الآخذ في الانتشار على المؤسسات، سواء الكبيرة أو الصغيرة، وكيف يؤثر تمسك قطاع من الأشخاص برفض فكرة العمل من المكتب، حتى لو توافرت لهم فرص مميزة، في سوق العمل حالياً ومستقبلاً في مصر، وماذا أضاف هذا الوضع على مستوى فرص العمل بصورة عامة؟.
استشارية الموارد البشرية مريم ويليام تقول "انعكس هذا الوضع على سوق العمل المصرية بصور مختلفة، من بينها أن بعض المرشحين لوظيفة يطلبون راتباً كبيراً جداً، وربما يطلبون راتباً مبالغاً فيه كشرط لقبول العمل من المكتب، وبعض الشركات، وبخاصة الكيانات الصغيرة، لا تستطيع دفع هذه المبالغ، وأصبحت تجد صعوبة في الحصول على الكفاءات المطلوبة، وبعضها واجه أزمة نتيجة عدم إمكانية العثور على موظفين، هذا الاتجاه آخذ في الانتشار وسيزداد في الأعوام المقبلة، وستكون له انعكاسات أكبر على سوق العمل، فظاهرة رفض قطاع من الناس العمل من المكتب ترتبط بكثير من المهن التي يمكن أن ينجح معها هذا الوضع، وبالفعل هناك قطاع كبير من الناس أصبح من شروطه للعمل في أي مكان ألا يجبره على العمل يومياً من المكتب لساعات عمل محددة مثلما كانت الحال في السابق".
وتضيف "جانب إيجابي لفكرة العمل المنزل وانتشارها أخيراً لا يمكن إغفاله، وهو أنها أتاحت فرص عمل لبعض الفئات التي يكون الحضور بصورة يومية في مقر العمل صعب عليها، ويشكل لها مشكلة أو أزمة قد تدفعها لترك العمل من الأساس مثل الأمهات، والأشخاص المرتبطين بدراسة، وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم، فهذا الوضع كان شديد الفائدة لهم، وأتاح لهم العمل بظروف مرنة، فالأمر هنا له مميزات، من بينها استيعاب فئات كثيرة في سوق العمل وإتاحة الفرص".
بين المنزل والمكتب وإلا
على رغم كثير من الإيجابيات التي يعددها مؤيدو فكرة العمل من المنزل، وعلى رأسها أنها لا تستنزف الطاقة الجسدية، فإنه بلا شك سيكون لها أثر في الصحة النفسية، فساعات العزلة الطويلة التي يقضيها الناس أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر واللابتوب، والصمت التام وعدم التفاعل مع آخرين ساعات طويلة كل يوم في وضع مستمر أشهراً وأعواماً من المؤكد أن له تأثيراً على الصحة النفسية للإنسان، وبخاصة مع تزايد هذه الظاهرة واعتمادها من قبل كثير من المؤسسات في العالم كله.
يقول استشاري الطب النفسي محمد حمودة، "إلى جانب مميزات العمل من المنزل، مثل توفير الوقت والجهد والطاقة وبيئة العمل الآمنة من دون احتكاك أو مشكلات وتوفير الوقت الطويل في ظل اتساع المدن وبعد المسافات، لكن على المستوى نفسه لها عيوب أهمها أنها مع الوقت تؤدي إلى حال من العزلة والخلل في التفاعل الاجتماعي وعند بعض الناس يمكن أن يصل الوضع إلى حد الرهاب الاجتماعي أو الفصام، وبخاصة لو استمر العمل من المنزل أعواماً طويلة، الحل الأفضل في هذه الحال هو تقسيم أسبوع العمل بين المنزل والمكتب فهذه هي الصيغة الأمثل".
ويضيف حمودة، "كلما نقلل المجهود البدني ونزيد من الإجهاد الذهني نكون عرضة للأمراض النفسية، وهذا هو واقع كثير من الناس حالياً، قديماً في المجتمعات الريفية على سبيل المثال حيث يبذل الناس مجهوداً بدنياً بصورة منتظمة كانت الاضطرابات النفسية محدودة جداً بعكس الواقع حالياً فالمجهود الذهني كبير جداً باعتبار طبيعة الحياة فانعكس ذلك على الصحة النفسية، أحياناً في مجال العلاج النفسي ننصح البعض بالعمل كوسيلة للخروج والتفاعل مع الناس باعتبار أن هذا له دور في تحسين الحالة النفسية، العمل من المنزل ظاهرة انتشرت في الأعوام الأخيرة، وأتوقع مع التوسع فيها أنها ستؤدي إلى زيادة الاضطرابات النفسية".
ويستكمل استشاري الطب النفسي، "الملاحظ أن كثيراً من الأجيال الجديدة تفضّل هذا الوضع على رغم أنهم لا بد أن تكون بداية حياتهم المهنية بالعمل من المكاتب، لأن هذا يكسبهم خبرات كبيرة سواء في مجال تخصصهم أو على المستوى الاجتماعي، فالعمل من المكتب به تفاعل واكتساب للخبرات من الزملاء على المستويين المهني والاجتماعي، وحتى المشكلات التي تحدث في العمل هي خبرة تضاف إليهم بكيفية مواجهتها والتعامل معها، كما أن التقدير والإشادة بالشخص في اجتماع مثلاً أمام الزملاء يكسبه دفعة تنعكس على نفسيته بعكس التقدير الذي يرسل في رسالة على البريد الإلكتروني دون تفاعل حقيقي".