ملخص
تراجع جدوى التعليم الجامعي وارتفاع تكاليفه، إلى جانب تغيّر سوق العمل بفعل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، جعلوا كثيراً من الطلاب يعتبرون البدائل المهنية وريادة الأعمال فرصاً أكثر عملية وأقل كلفة، مما قد يحوّل الغائبين عن الجامعات إلى الرابحين الحقيقيين.
قبل صيفين، استيقظ جو ثورب صباح خميس حار في أغسطس (آب) ليشارك في مناسبة مفصلية اعتاد عليها معظم المراهقين البريطانيين: يوم صدور نتائج الثانوية العامة (A-level).
بينما قضى كثيرون من زملائه الليلة السابقة في قلق إزاء عروض الالتحاق بجامعات، كان جو يعلم مسبقاً أنه لن يلتحق بواحدة.
كانت لديه خطة – ولم تكن تتضمن الجلوس في قاعات المحاضرات. فتح مغلف نتائجه بهدوء ليجد أنه حصل على علامة ممتاز في المحاسبة، وعلامة ممتاز في الرياضيات الأساسية من المستوى الثالث، وامتيازين شملهما دبلوم الأعمال خاصته – وعاد إلى منزله للاحتفال.
في الأسابيع التالية، بينما كان الأصدقاء يحملون أغطية أسرة وأواني مطبخية في سيارات متجهة إلى حُرُم جامعية في مختلف أرجاء البلاد، بقي جو في غرفة نومه يجري مكالمات مع عملاء عشوائيين، واضعاً رؤيته الخاصة بشركة جديدة متخصصة، تسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي لعاملين يدويين في شركات محلية تنشط في مجالات البناء والكهرباء وغيرهما. لم يكن قرار جو نتيجة لعدم تلبية نتائجه متطلبات الجامعة التي اختارها – ولا كان قراراً عشوائياً.
على العكس تماماً: كان جو قد قضى الأشهر السابقة لصدور النتائج يبحث في خيارات التعليم العالي، مثل أي طالب آخر في مرحلته الثانوية؛ يملأ استمارات التقديم عبر خدمة القبول الجامعي (يوكاس) ويتخيل حياته بعيداً من منزل عائلته في سومرست.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشرح قائلاً: "ثمة مزايا كثيرة في الحياة الجامعية يطلبها كثيرون – مثل الخروج الدائم، أو العيش بمفردهم بعيداً عن المنزل – لكنها لم تكن مزايا كافية بالنسبة إلي". والأهم من ذلك، أن سوق العمل المتذبذبة بشدة، التي تتغير بسرعة مع تزايد أثر الذكاء الاصطناعي فيها، بدت غير موثوقة بما فيه الكفاية نظراً إلى التكاليف المرتفعة للدراسة الجامعية.
يقول جو: "لا يمكن للمرء أن يعتمد على وجود وظيفة ما بعد ثلاثة أعوام لمجرد أنها موجودة الآن. بدلاً من ذلك، أحببت فكرة بناء شيء ما – أنا أتعلم كثيراً من المهارات والأدوار الوظيفية المختلفة دفعة واحدة الآن، بدلاً من استهداف وظيفة واحدة قد يستولي عليها الذكاء الاصطناعي".
وبينما كان معظم أصدقائه يشاركون في امتحاناتهم الأولى تمهيداً للدخول إلى جامعات، كان جو يوقع عقوده الأولى مع عملاء لشركته، "الأفضلية للتسويق" (Upper Hand Marketing). وبعد عامين، أصبحت الشركة مربحة، ولا يشعر جو بأي ندم.
في وقت يتسلم فيه عشرات آلاف المراهقين في مختلف أنحاء المملكة المتحدة مغلفات نتائجهم بقلق، يقدم جو مثالاً على أن المحظوظين بينهم قد يكونون أولئك الذين لم يلتحقوا بجامعات.
طوال عقود من الزمن، كان السيناريو واضحاً وبسيطاً: اجتياز امتحانات الثانوية العامة، ثم التخرج من جامعة، بغرض تولي وظيفة بأجر عالٍ. في نظر أصحاب العمل، كانت الشهادة الجامعية دليلاً على الانضباط والطموح؛ في نظر الوالدين، كانت توفر هيكلية موثوقة لأعوام ما بعد المدرسة، وكذلك شبكة أمان. لكن تلك المعادلة القديمة العهد تتلاشى.
اليوم، نادراً ما تضمن الشهادات الجامعية الوظائف التي كانت تضمنها سابقاً: يسجل عدد الوظائف المتاحة للخريجين أدنى مستوياته منذ سبعة أعوام بحسب تقارير حديثة، وتصبح الوظائف الابتدائية أو الأولية نادرة، إذ تعيد خوارزميات الذكاء الاصطناعي تشكيلها بالكامل. وهذه المشكلة عالمية: أفادت مجلة "فورتشن" الاقتصادية أخيراً بأن "الدراسة الجامعية كانت تفتح الأبواب سابقاً، لكن الخريجين الآن – حتى أولئك الذين يحملون شهادات ماجستير منهم – يرسلون 60 طلب عمل شهرياً من دون جدوى".
قد يُسجل أغسطس 2025 بوصفه الشهر الذي بدأ فيه الذكاء الاصطناعي ينعكس بوضوح على بيانات سوق العمل، ويستبعد خبراء أن تتباطأ وتيرة التغيير مع تضاعف قوة نماذج الذكاء الاصطناعي كل بضعة أشهر.
يشرح إغناسيو بالوميرا، الرئيس التنفيذي لمنصة "بوندكس" Bondex المتخصصة في التوظيف والشبكات المهنية عبر تقنيات الجيل الثالث من الإنترنت، قائلاً: "يلغي الذكاء الاصطناعي الدرجة الأولى من السُلم الوظيفي في الشركات، ولا سيما في الاقتصادات والقطاعات التي يهيمن عليها العمل المعلوماتي".
ويضيف "لا تتعلق المسألة بمجرد فقدان وظائف في مقابل اكتساب وظائف، بل كذلك بتحول غير متوازن إذ تُلغَى المهام بسرعة أكبر فلا تستطيع السوق أن تستوعبه أو تعيد تأهيل المتضررين. والضحايا الأوائل هم العاملون في بدايات مسيرتهم المهنية والموظفون ذوو التخصصات العامة متعددو المهام".
نشرت "مايكروسوفت" حديثاً دراسة أظهرت الوظائف الـ40 الأكثر (والأقل) عرضة إلى خطر الذكاء الاصطناعي. من بين أولئك الأكثر عرضة إلى التهديد: علماء البيانات، ومطورو الإنترنت، والمستشارون الماليون، والمحللون الإداريون، والعاملون في الإعلانات والعلاقات العامة. كذلك اعتُبِر علماء السياسة، والمؤرخون، والمترجمون، وعلماء الرياضيات في دائرة الخطر العالي. وتفيد بعض الشركات الاستشارية الكبرى ومكاتب المحاماة أيضاً بأنها تؤتمت الوظائف الأولية.
هذه كلها وظائف يلتحق الطلاب بجامعات بهدف الحصول عليها. ولهذا بدأ كثيرون يتساءلون ما إذا كانت تكلفة الدراسة الجامعية تستحق العناء (يبلغ متوسط دين الخريج 53 ألف جنيه إسترليني / حوالى 72 ألف دولار). ومع ارتفاع تكاليف المعيشة، أصبحت قروض الإعالة [مصروف الطالب المعيشي الذي تقرضه له الدولة ويُسدَّد بعد التخرج] لا تغطي سوى نصف ما يحتاج إليه الطالب طوال أعوامه الدراسية الثلاثة. أصبحت "التجربة الجامعية" امتيازاً نادراً.
نسبة أكبر من الطلاب باتوا يعيشون في منازلهم أثناء التعليم العالي (30 في المئة في العام الدراسي 2024 / 2025)، مما يعني أن الجامعات تنفق أقل على أنشطة مثل استقبال الطلاب الجدد؛ كما أن السكن الجامعي بات يُبنى ويُدار غالباً من قبل شركات تجارية خاصة، في ظل غياب سقف محدد لأعداد المقبولين في الجامعات، أصبحت أحجام الصفوف كبيرة إلى حد يجعل الأجواء انعزالية.
أما بالنسبة إلى الأهل الذين يتابعون المشهد، متخيلين أن أبناءهم المراهقين سيعيشون تجارب شبيهة بما خاضوه هم قبل عقود، فقد كانت الأعوام الأخيرة بالنسبة إليهم رحلة مليئة بالتقلبات أيضاً. يخبرني جو أن والديه، اللذين درسا في الجامعة، كانا يحثّانه دائماً على الاجتهاد في المدرسة كي يحظى بالفرصة نفسها. لكن، ومع تحولات سوق العمل بفعل التقدم التكنولوجي، غيّر كثير من الآباء وجهة نظرهم أو خففوا من تشددهم.
يقول أحد الأهل: "قبل عام واحد فقط، كنت أؤكد لابني أن الخريجين يكسبون أكثر من غير الخريجين، في محاولة لإقناعه بقيمة الحصول على شهادة جامعية. لكن بعد عام، ظهر مشهد مختلف تماماً. بدلاً من أن تكون فرصة مذهلة، أراها الآن مجرد استنزاف باهظ، وسوق العمل تتغير بسرعة كبيرة بفضل الذكاء الاصطناعي، لدرجة أن كل ما اعتقدناه عن الوظائف الجامعية – من راتب جيد وضمان للمستقبل – انقلب رأساً على عقب".
حتى وظائف التكنولوجيا التي كانت قبل بضعة أعوام تعد بمستقبل مشرق ومداخيل مالية أكثر من جيدة، انقلبت رأساً على عقب. يقول الوالد: "درس ابني الأكبر علوم الكمبيوتر في الجامعة، ولذلك اعتقدت أن مستقبله مضمون – لكنني كنت مخطئاً. هذا العام، بدلاً من التشجيع على الالتحاق بالجامعة، أقول لابني الأصغر: ما هي الوظائف التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها؟ ابدأ من هناك، وربما تعلم بطريقة أخرى. احصل على مهنة يدوية، أو سافر للعمل في الخارج، بدلاً من البقاء في ليدز".
تشرح الكاتبة والخبيرة في شؤون الجيل زد والجيل ألفا، كلوي كومبي، قائلة: "كانت هناك وعود زائفة كثيرة. مثلاً، تحدثت أخيراً إلى كثيرين من المبرمجين الشباب وخريجي علوم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات وهو مجال وُعِدوا بأنه سيمنحهم رواتب من ستة أرقام وسيكون في طليعة الفرص المهنية. لكن مع حلول الذكاء الاصطناعي خلال العامين الماضيين، انهارت هذه الوعود تماماً".
وتقول كومبي إن السلم الوظيفي يصبح بسرعة "سباقاً نحو القاع" في معظم القطاعات. وتشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يغير العملية بأكملها. وتضيف: "لا أستطيع أن أصف لك عدد الشباب الذين قالوا لي أخيراً إن مقابلات توظيف أُجرِيت لهم عبر الذكاء الاصطناعي". لكنها تلفت إلى أنها ترى جانباً إيجابياً أيضاً.
تقول "ثمة نهضة حقيقية للمهارات التي لا تقدمها المدارس في الغالب، مثل اللغات العربية واليابانية والصينية؛ كذلك يبحث أصحاب العمل دوماً عن خبراء في حل المشاكل، وأشخاص ذوي روح إيجابية ومهارات تواصل ممتازة. سيجعلنا ذلك، بطرق كثيرة، نعيد النظر في الجوانب الإنسانية ونعاود تقديرها".
يتوقع البعض أن يؤدي هذا التوجه – تقدير المهارات الإنسانية ومن ثم المهارات اليدوية – إلى نهضة تتمثل في ولادة طبقة عاملة جديدة. في مواجهة الاضطراب الناجم عن الذكاء الاصطناعي، تحظى المهن اليدوية باحترام متزايد: أظهر استطلاع أجرته منصة "زيتي" ونشرته صحيفة "نيويورك بوست" أن 53 في المئة من مواليد الجيل زد يرون أن الوظائف اليدوية أكثر مقاومة للأتمتة، بينما لا يعتقد 65 في المئة أن الشهادة الجامعية توفر حماية من فقدان الوظائف بسبب الذكاء الاصطناعي.
كذلك أوضحت دراسة "مايكروسوفت" الوظائف الأقل عرضة إلى خطر، مثل وظائف العاملين في التنظيف، والعاملين في بناء الأسقف وصيانتها، والدهانين، والتقنيين العاملين في سحب الدم في المختبرات، والممرضين المساعدين.
كتب أندرو يانغ، رائد الأعمال والمرشح الرئاسي الأميركي السابق ومؤلف كتاب "الحرب على الناس العاديين: الحقيقة حول اختفاء الوظائف في أميركا ولماذا يشكل الدخل الأساسي الشامل مستقبلنا" The War on Normal People: The Truth About America’s Disappearing Jobs and Why Universal Basic Income Is Our Future، في نشرته على منصة "سابستاك" Substack يقول: "شيخوخة السكان وصعوبة أتمتة سحب الدم أو الرعاية الصحية المنزلية، والنقص المتواصل في أعداد الممرضين، كلها عوامل تشير إلى أن التوجه إلى هذه المجالات قد يضمن وظائف آمنة. سأشعر بثقة أكبر إذا رأيت شخصاً يدرس التمريض بدلاً، مثلاً، من القانون".
جيل "حزام الأدوات"، كما بدأ يُسمى، ينطلق بالفعل. مع اعتراف المجتمع بقيمة العمل اليدوي أو مهارات الرعاية الصحية وإعادة تقييمه لها – ليس فقط بوصفها "خطة احتياطية"، بل باعتبارها كذلك خياراً مهنياً حقيقياً – قد ينال هذا المسار الاحترام الذي طالما كان محجوزاً للمهن التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى.
لكن هذا لا يعني غياب العوائق: بينما يبدو من المريح لجيل ما أن يدرك أن الدراسة الجامعية ليست سوى دفع لمبالغ باهظة في مقابل فرصة للانتماء إلى الطبقة الوسطى – ويرفض المشاركة في المنظومة الكبرى التي تزعم أن سوق العمل تستند إلى الجدارة بدلاً من أن يديرها الأثرياء – ليست ممهدة بالكامل.
تشير كومبي إلى أن هذا كله لا يزال جديداً نسبياً – وأن من دون ذلك المسار المنظم للسنوات التالية من الحياة، يظل كثيرون من الشباب عالقين من دون بديل مناسب يمكنهم من تحقيق الأمن المالي والنجاح.
وتلاحظ كومبي قائلة "حتى لو سأل المرء معظم البالغين عن بديل فاعل للجامعة أمام شاب في الـ18من عمره، لن يعرفوا الإجابة. ربما يذكرون شيئاً غامضاً عن التدريب المهني، لكن من دون أن يملكوا معلومات أعمق حوله". وعلى رغم أن الإعلانات عن الوظائف الشاغرة التي تشير إلى التدريب المهني ارتفعت بنسبة 5.3 في المئة وفق موقع "لينكدإن"، لا يعرض موقع خدمة القبول الجامعي سوى نحو 5 آلاف برنامج فقط.
وتضيف كومبي "نحن في زمن مثير للاهتمام – لكن ثمة كثيراً من الشكوك، ولا يتوافر تركيز كافٍ أو استثمار كافٍ في مسارات مهنية مجدية وقابلة للاستمرار بخلاف المسار الجامعي". ومع ذلك، بدأ رهان جو يؤتي ثماره بالفعل. يقول: "تعلمت خلال العامين الماضيين من إدارة عملي الخاص أكثر مما كنت لأتعلمه في ثلاثة أعوام من المحاضرات". كذلك وفر على نفسه ديوناً لا تقل عن 50 ألف جنيه إسترليني، وبدأ بدلاً من ذلك في جني المال.
ويستدرك قائلاً: "ليس الأمر أنني أعتقد أن على الجميع تجنّب الجامعة، لكن بالنسبة إليّ كان بناء شيء ملموس أكثر منطقية. حتى لو لم ينجح الأمر، فإن التوجه إلى صاحب عمل محتمل وأنا أملك هذه التجربة سيكون أكثر قيمة".
اليوم، يحين دور شقيقه الأصغر بارنابي ليستيقظ من نومه في يوم إعلان النتائج ويستلم المغلف المهم. لكنه، مثل جو، لن يسارع إلى تسجيل الدخول إلى خدمة القبول الجامعي أو يمر بتجربة القبول المتأخر. بدلاً من ذلك، سينضم إلى شقيقه في أعماله.
يقول لي "بدأتُ بالفعل العمل بدوام كامل معه – فور انتهائي من المدرسة الثانوية". ومع أن معظم أصدقائه سيلتحقون بجامعات، اتجه بعضهم إلى المهن اليدوية. "فكرت ببساطة، إن الدراسة الجامعية باهظة جداً حالياً – كان هذا عاملاً مهماً. واستطعت أن أرى أنني سأستفيد أكثر من خبرة عملية متنوعة وتعلم مهارات عديدة بدلاً من دفع تلك الأموال كلها للحصول على شهادة".
هذا العام، وكما سيحدث لأعوام عديدة مقبلة، سيُقَال لبعض طلاب الثانوية العامة البريطانية إن الجامعة هي الطريق "المناسبة" و"الصحيحة" الوحيدة للنجاح. لكن في عالم متغير بسرعة ولا يعرف أحد ما سيأتي، ستكون دفعة عام 2025 هي الدفعة التي تتولى شق الطريق الجديدة – وإعادة كتابة القواعد بالكامل.
© The Independent