ملخص
هذه "الحرب الطبقية" لها عواقب مباشرة، إذ إن أعلى 10 في المئة من أصحاب الدخل في المملكة المتحدة يسهمون بنحو 60 في المئة من الإيرادات الضريبية.
لن تعالج الضرائب المرتفعة التآكل المزمن في المالية العامة البريطانية، إذ وصلت حكومة حزب العمال إلى الحدود القصوى لمنحنى "لافر" (علاقة نظرية في الاقتصاد تظهر كيف تتغير الإيرادات الضريبية الحكومية استجابة لاختلاف معدلات الضرائب).
باتت المملكة المتحدة عند النقطة الحرجة أو ربما تجاوزتها، إذ يؤدي أي رفع إضافي للضرائب إلى نتائج عكسية، فالضرائب المفرطة تقوض القاعدة الإنتاجية للاقتصاد، وتدفع برأس المال والكفاءات إلى الهرب، لتسفر في النهاية عن تراجع في الناتج المحلي الإجمالي الذي يقوم عليه تمويل الدولة، مما يعني أنها تغذي الحلقة المفرغة بدلاً من كسرها.
ستيفن جين وجوانا فرير من شركة "يوريزون SLJ كابيتال" حذرا من أن بريطانيا تنتقل إلى "الجانب الخطأ" من منحنى "لافر"، في وقت بدأت فيه إيطاليا تعود إلى "الجانب الصحيح" بعدما واجهت خطر الانهيار المالي. وقالا "نحن قلقون في شأن المملكة المتحدة. ما لم يكن هناك إدراك سياسي واجتماعي بأن دولة الرفاه الممولة بضرائب متزايدة باستمرار غير قابلة للاستمرار، فإن المسار المالي سيواصل التدهور إلى أن نشهد ما يمكن وصفه بـ'لحظة ستارمر'"، في إشارة إلى "لحظة تراس" حينما انقلبت أسواق السندات ضد رئيسة الوزراء السابقة.
وتدير "يوريزون" استثمارات لصناديق ثروة في آسيا والشرق الأوسط، وتمثل في ذلك نظرة من خارج "الفقاعة البريطانية" الداخلية. ومنحنى "لافر" – الذي رسم للمرة الأولى على منديل في مطعم "أوكسيدنتال غريل" بواشنطن – يوضح حقيقة بديهية: إذا كانت الضرائب صفراً فإن الإيرادات ستكون صفراً، وإذا بلغت 100 في المئة فإن الإيرادات أيضاً ستكون صفراً، وبين هاتين النقطتين تقع ذروة العائدات الممكنة. وبطبيعة الحال، يمكن استنزاف اقتصاد أسير لفترة قصيرة، لكن منحنى "لافر" يظل حاضراً ليعيد التوازن في النهاية.
المأزق البريطاني ليس أزمة ديون في حد ذاته، فالمملكة المتحدة تعد من أقل الدول مديونية في العالم المتقدم، فهي تمتلك ثاني أدنى نسبة دين سيادي إلى الناتج المحلي الإجمالي بين دول مجموعة السبع، علاوة على أن ديون القطاع الخاص تراجعت من 165 في المئة إلى 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بعد عملية تقليص للديون العقارية بلغت 600 مليار جنيه استرليني (810.4 مليار دولار).
وتظهر بيانات بنك التسويات الدولية أن إجمال الدين العام والخاص في بريطانيا انخفض إلى 225 في المئة من الناتج المحلي، مقارنة بالولايات المتحدة (249 في المئة) والصين (287 في المئة) وهولندا (306 في المئة) وكندا (312 في المئة) وفرنسا (323 في المئة) واليابان (287 في المئة). وعلى رغم هذا الوضع "المطمئن"، تقول التحليلات إن سوء الإدارة وحده قادر على تحويل هذه الصورة الإيجابية إلى أزمة في سوق السندات البريطانية (gilts).
ولا تعاني المملكة المتحدة نقصاً في الإيرادات الضريبية، إذ ارتفعت حصيلة الضرائب بنسبة 51 في المئة بين 2019 و2024 بسبب "زحف الشرائح الضريبية"، في حين بلغت معدلات التضخم التراكمية 24 في المئة والناتج المحلي الاسمي 28 في المئة، لكن هذه الأموال أهدرت في تمويل إعانات للعاطلين من العمل بدلاً من استثمارها في مشاريع تعزز النمو.
ويشير ستيفن جين وجوانا فرير إلى أن بريطانيا وصلت إلى وضع "صعب"، إذ يوجد لديها 17 ضعف عدد الأشخاص في سن العمل الذين يتلقون إعانات بطالة مقارنة بالولايات المتحدة، وغالباً استناداً إلى أسباب تتعلق باضطرابات نفسية غير مثبتة. ولفتا إلى أن سياسات حزب العمال جعلت الثروة "غير مرحب بها"، مما دفع نحو 16500 مليونير إلى مغادرة البلاد هذا العام وحده، أي ضعف عدد الأثرياء الصينيين الفارين من سياسات شي جينبينغ.
هذه "الحرب الطبقية" لها عواقب مباشرة، إذ إن أعلى 10 في المئة من أصحاب الدخل في المملكة المتحدة يسهمون بنحو 60 في المئة من الإيرادات الضريبية، وكثير منهم ينتقلون إلى ميلانو إذ تفرش حكومة جورجيا ميلوني "السجادة الحمراء" لهم.
وترى "يوريزون" أن بريطانيا قطعت شوطاً بعيداً في طريق الاعتماد على دولة الرفاه، إلى حد أن "الحمض النووي الاقتصادي الأساسي" للبلاد بدأ يتغير، بما يقوض العقد الضمني مع دائنيها العالميين وحملة الأسهم البريطانية.
هل اقتربت بريطانيا من نقطة التحول المالية؟
مارك داودينغ من "آر بي سي بلو باي لإدارة الأصول" خلص إلى النتيجة القاتمة نفسها وقال لصحيفة "تليغراف"، "القضية المركزية هي الانطباع بأن الإنفاق على الرفاه يظل على مسار غير قابل للاستمرار. الإجراءات الضريبية التي اتخذها حزب العمال حتى الآن لم تحل المشكلة، بل فاقمتها، فهي تولد مزيداً من التضخم، ومع هذا الكم الكبير من الديون المرتبطة بالتضخم، فإن النتيجة سترتد على الاقتصاد، ووزيرة الخزانة راشيل ريفز تلقت نصائح سيئة للغاية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال مارك داودينغ إن تراجع حزب العمال عن إصلاحات الرعاية الاجتماعية كان بمثابة "سم سياسي" لبريطانيا، موضحاً "إنهم يبعثون برسالة للعالم مفادها أن الأداة الوحيدة المتاحة لهم للسيطرة على العجز هي مزيد من الضرائب، لكن الضرائب وحدها لن تنجح أبداً". وأضاف أن هذه السياسة "أضرت كثيراً بصدقية المملكة المتحدة، ومنذ ذلك الحين نشهد أداءً ضعيفاً للسندات البريطانية مقارنة ببقية أسواق الدين". وتشير تقديرات "بلو باي" إلى أن كلفة الفائدة تجاوزت بالفعل 10 في المئة من إجمال الإيرادات الضريبية، وهو مستوى يعد بمثابة "إنذار أحمر" لوكالات التصنيف.
هل تحتاج بريطانيا إلى خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي؟
ويرى داودينغ أن بريطانيا تقترب من "نقطة التحول المالية"، إذ يدرك المستثمرون أن ارتفاع العوائد سيزيد من تفاقم العجز. وعلى رغم أن أحدث موجة اضطراب في أسواق السندات العالمية ستتراجع خلال الأشهر المقبلة مع تباطؤ الاقتصاد الأميركي وتزايد الضغوط الانكماشية القادمة من الصين، فإن الطريق الحالي محفوف بالأخطار، في حين أن القرار الأذكى الذي اتخذته راشيل ريفز كوزيرة للخزانة، بحسب المقال، هو تأجيل إعلان الموازنة حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ويؤكد المحللون أن الفارق في العوائد مقارنة بنظراء بريطانيا في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يعود أساساً إلى التضخم المرتفع، الذي غذته سياسات حزب العمال تجاه الشركات وارتفاع الأسعار المنظمة، مثل زيادة فواتير المياه بنسبة 26 في المئة، إلى جانب الآثار المتأخرة لأسعار الطاقة. وتتوقع مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" أن ينخفض معدل التضخم الرئيس إلى 2.2 في المئة بحلول نهاية 2026، ليتماشى مجدداً مع منطقة اليورو.
في حين لن تعكس المؤشرات الأخرى أخطار إفلاس، إذ لا تزال عقود مبادلة أخطار الائتمان للمملكة المتحدة عند 19 نقطة، وهو مستوى أدنى من اليابان (20) وأقل كثيراً من الولايات المتحدة (35) وفرنسا (38) وكندا (40)، علاوة على أن مزاد السندات البريطانية لأجل 10 أعوام هذا الأسبوع شهد طلباً هائلاً فاق المعروض بـ10 مرات، في حين أن ارتفاع عوائد السندات لأجل 30 عاماً فسر كمسألة فنية بحتة.
ويشير متخصصون إلى أن بريطانيا، كدولة متقدمة تقترض بعملتها الخاصة وتمتلك بنكاً مركزياً وسلطة إصدار نقدي، ليست في حاجة إلى إنقاذ من صندوق النقد الدولي كما حدث في 1976، وهو ظرف استثنائي ارتبط بمرحلة ما بعد انهيار نظام "بريتون وودز". حينها كانت البلاد في فوضى سياسية واقتصادية خانقة مع تضخم عند 27 في المئة وحكومة فقدت غالبيتها البرلمانية.
واليوم، ما زال كير ستارمر يتمتع بغالبية مريحة، والانضباط السياسي قائم، بخلاف ما يحدث في فرنسا. ومع ذلك يرى محللون أن بريطانيا "تغازل القدر" بسياساتها الحالية، وأنها تقترب تدريجاً من فخ الفوائد المركبة. ومع تفاقم الأوضاع المالية في دول عدة، يتأهب المستثمرون لأي مؤشرات إلى افتقار السياسيين للشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة، ولجوئهم إلى حلول سهلة مثل التخلف غير المباشر عن السداد أو القمع المالي.
والرسالة واضحة مفادها على حزب العمال أن يثبت أنه قادر على كبح الإعانات المفرطة ومعالجة سوء استخدام نظام الرعاية. أما الاعتماد على زيادات ضريبية سريعة لترضية قاعدة مالية آنية، فلن يقنع "رأس المال العالمي الكبير"، الذي يريد إجابة واحدة: متى ستتوقف الحكومة البريطانية عن تعزيز "ثقافة الإعالة" وتعيد ملايين البريطانيين العاطلين إلى سوق العمل؟