ملخص
أوضح محللون لـ"اندبندنت عربية"، أن الاقتصاد الإيراني دخل مرحلة "التضخم المزمن" العابر للمستويات الآمنة.
تتحرك المؤشرات الاقتصادية في إيران نحو منطقة الاضطراب الشديد، إذ يثير التدهور المتسارع في مستويات المعيشة تساؤلات حول تحول الاقتصاد إلى ضغط اجتماعي متزايد.
ويواجه صانعو القرار في طهران معضلة مزدوجة تتمثل في عجزهم عن كبح التضخم الجامح وفقدان السيطرة على العملة المحلية، مما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للطبقات المتوسطة والفقيرة في ظل غياب حلول هيكلية ناجزة.
يعكس المشهد المالي الجاري حال اختلال عميق، إذ لم تعد التدخلات النقدية التقليدية كافية لترميم الثقة في الريال الذي يواصل هبوطه التاريخي أمام الدولار الأميركي.
امتد تأثير هذا الانهيار ليعمق فجوة البطالة بين الشباب والخريجين، مما خلق احتقاناً في الشارع الإيراني الذي يرى في العقوبات الدولية وسوء الإدارة عوائق أمام استعادة التوازن، وسط تقارير تشير إلى وصول معدلات التضخم في السلع الأساسية إلى مستويات قياسية.
أرقام التضخم وانهيار الريال التاريخي
أوضح محللون لـ"اندبندنت عربية"، أن الاقتصاد الإيراني دخل مرحلة "التضخم المزمن" العابر للمستويات الآمنة، إذ تؤكد بيانات مركز الإحصاء الإيراني استقرار معدل التضخم السنوي فوق 45 في المئة كمتوسط عام، وسجلت مجموعات الغذاء والسلع الاستهلاكية الأساسية قفزات تجاوزت 65 في المئة، متزامنة مع انهيار تاريخي في قيمة الريال بنحو 55 في المئة في السوق الموازية خلال عام 2025
تجاوز سعر صرف الدولار مستويات قياسية أدت إلى شلل في سلاسل التوريد وارتفاع كلفة الاستيراد بنسب لا تتحملها الميزانية العامة المنهكة بعجز يتجاوز 30 في المئة من الإنفاق المقدر (ما يعادل تقريباً 12.5 مليار دولار وفق ميزانية العام).
وبين المحللون أن رد الفعل الحكومي لم يخرج عن "المسكنات النقدية"، إذ حاول البنك المركزي التدخل عبر ضخ محدود للعملة الصعبة وتشديد الرقابة على مكاتب الصرافة، وهي إجراءات يرونها عقيمة أمام اتساع الفجوة بين السعرين الرسمي والواقعي.
أشارت بيانات البطالة الرسمية إلى حصرها عند 9.2 في المئة، لكن مراكز البحوث البرلمانية تكشف واقعاً أقسى يتجاوز 28 في المئة بين الشباب والخريجين، مع دخول أكثر من 30 مليون إيراني تحت خط الفقر المطلق، مما يجعل الوعود بالدعم النقدي غير ذات جدوى أمام تآكل قيمته (التي تبلغ نحو 400 ألف ريال أو ما يعادل 0.44 دولار للفرد) قبل وصولها لمستحقيها.
من الضغوط المالية إلى وقود التوتر الاجتماعي
أوضح المحللون أن انتقال الغضب من الهوامش إلى قلب "بازار طهران" التاريخي يمثل منعطفاً استراتيجياً، إذ بدأ تجار البازار– عماد الاقتصاد التقليدي– في إرسال إشارات احتجاجية ضد العائقين السعري والقيود المصرفية.
يعزز الارتباط التاريخي بين إضرابات البازار والتحولات الكبرى فرضية تحول الأزمة إلى محرك حراك، خصوصاً مع عجز عن توفير المواد الخام وارتفاع الضرائب بنسب تصل إلى 40 في المئة لتغطية العجز النفطي.
لفت المحللون إلى أن "الطريق المسدود" يتغذى على العزلة الدولية وتوقف المفاوضات النووية، مما أدى إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية إلى أدنى مستوياتها.
يجد النظام نفسه في "كماشة" اقتصادية، شارع محتقن بأرقام بطالة وفقر غير مسبوقة من جهة، وعجز عن "إعادة الضبط" الهيكلية من جهة أخرى، مما ينذر بصيف اقتصادي ساخن إذ تعبر الأرقام عن تصدع في الاستقرار الاجتماعي.
مرحلة الانكماش الاقتصادي
أظهرت بيانات حكومية دخول الاقتصاد مرحلة انكماش بنسبة 0.6 في المئة خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية، متأثراً بالعقوبات وسوء الإدارة الهيكلية، وشمل التدهور قطاع البناء بانكماش 12.9 في المئة، يليه الصناعي والزراعي، فيما لم يعوض النمو المحدود في إنتاج النفط بنسبة 1.1 في المئة الركود العميق.
تفاقمت أزمة التضخم إلى 52.6 في المئة مدفوعة بزيادات غذائية بلغت 72 في المئة، مما أدى إلى تآكل القوة الشرائية وتوحش معدلات الفقر التي تحاصر نصف السكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتجاوز سعر الدولار في السوق الحرة 137 ألف تومان (أي 1.37 مليون ريال إيراني للدولار الواحد)، عمّق الأزمات المالية وزاد كلفة الإنتاج، على رغم تأكيدات البنك المركزي على احتياطات النقد الأجنبي والذهب.
أزمة هيكلية عميقة
أكد المختص الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة أن الأزمة الهيكلية عميقة في ظل العقوبات الدولية، معتبراً الخيارات الالتفافية غير كافية لترميم التصدعات المعيشية.
اعتمدت إيران على "أسطول الظل" لتصدير النفط محققاً مليارات الدولارات (تقدر بنحو 28 مليار دولار أمريكي سنوياً)، لكن وُجهت نحو المجهود الأمني بدلاً من الاستثمار الاقتصادي.
لفت عجاقة إلى حاجة الاقتصاد لمئات المليارات (ما يزيد على 300 مليار دولار) لاستعادة التوازن، مشيراً إلى تشديد الرقابة واعتراض السفن كعوامل تفاقم التدهور، وفرض الولايات المتحدة عقوبات على الشركات الصينية قوّض المناورة المالية، متوقعاً سوءاً متسارعاً ينعكس في الاحتجاجات نتيجة التضخم وانهيار الريال.
خلص عجاقة إلى ضرورة اتفاق دولي كمخرج وحيد لتخفيف الضغوط وإعادة إنعاش القدرة الشرائية وتوفير المواد الأساسية، في عبء معيشي لا يُحتمل.
آراء المؤسسات المالية الدولية في اقتصاد إيران
يرى خبراء البنك الدولي في تقرير صدر، أخيراً، أن الاقتصاد الإيراني يمر بمرحلة "تباطؤ حرج"، إذ خُفضت توقعات النمو لعام 2025 إلى أدنى مستوياتها في خمسة أعوام، مع تحذيرات من أن نقص الطاقة والمياه بات يمثل عائقاً بنيوياً يعطل الإنتاج الصناعي والزراعي.
ولفت المختصون في البنك الدولي إلى أن هذا الانكماش سيؤدي حتماً إلى انزلاق نحو مليوني شخص إضافي تحت خط الفقر خلال العام المقبل، نتيجة غياب الاستثمارات الحقيقية في القطاعات غير النفطية التي سجلت نمواً يقترب من الصفر.
ويتداخل هذا الطرح مع تحليل صندوق النقد الدولي الذي وصف الوضع المالي الإيراني بأنه يواجه "تحديات نقدية غير مسبوقة"، مؤكداً أن الفجوة المتسعة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الحرة، إلى جانب التوسع النقدي لتمويل عجز الموازنة، خلقت بيئة من "عدم اليقين المزمن" التي تجعل محاولات البنك المركزي لضبط الأسواق مجرد مسكنات مؤقتة.
وبين خبراء صندوق النقد الدولي أن الاعتماد المفرط على صادرات النفط للالتفاف على العقوبات الأميركية لم ينجح في توفير سيولة كافية لترميم البنية التحتية المتهالكة، وهو ما يعزز رؤية وحدة الاستخبارات الاقتصادية بأن التضخم في إيران تحول إلى "تضخم هيكلي" متجذر ناتج عن انهيار سلاسل الإمداد، وليس مجرد ظاهرة نقدية يمكن السيطرة عليها بالأدوات التقليدية.
وأشار تحليل وحدة الاستخبارات الاقتصادية لمجلة "إيكونوميست" الصادر الأسبوع الماضي، إلى أن إيران تعاني حالياً "اقتصاد استنزاف"، إذ أدت التوترات الجيوسياسية المستمرة إلى أضرار هيكلية في قنوات التجارة الرسمية، مما جعل "اقتصاد الظل" غير قادر على تعويض النقص الحاد في السيولة الأجنبية. ويتفق هذا المنظور مع رؤية محللي "بلومبيرغ إيكونوميكس" الذين رصدوا ظاهرة "التآكل الصامت" للأصول، إذ سجل الريال الإيراني تراجعاً وضعه ضمن أسرع العملات انهياراً في عام 2025، مما دفع رؤوس الأموال المادية والبشرية نحو "الهروب الصامت" للبحث عن ملاذات آمنة بعيداً من العملة المحلية التي فقدت وظيفتها كمخزن للقيمة.
وخلصت التحليلات المتقاطعة لهذه المؤسسات إلى أن الموازنة العامة التي قدمتها الحكومة الإيرانية، أخيراً، تعكس "انفصالاً عن الواقع"، إذ تفرض سياسات انكماشية على القوة الشرائية للأسر في بيئة تضخمية تتجاوز 40 في المئة. وأكدت وكالة "بلومبيرغ" أن وصول معدلات الفائدة الحقيقية إلى مستويات سالبة حادة دفع النظام المالي إلى طريق مسدود، مما يضع الاقتصاد الإيراني أمام "سيناريو مفتوح" على أخطار الاضطراب الاجتماعي، ما لم يحدث خرق جوهري في ملف العقوبات الدولية يتيح تدفق الاستثمارات الرأسمالية وإعادة دمج النظام المصرفي الإيراني في القنوات المالية العالمية.