ملخص
أهمية دور أطباء الأسنان الشرعيين في تحديد هوية الرفات، وهو ما يسمى بالاستعراف، ويتضمن تحديد الجنس وتقدير العمر.
في أواخر مارس فتح مركز الاستعراف للطبابة الشرعية أبوابه في مبنى العيادات الشاملة بمنطقة الزاهرة الجديدة في دمشق.
المركز الجديد الذي أنشئ بعد التحرير يستقبل الهياكل العظمية مجهولة الهوية لأخذ بياناتها الكاملة من دراسة إنتربولوجيا لكامل الهيكل، وهنا بدأ يتكشف دور أساس لأطباء الأسنان وخبرتهم بالكشف عن بصمة الأسنان وأرشفتها، باستخدام مخبر خاص لإعادة تصنيع الوجه للجثث المجهولة وخصوصاً إذا كانت الجمجمة مهشمة.
على منضدة مستطيلة تصطف عظام رفات شخص مجهول في مركز يتبع للطب الشرعي في العاصمة دمشق، يحاول الأطباء جاهدين تحديد هويته، في مشهد يلخص وجع أعوام طويلة أثقلت عائلة شخص تحول إلى رفات، وكم التعب والإرهاق اللذين رافقا عائلته لمعرفة مصيره وهم يتوقون إلى خبر عنه يشفي غليلهم.
الاستعراف وكشف الهوية
في مركز يطلق عليه "الاستعراف"، يحاول قلة من الأطباء تحديد هويات رفات مجهولة، لا سيما بعد سقوط النظام في أواخر العام الماضي 2024، والكشف عن مقابر جماعية أخذت تتكشف يوماً بعد يوم عن جماجم مثقوبة الرأس جراء رصاص اخترقها، أو هياكل عظمية مقيدة، كم هائل من الرفات ينقل إلى مراكز الطب الشرعي، إذ تعكف الكوادر الطبية وعلى رغم نضوب هذا الاختصاص وندرته، عن حل شيفرات هوية الهياكل العظمية.
في عام 2011، اندلع الحراك الشعبي في البلاد بغية الإصلاح، وسرعان ما تحول هدفه إلى إسقاط النظام، حينها ارتفع أزيز الرصاص ليسكت أصوات المتظاهرين المطالبين بالحرية. بعدها وتحديداً في عام 2013 بدأ النزاع المسلح يشق طريقه، ولقي سوريون حتفهم بتصفيات ميدانية، وباتوا مجرد أرقام بعد إخفاء القاتل هوية ضحيته المدفونة تحت التراب.
وفي أواخر شهر مارس (آذار)، فتح مركز الاستعراف للطبابة الشرعية أبوابه في مبنى العيادات الشاملة بمنطقة الزاهرة الجديدة في دمشق، ولم يخف وقتها ماهر الشرع الذي كان يشغل منصب وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال قبل انتقاله إلى منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية بعد تشكيل الحكومة الجديدة، أهمية هذا المركز كونه يعمل على كشف الجثث للتعرف عليها وتحليل معلوماتها وحفظها، ويرى في هذا المركز "نقلة نوعية بمجال الطب الشرعي في سوريا".
المركز الجديد الذي أنشئ بعد التحرير يستقبل الهياكل العظمية مجهولة الهوية لأخذ بياناتها الكاملة من دراسة إنتربولوجيا لكامل الهيكل، وهنا بدأ يتكشف دور أساس لأطباء الأسنان وخبرتهم بالكشف عن بصمة الأسنان وأرشفتها، باستخدام مخبر خاص لإعادة تصنيع الوجه للجثث المجهولة، وخصوصاً إذا كانت الجمجمة مهشمة.
يعمل المركز الطبي بكامل طاقته عبر غرف تبريد وتحليل أولي وغسيل وتنشيف وأشعة وحفظ عينات، بينما مكتب الاستقبال يتلقى المعلومات من أهالي المفقودين، ويجتهد الأطباء على جمع البيانات وأرشفتها. وفي هذا الشأن يقول طبيب الأسنان الشرعي رئيس مركز الاستعراف أنس الحوراني "هناك طرق عدة للتعرف على الجثث منها اختبار الحمض النووي ’دي أن إيه‘ أو بصمات الأسنان في سياق معرفة حقيقة الرفات وهويتها"، وذلك بتصريح صحافي ألقاه على هامش افتتاح مركز الاستعراف، وتشير المعلومات عن افتتاح مراكز مشابهة في محافظات سورية عدة بالشمال.
بصمة الأسنان
في غضون ذلك يتابع أطباء الأسنان الشرعيون عملهم بجهود شاقة، ويعكفون على ترتيب الجماجم المهشمة إلى قطع، وبعد رحلة تعب ودراسة، وعلى رغم قلة عدد الأطباء ووسط كم هائل من الرفات الواصلة إلى الطب الشرعي من المقابر الجماعية، ينجح هؤلاء بالتوصل إلى تحديد هويات الرفات.
وتحدثت الطبيبة الاختصاصية في طب الأسنان الشرعي وئام شوبك عن دور أطباء الأسنان الشرعيين المهم في تحديد هوية الرفات، وهو ما يسمى بالاستعراف، ويتضمن تحديد الجنس وتقدير العمر.
وتضيف "في ما يتعلق بتحديد الجنس كأطباء أسنان شرعيين فإن ذلك يحدث عن طريق فحص معالم الجمجمة، وبعض النقاط التشريحية فيها، إضافة إلى شكل القوس السنية، وكذلك الأمر يتعلق بتقدير العمر عن طريق الأسنان من خلال ملاحظة ما هي الأسنان البازغة، وذلك في مرحلة عمرية معينة للأسنان اللبنية والمختلطة، إضافة إلى ملاحظة بزوغ (الأرحاء) الثالثة سريرياً وشعاعياً".
وتعد طريقة "لاماندين" إحدى طرق تقدير العمر التي تتبعها طبيبة الأسنان الشرعية شوبك، تسمح للأطباء بتحديد البصمة السنية بالاعتماد على تطابق أسنان الجثة مع بيانات المفقود السنية في حال كان إيجابياً أو سلبياً.
وتعتبر الطبيبة شوبك المقابر الجماعية تحدياً كبيراً يحتاج إلى تعاون فريق كامل من أطباء الشرعيين البشريين وأطباء الأسنان، إضافة إلى الفنيين وغيرهم من أصحاب الاختصاص أو باختصاصات مرتبطة بالطب الشرعي.
المقابر الجماعية
في الأثناء وبعد سقوط الأسد في عملية "ردع العدوان" يوم الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وصلت "اندبندنت عربية" إلى مدينة القطيفة (تبعد نحو 37 كيلومتراً من العاصمة دمشق)، وحضرت الكشف عن جزء من مقابر جماعية يقدر الخبراء عدد الضحايا فيها إلى 100 ألف شخص، مع وجود ما لا يقل عن 66 موقعاً لمقابر جماعية على امتداد البلاد.
وتحولت القطيفة، البلدة الواقعة في ريف دمشق الشمالي، إلى موقع دفن مركزي لضحايا التعذيب في السجون والمعتقلات وتصفيات النظام السابق الميدانية، بالمقابل تهيم السيدة "ليلى" من دمشق على وجهها تتفقد الرفات، وأماكن الجثث بعد اكتشاف فريق من الدفاع المدني مقبرة القطيفة الجماعية.
تقول "كل ما شاهدته جماجم وهياكل عظمية، لكن أبحث عما يقودني إلى ولدي من ملابس أو أي شيء"، تجهش بالبكاء السيدة الخمسينية، وهي تروي تفاصيل مغادرة ابنها مع أولاده هرباً من المجاعة والحصار، "خرج ليلاً مع عائلات كثيرة للهرب من الحصار لينال قدره بانفجار ضخم هز المنطقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الشاب ياسر الطويل، من أبناء منطقة القطيفة، يروي ما حدث بالقرب من بحيرة العتيبة من مجزرة دامية حصلت في الأعوام الأولى من الحرب بعد تلغيم الطريق من النظام السابق عندما اكتشف أن هناك عائلات تهرب من دوما، إذ أطبق النظام وقتها على كامل الغوطة وحاصرها، وهربت العائلات من مجاعة الغوطة، وبعد تفجير الآلاف من السوريين دفنوهم هنا.
يتواصل العمل الطبي ليلاً ونهاراً لتحديد هويات الرفات بينما نفوس تترقب أي خبر يأتي ليدفنوا أحبتهم بطريقة كريمة، في الأثناء يطلب الأطباء مزيداً من الخبرات الطبية في هذا المجال، ولا سيما أطباء الأسنان للمساعدة، وفق مصدر خاص في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أعلن "أن اللجنة لا تشارك بصورة مباشرة في استعادة الرفات البشرية أو تحديد تهويتها، ومع ذلك تقدم اللجنة الدعم للسلطات والجهات الرسمية المتخصصة بهذه المهمة، وتوفر لها الخبرة الفنية اللازمة لتمكينها من اكتساب المعارف والأدوات المطلوبة التي تحسن من خلالها إدارة جثث الموتى وتحديد هويتهم".