Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاختفاء القسري في سوريا أرواح معلقة بين السماء والأرض

يوثق تقرير حقوقي نماذج وقعت بعد سقوط النظام مما يشير إلى أن هذه الانتهاكات لم تتوقف مع انتهاء حقبة الأسد

عائلات السوريين المفقودين في حالة بحث دائم عن دليل يوصل إلى أبنائهم (اندبندنت عربية)

ملخص

يأتي الحديث عن المفقودين والمختفين في سوريا تزامناً مع اليوم العالمي للمختفين قسراً والذي يحتفل به خلال الـ30 من أغسطس من كل عام، بهدف تسليط الضوء على معاناة ضحايا الاختفاء القسري وعائلاتهم، واعتمد هذا اليوم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2011 بهدف زيادة الوعي حول حالات الاختفاء القسري التي تحدث في جميع أنحاء العالم، وفرصة للتذكير بالآثار الإنسانية المترتبة عن هذه الظاهرة.

بضوء خافت منبعث من هاتفه النقال يبحث رجل خمسيني، أطلق على نفسه اسم أبو عمار، بلهفة يقلب سجلاً ورقياً قديماً أصابت أوراقه الاهتراء، وبالكاد تظهر حروفه. عدد من السجلات الشبيهة تناثرت في أرجاء "صيدنايا" أكثر سجون العالم عنفاً وقساوة، والذي تفوح من دهاليزه رائحة الدماء المتعفنة من غرف المنفردات، والتعذيب.
يخرج المدنيون حالياً، نساءً ورجالاً، من غرفة المشنقة إلى غرفة الإعدامات الميدانية بحثاً ولو عن خيط أمل، في ليلة اجتمع فيها اليأس والخيبة في مكان لا يعرف سوى الموت والوجع.

ليلة من الخيبة وآلام الفراق

في تلك الليلة الباردة جلست مئات العائلات التي تمكنت من كسر الطوق الأمني أمام سجن صيدنايا العسكري سيئ السمعة بعد يوم واحد من التحرير خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، بحثاً عن دليل بعد خروج الآلاف منه قبل يوم واحد، حين فتحت أبواب الزنزانات مُطلقة من قبع فيها إلى الحرية. هناك من فقد الأمل فأشعل النار في باحة السجن ليقضي بقية ليلته في أحضان مكان يتخيل طيف أحبابه فيه ويتساءل كيف عاشوا هنا؟ ومع ذلك عكف كثير من الشبان على الحفر بأيديهم، وبواسطة الآلات بحثاً عن سجن سري تحت الأرض تبين لاحقاً عدم وجوده.
"قضينا ليلتنا في إحدى غرف المراقبة حتى طلوع الضوء، وقبل أن نتابع طريقنا إلى زيارة المستشفيات التي نقلت إليها أعداد قليلة من النزلاء المصابين للعناية المركزة، شاهدنا شاحنات تحمل برادات نقلت جثثاً"، هكذا يروي أبو عمار قصة بحثه المضنية عن ابنه العشريني بعد سجن دام أكثر من خمسة أعوام تنقل خلالها بين مختلف الأفرع الأمنية، بعد اعتقاله من قبل الاستخبارات العامة المعروفة بـ"أمن الدولة". وبعدها اقتيد الشاب بعد تحقيقات استمرت لأكثر من عام ونصف العام إلى صيدنايا، الذي يصفه العامة بـ"المسلخ البشري".

السجين الناجي

داخل مستشفى "ابن النفيس" في دمشق تمكنا من الوصول إلى صبحي، أحد نزلاء سجن صيدنايا، بدا حليق الرأس وبرزت كدمات في وجهه وجروح في جسمه. أثناء حوارنا معه تمكنت عائلات عدة تبحث عن أبنائها من الوصول إليه، وأبرزت له صور مفقودين. وبصيغة تحمل كثيراً من الرجاء طلبت منه إحدى السيدات معاينة صورة ابنها وقالت "هل شاهدته بالسجن؟"، لكنه اعتذر لها "لم أشاهده". حوار سريع جرت بعده السيدة ذيول الخيبة وغادرت المكان. وعلى رغم الموقف الحزين، فإنه لدى سؤال رجل عن صورة أخيه، أكد له صبحي رؤيته في السجن، حيث كان يجلس معه في نفس (المهجع) الزنزانة قبل أشهر. ويقول "لا أعلم ماذا أقول لكل هؤلاء الباحثين عن أحبائهم، لكن أعتقد أن كل من لم يعثر عليه في أول يوم من أيام التحرير، فإن مصيره كان التصفية الجسدية والموت".
وفي تأكيد لما سبق، تحدث شهود عن إعدامات ميدانية حدثت قبل سقوط سجن صيدنايا الواقع في ضواحي العاصمة دمشق ويبعد 30 كيلومتراً منها. ومن بين الذين لقوا حتفهم الناشط السوري مازن حمادة بعد اعتقال دام أربعة أعوام، وعثر عليه في براد الجثث. ويرى ناشطون أن هذه التصفيات المدروسة حدثت أخيراً بعد شعور القائمين على السجن بأن دمشق سقطت بيد قوات المعارضة، ولم يكن لدى السجانين متسع من الوقت للقضاء على باقي السجناء.

"المرجة" وصور المفقودين

وبالعودة إلى والد المفقود، أبو عمار وضمن حديثه عن رحلة البحث عن ولده الشاب، روى تعرضه للابتزاز مقابل زيارة ولده، وقال "شاهدته مرتين بعد احتجازه، كنا ندفع مبالغ مالية لرؤيته، لقد كان ولدي مشاركاً بالتظاهرات منذ كان طالباً جامعياً واعتقل، ومصيره مجهول".
في الأثناء، ومنذ الأيام الأولى للتحرير وصل كثر ممن لم يعثروا على المفقودين والمخفيين قسراً في السجون والمعتقلات إلى ساحة المرجة وسط دمشق، حيث لصقوا صور المفقودين على الجدران وعلى النصب التذكاري. تضمنت الصور معلومات عن المفقود واسمه ووصفاً عنه ورقماً هاتفياً للتواصل معه في حال امتلاك أية معلومات.
يحكي صالح المزعل من دير الزور عن توقيف والده لدى الاستخبارات الجوية عام 2018 وتحول إلى صيدنايا في مكان يسمى "السجن الأحمر"، و"لكن بعد عملية التحرير لم نشاهده. راجعنا السجل المدني ولم نجد أنه متوفى، حاولنا البحث كثيراً عنه، لقد فقدنا الأمل في إيجاده فوضعنا صورته على الجدار أملاً بالحصول على إجابة".
وفتحت أبواب السجون ومراكز الاعتقال والاحتجاز كافة مع استعادة المدن الكبرى بعد سلسلة عمليات عسكرية جرت بإشراف "إدارة العمليات العسكرية"، في عملية أطلق عليها اسم "ردع العدوان" بدأت خلال الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وأفرجت عن جميع المعتقلين داخل المدن الكبرى، من حلب مروراً بحماه وحمص ودمشق.
وقدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان المفرج عنهم بما يزيد على 24 ألف شخص، ومع ذلك تشير قاعدة البيانات حتى أغسطس (آب) من العام الماضي، إلى أن إجمال عدد المعتقلين والمخفيين قسراً بلغ أكثر من 136 ألف شخص، مما يعني أكثر من 112 ألف شخص لا يزالون في عداد المفقودين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خبرات نادرة

في غضون ذلك لفت مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبدالغني إلى ضرورة رفع مستوى التنسيق بين الحكومة والمجتمع المدني، لا سيما من عملوا في هذا المجال، لأنهم يمتلكون بيانات وتنسيقاً مع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين. وأضاف "من المهم إجراء لقاءات مع المؤسسات الحقوقية السورية". ويسرد تحديات عميقة منها العدد الضخم للمفقودين عند نظام الأسد بما يزيد على 112 ألف شخص، أما عند بقية الأطراف فيقارب العدد 17 ألفاً، وبهذا يبلغ العدد الإجمالي للمفقودين 130 ألف شخص يحتاج العثور عليهم إلى جهد كبير جداً وعمل لأعوام، نظراً إلى وجود مقابر جماعية. ولعل الفحص عبر الـ"دي أن أي" (الحمض النووي) ليس وحده كافياً، وليس بهذه البساطة.
مدير "الشبكة السورية" عبدالغني كان من أول الحقوقيين الذين أكدوا عدم وجود سجون سرية، وأن كل من كان بالمعتقلات خرج منها ومن المرجح كثيراً أن من يخرج إما قتل أو ما زال في عداد المختفين نظراً إلى عدم ظهور جثة. ويجزم خلال الوقت ذاته "بعدم توافر خبرات سورية في هذا المجال، وفي حال توافرها فهي قليلة ونادرة لأن العمل معقد جداً... نحن في حاجة إلى مؤسسات دولية متخصصة تتعاطى مع الملف".

اليوم العالمي للمختفين قسراً

الحديث عن المفقودين والمختفين في سوريا يأتي تزامناً مع اليوم العالمي للمختفين قسراً، الذي يُحتفل به في الـ30 من أغسطس من كل عام بهدف تسليط الضوء على معاناة ضحايا الاختفاء القسري وعائلاتهم، واعتمد هذا اليوم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2011 بهدف زيادة الوعي حول حالات الاختفاء القسري التي تحدث في جميع أنحاء العالم، وفرصة للتذكير بالآثار الإنسانية المترتبة عن هذه الظاهرة.

تشكيل الهيئة الوطنية ولكن...

وخلال مايو (أيار) صدر عن السلطات السورية الجديدة المرسوم رقم 19 القاضي بإنشاء هيئة وطنية معنية بكشف مصير المفقودين والمخفيين قسراً. ومثلت هذه الخطوة إقراراً رسمياً بحجم الجريمة وضرورة معالجتها، لكنها تبقى مرهونة بمدى استقلالية اللجنة وصلاحياتها الفعلية للوصول إلى الأرشيفات الأمنية وضمان مشاركة الضحايا وذويهم في عملها، ومدى اتساع ولاية عملها لتشمل جميع الحالات من كل أطراف النزاع، أو الحالات التي وقعت بعد سقوط النظام السوري السابق.
وفي جانب متصل، يوثق تقرير صادر عن منظمة "سوريون من أجل العدالة والحقيقة" نماذج من حالات اختفاء قسري وقعت بعد سقوط النظام خلال ديسمبر 2024، مما يشير إلى أن هذا الانتهاك لم يتوقف مع انتهاء حقبة الأسد، بل استمر ضمن المرحلة الانتقالية وإن بصور مختلفة ونسب أقل. واستند التقرير إلى روايات شهود وذوي المختفين، وأورد أن تلك الممارسات حدثت على أيدي الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الجديدة بصورة أساس، وعلى رأسهم جهاز الأمن العام (الأمن الداخلي).

وأوصى التقرير الصادر بمناسبة يوم الاختفاء القسري العالمي بضرورة المصادقة على الاتفاق الدولي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والانضمام إلى نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية وإدراج الاختفاء القسري كجريمة قائمة بذاتها في قانون العقوبات، وإلغاء النصوص التي تسمح بالاحتجاز لفترات مطولة دون رقابة قضائية، وتفعيل نص المادتين 422 و425 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير