ملخص
بين التداعيات الدولية للنزاع في الشرق الأوسط وارتداداته داخل فرنسا، يبدو أن معاداة السامية تشكل اليوم أحد أبرز التحديات الأمنية والاجتماعية التي تواجهها الجمهورية الفرنسية، وتطرح تساؤلات ملحة حول كيفية الموازنة بين حماية مكونات المجتمع كافة، والتعامل مع تداعيات صراع يتجاوز حدودها.
تعرضت مواقع يهودية عدة في العاصمة الفرنسية السبت الماضي لهجمات من قبل مجهولين شملت كنيسَين ومطعماً وجزءاً من نصب تذكاري للمحرقة اليهودية (هولوكوست)، حيث لطخها المعتدون بطلاء أخضر، وفق ما أعلنت السلطات المحلية.
وتزامنت هذه الاعتداءات مع أجواء مشحونة في باريس قبيل حلول عيد شفوعوت اليهودي، في ظل التوترات المتصاعدة نتيجة الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة، مما دفع وزارة الداخلية الفرنسية إلى تعزيز الإجراءات الأمنية حول المواقع اليهودية.
ويمثل استهداف النصب التذكاري للـ "هولوكوست" اعتداء مباشراً على ذاكرة ضحايا الإبادة النازية، لكنه في الوقت ذاته مؤشر إلى محاولات ربط الصراع في الشرق الأوسط بالواقع الداخلي الفرنسي عبر ممارسات عدائية، مما يسلط الضوء على خطورة توظيف القضية الفلسطينية في خطاب معاد لليهود.
النصب التذكاري المعروف باسم "سكك الذاكرة" اُفتتح في يناير (كانون الثاني) الماضي بمحاذاة محطة قطار "ليون-بيراش" تخليداً للذكرى الـ 80 لتحرير معسكر أوشفيتز-بيركيناو، ويجسد قضباناً متقاطعة بارتفاع ثلاثة أمتار في إشارة إلى قوافل الترحيل، وقد نقش عليه بالذهب "في ذكرى 6 ملايين يهودي من ضحايا الـ 'هولوكوست' منهم مليون ونصف مليون طفل 1941 - 1945، جاء 6100 منهم من منطقتنا".
وفي تعليق رسمي وصف عمدة ليون غريغوري دوسيه تشويه النصب التذكاري بأنه "عمل غير مقبول"، مؤكداً أن مدينته "صامدة في وجه الكراهية ومعاداة السامية والعنصرية"، ومعلناً تضامنه مع الجمعيات التذكارية والناجين وذويهم.
من جانبه تقدم رئيس جمعية النصب التذكاري للـ "هولوكوست" جان أوليفييه فيوت بشكوى رسمية، فيما ندد رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا يوناتان عرفي بالحادثة، واصفاً إياها بـ "العمل الحقير"، ومؤكداً أن "كراهية إسرائيل تغذي كراهية اليهود وكراهية الجمهورية".
وأعلنت محافِظة المدينة أن تحقيقاً فُتح في هذه الحادثة، مؤكدة عزمها على "تحديد هوية الجناة وتقديمهم للعدالة". وفي سياق متصل اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الحكومة الفرنسية والرئيس إيمانويل ماكرون بالتقصير في مواجهة معاداة السامية، داعياً باريس إلى اتخاذ موقف أكثر حزم.
من ذاكرة الاحتلال النازي إلى النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي
وفي هذا الإطار يرى المحلل السياسي الفرنسي شارل كازان أن "استهداف النصب التذكارية للـ 'هولوكوست' يعد أكثر من مجرد عمل تخريبي، فهو اعتداء مزدوج على الذاكرة الجماعية الفرنسية، فهذه النصب لا تخلد فقط ضحايا المحرقة بل ترمز أيضاً إلى مرحلة الاحتلال النازي والتواطؤ المحلي مع سياساته، مما يجعل المساس بها محاولة لإعادة كتابة التاريخ وتقويض ركائز المصالحة الوطنية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية".
ويضيف شارل كازان أن "استحضار هذه النصب في النقاش العام لا ينفصل عن النزاع الدائر في غزة"، مشيراً إلى أن "إسرائيل قد تسعى إلى توظيف مثل هذه الأحداث ضد فرنسا والرئيس ماكرون وبخاصة في ظل مناقشة ملف الاعتراف بدولة فلسطين داخل مجلس الأمن".
ويؤكد كازان أن "الاعتداءات على نصب الـ 'هولوكوست' تتزامن مع ارتفاع مقلق في مؤشرات معاداة السامية في أوروبا، وفرنسا خصوصاً، حيث تتزايد خطابات الكراهية والأعمال العدائية ضد اليهود"، لافتاً إلى أن "هذه الظاهرة مرتبطة بسياقات أوسع تشمل صعود الشعبوية وتوترات الشرق الأوسط التي تلقي بظلالها على الداخل الأوروبي"، وموضحاً أن "اليمين واليسار المتطرفين يوظفان هذه الاعتداءات وفق أجنداتهما، عبر توجيه أصابع الاتهام إلى المهاجرين والمسلمين وربطها بقضايا الهوية والأمن، أو عبر التقليل من خطورة الظاهرة في محاولة لتخفيف وقعها السياسي".
وفي المقابل يشير المحلل السياسي طارق وهبي إلى أن "هذه الحادثة تعكس وجود خلاف بين جزء من المواطنين والدولة الفرنسية في شأن موقف باريس من إسرائيل"، ويرى أن الحادثة تحمل أيضاً دلالة على استحضار ما يجري في الشرق الأوسط، وبالتحديد في غزة والضفة الغربية، إلى الداخل الفرنسي، إذ أصبحت فرنسا ساحة لتصفية الحسابات بين مؤيدي إسرائيل وآخرين داعمين لفلسطين.
وبحسب وهبي فإن "تكرار الاعتداءات يمثل في أحد أوجهه رد فعل على مناصري القضية الفلسطينية، وهو أمر يرتبط كذلك بتصاعد موجات معاداة السامية في أوروبا"، مضيفاً أن "هناك تيارات سياسية في فرنسا استغلت هذا الموضوع وعلى رأسها أقصى اليمين، وحتى بعض تيارات اليسار المتطرف التي تعتبر أن اللوبيات المؤثرة في فرنسا تميل إلى دعم إسرائيل ضمن حسابات سياسية". ويؤكد وهبي أنه "من المهم التمييز بين مواقف الأحزاب السياسية وكيفية تعاطي هذه اللوبيات مع المشهد السياسي الفرنسي"، متابعاً أن "نائباً سابقاً في البرلمان الفرنسي، يحمل الجنسيتين الفرنسية والإسرائيلية، كان قد هدد الرئيس ماكرون في وقت سابق قائلاً إنه إذا لم يقف إلى جانب إسرائيل فسيقوم بتحركات داخل البرلمان"، وبرأي وهبي فإن "هذا المثال يوضح حجم الضغوط التي تمارسها بعض الأطراف في فرنسا تحت شعار أن أي دولة غربية لا يمكنها إلا أن تدعم إسرائيل".
وفي ما يتعلق بالاعتداء على النصب التذكارية يوضح المحلل السياسي أن "ذكرى المحرقة النازية ارتبطت منذ اكتشاف فظائعها بمرحلة من الكشف عن الحقيقة ثم المحاكمات، حتى في فرنسا، حيث برز محامون بارزون لاحقوا المسؤولين عن اعتقال وقتل اليهود في معسكرات الاعتقال النازية"، ويؤكد وهبي أن "هذا المسار كان قائماً على توعية المجتمع بحقوق الإنسان وإرساء العدالة التاريخية".
غير أن وهبي يلفت إلى أن "هناك في المقابل لوبيات إسرائيلية في فرنسا تعمل على توظيف هذه الذاكرة التاريخية كذريعة من أجل تجنب محاكمة إسرائيل على بعض ممارساتها خارج إطار القانون الدولي، مما يعقد النقاش حول كيفية الفصل بين حماية الذاكرة الجماعية لضحايا الـ 'هولوكوست' ومساءلة السياسات الإسرائيلية المعاصرة".
طعنة في الذاكرة الوطنية
وعن دلالة استهداف نصب تذكارية للـ "هولوكوست" في بلد عانى الاحتلال النازي، صرح الباحث السياسي في الشأن الفرنسي نبيل شوفان أن "اختيار نصب 'قضبان الذاكرة' التذكاري للـ 'هولوكوست' قرب محطة ترحيل اليهود في مدينة ليون والذي جرى تركيبه من 1173 متراً من سكة حديد في رمز إلى المسافة البالغة 1173 كيلومتراً من ليون إلى أوشفيتز، إلى حيث جرى ترحيل اليهود الفرنسيين، فهذا يعتبر لدى الفرنسيين طعنة في ذاكرة وطنية جماعية، ومحاولة لطمس مشاعر الألم الجماعي وتخريب لوسيلة تعزز الوعي بالماضي والتاريخ لحماية المستقبل، وبالتالي تعتبر السلطات الفرنسية أن هذا الفعل هو بوضوح فعل معاد للسامية وتهديد مباشر للتعايش".
أما بالنسبة إلى الجالية اليهودية في فرنسا، والتي تُعد ثالث أكبر جالية في العالم، فأوضح شوفان أن رئيس "مجلس المؤسسات اليهودية" (كريف) اعتبر أن "تدنيس ذاكرة ضحايا الـ 'هولوكوست' هو محاولة لنزع الصفة الإنسانية عن اليهود وهجوم على القيم الأساس للجمهورية"، كما حذر ناجون من المحرقة من أن تصاعد مثل هذه التصرفات يشبه تصاعد ما قبل الحرب العالمية الثانية، مشيراً إلى أن "بعض اليهود اضطروا إلى تغيير أسماءهم لتبدو أقل يهودية في تطبيقات مشاركة الرحلات".
وعن اختيار نصب الـ "هولوكوست" لتوجيه رسالة "حرروا غزة"، أضاف شوفان أن "هذا يدل على خطورة مزج القضية الفلسطينية بخطاب الكراهية ضد اليهود، وهو فعل يحوي خلطاً غير لائق بين الذكرى البريئة والنزاع في الشرق الأوسط"، كما أكد أن النصب "يرتبط بضحايا الإبادة الجماعية النازية وليس له علاقة بالصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، وتجريد اليهود من مكانتهم الرمزية لا علاقة له بالتضامن مع القضية الفلسطينية أو رفض الحرب الإسرائيلية في غزة".
وعما إذا كان تكرار هذه الاعتداءات يعكس أزمة في الذاكرة التاريخية لدى المجتمع الفرنسي، يشرح شوفان أنه "إذا نظرنا إلى الارتفاع الكبير في عدد الأعمال المعادية للسامية منذ بداية الحرب في غزة حيث سجلت البلاد في عام 2023 قرابة 1676 حالة معاداة للسامية، بزيادة تقارب أربعة أضعاف عن العام الذي سبقه، وتبعتها 1570 حالة عام 2024 فهذا يؤكد وجود أزمة، ومع أن هذه الأرقام انخفضت في النصف الأول من عام 2025 بنحو 27 في المئة مقارنة بالفترة نفسها عام 2024، لكنها بقيت أكثر من الضعف مقارنة بعام 2023، وبالتالي لا يمكن أن نكتفي بالقول إننا أمام حادثة موقتة مرتبطة بالتوترات السياسية".
ويضيف شوفان أنه "لا بد من أن هناك ضعفاً في صلابة القيم التربوية وتكريس الذاكرة والتوعية بها، وعلى رغم أن المناهج المدرسية الفرنسية تدرس أحداث المحرقة لكنها لا تزال لا تربطها بالمواطنة والحاضر بالشكل المناسب وتكتفي بإبقائها ضمن إطار ذكري فقط، علماً أن مئات الآلاف خرجوا إلى الشوارع في نوفمبر(تشرين الثاني) 2023 في مسيرة وطنية ضد معاداة السامية، شارك فيها قادة سياسيون من تيارات عدة، كإشارة أمل على إمكان الوحدة ضد الكراهية".
وفي ما يتعلق بسؤال إلى أي مدى ترتبط هذه الحوادث بتصاعد موجات معاداة السامية في أوروبا؟ يقول شوفان إنها "إلى حد بعيد مرتبطة بتصاعد موجات معاداة السامية في أوروبا، منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 خصوصاً في ألمانيا حيث شهدت البلاد ارتفاعاً بنسبة نحو 80 في المئة في الهجمات المعادية للسامية عام 2023، مع تسجيل 4782 حادثة، وكذلك في بلجيكا وسويسرا والمملكة المتحدة".
ولدى سؤاله عن استغلال التيارات السياسية لهذه الاعتداءات قال شوفان "طبعاً معاداة السامية تصدرت الحملات الانتخابية الأخيرة عام 2024 وأطلق السياسيون من الأطراف كافة تصريحاتهم حين أثار اغتصاب فتاة يهودية تبلغ من العمر 12 سنة، في هجوم يشتبه في أنه معاد للسامية، صدمة في فرنسا ودفع المخاوف في شأن معاداة السامية إلى صدارة حملات الانتخابات التشريعية التشريعية في البلاد التي تصدرها أقصى اليمين".
وبحسب قول شوفان فإن أقصى اليمين استغل هذه الهجمات لانتقاد الحكومة وتقديم نفسه كدرع لليهود الفرنسيين ضد العنف، على رغم اتهامات توجه لهم بتاريخ طويل من التهجم على اليهود والتمييز والعنصرية بحقهم، وبدا وكأن هذا الطرف السياسي غيّر لهجته فقط من اليهود إلى الإسلام محافظاً على نظرته المعروفة تجاه الأقليات.
وأوضح شوفان أنه من المعروف أن حزب "الجبهة الوطنية" أحد أكثر أحزاب أوروبا شهرة بمعاداته للسامية، لكن المشاركة الأخيرة لزعيمَيه جوردان بارديلا وماريون مارشال في مؤتمر بالقدس حول معاداة السامية، سلطت الضوء على إعادة تموضع إستراتيجي داخل أقصى اليمين الفرنسي لتعزيز شرعيته وتوجيه الانتقادات نحو المعارضين اليساريين والمسلمين، فيما توجه له اتهامات بمحاولة صرف الانتباه عن ارتباطاته المتطرفة وتعزيز رواية الصراع الحضاري واستغلال القيم الليبرالية وتشويهها في خطاب طيف أقصى اليمين المعاصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"اليسار" متهم بعدم وضوحه تجاه مكافحة معاداة السامية
وبالنسبة إلى "اليسار المتشدد" فيعتقد شوفان أنه "غالباً ما يتهم بعدم وضوحه تجاه مكافحة معاداة السامية، وكثير من قياداته لم يستخدموا صراحة مصطلح معاداة السامية عند التعليق على اعتداءات فعلية، وفي منشور على وسائل التواصل وصف زعيم حزب 'فرنسا الأبية' جان لوك ميلانشون معاداة السامية بأنها ظاهرة مستبعدة من الواقع، وهو موقف اُعتبر إنكاراً لتفاقم الحوادث، لكن ميلانشون ينفي وجود مشكلة جوهرية لمعاداة السامية ويؤكد أن نقد إسرائيل لا يعني معاداة للسامية، بينما توجه إليه اتهامات بأنه يتكئ على موقفه من الصراع في الشرق الأوسط في تموضع حزبه داخل المشهد السياسي الفرنسي".
ويقول المتخصص في علاقة اليسار الفرنسي باليهود وعضو مجموعة "رار" الناشطة في مكافحة "معاداة السامية"، المؤرخ روبرت هيرش، لإذاعة فرنسا الدولية، "إن حزب فرنسا الأبية ليس حزباً معادياً للسامية وليس لديه برنامج يستهدف اليهود، ولا يتمتع بثقافة معاداة السامية، ولا تاريخ مرتبطاً بمعاداة السامية"، لكنه يرى في ذات الوقت أن "الحزب لم يبد تعاطفاً مع الرعب الذي شعر به اليهود في هجوم السابع من أكتوبر 2023".
وبالنسبة إلى "اليسار التقليدي"، متضمناً الاشتراكيين والشيوعيين والخضر، فكل هؤلاء شاركوا بوضوح في المسيرات المدنية واعترفوا بخطورة تصاعد معاداة السامية، مؤكدين ضرورة التضامن المدني ضد الكراهية تجاه الجميع، وانتقدوا مراراً تصريحات أقصى اليسار وطالبوه بضرورة الفصل بين الدعوة إلى وقف الحرب وإلى السلام وبين رفض معاداة السامية.
وبخصوص الحكومة الفرنسية ذكر شوفان أنها أطلقت حملة رسمية ضد "معاداة السامية" واستخدم ماكرون "لغة حادة" ضد الاعتداءات، وفي الوقت ذاته رفض تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نتنياهو التي ربطت اعتراف فرنسا المرتقب بدولة فلسطين بارتفاع معاداة السامية داخل فرنسا، في تأكيد لموقف واضح يفصل مواضيع الذاكرة الوطنية الفرنسية عن الصراع في الشرق الأوسط، وكانت فرنسا استدعت سفير الولايات المتحدة لديها بعد تصريحات أطلقتها سفارة واشنطن بأن الحكومة لم تفعل ما يكفي لمكافحة "معاداة السامية"، وردت أن فرنسا "ليست بحاجة إلى دروس من الولايات المتحدة"، كما أن ماكرون خاطب نتنياهو بالقول إن "الفترة الحالية تتطلب الجدية والمسؤولية لا التعميم والتلاعب"، وإنه كان يدافع عن سلامة المجتمع الفرنسي.
وحول سؤال إن كانت هذه الأفعال تمثل تعبيراً عن أزمة هوية لدى بعض الفئات في فرنسا، يجيب شوفان بأنه "يمكن القول إن هذه الأفعال تعكس أزمة هوية لدى بعض الفئات في المجتمع الفرنسي، وهي أزمة تتجلى في النزاعات السياسية الآتية من الخارج".
الهوية الفرنسية تتآكل
وتابع المتحدث أنه "بحسب استطلاع للرأي فإن ثلثي الفرنسيين يشعرون بأن الهوية الفرنسية تتآكل، وكثيرون يعتقدون أن سياسيين يستغلون هذا الشعور في خطاباتهم لمصلحة حملاتهم الانتخابية، مما أنتج كذلك بيئة خصبة لنظريات المؤامرة وسط انغماس في حروب الهوية وتفاعلاتها على وسائل التواصل، مما أدى إلى ظهور أحزاب تتبنى نظريات مثل 'الاستبدال العظيم' فتبني كل فكرة حزبها على إبراز مخاوف من تغيّر التركيبة السكانية والخوف من التعددية وإمكان أن يكون لكل فئة ذكرياتها ومكانها ضمن النسيج الوطني والرغبة في الانتماء لفرنسا".
وختم شوفان حديثه بتأكيد البعد الأخلاقي وأشار إلى اجماع ناشطين سألتهم "إذاعة فرنسا الدولية" عن فشل السياسيين في جعل التعليم ضد معاداة السامية أولوية، وبحسب المشاركة في إدارة البرنامج التعليمي الذي تُديره شبكة "ليكرا" لمكافحة التمييز، هيلين بونيول، "فإن الأمر يحتاج إلى الشجاعة وكثير من الوقت والاستثمار، ويجب أن يكون جزءاً من المنهج الدراسي".
وهناك من يقول إنه في ظل صعود أحزاب متطرفة سياسياً فإن أي جزء من المجتمع إذا التزم الصمت عندما يرى اليهود يتعرضون للمضايقة في الشارع، يجب أن يفهم أن من واجبه الأخلاقي أن يفعل شيئاً لأنه قد يكون التالي، لأن المجتمعات الليبرالية تحمي كل أقلياتها وإلا ستفشل في حماية قيم ديمقراطيتها.
وختاماً تكشف الأرقام الرسمية تصاعداً مقلقاً في الأعمال المعادية للسامية في فرنسا، فقد سجلت وزارة الداخلية خلال النصف الأول من عام 2025 نحو 700 حادثة من هذا النوع في بلد يحتضن واحدة من أكبر الجاليات اليهودية في العالم، بعد إسرائيل والولايات المتحدة، وهذا الارتفاع يتقاطع مع توترات سياسية متنامية بين باريس وتل أبيب بعد أن أعلن الرئيس الفرنسي عزمه الاعتراف بدولة فلسطين، في وقت لا تزال فيه غزة تعيش تحت وطأة حرب دامية تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، خلفت حتى الآن أكثر من 203 آلاف قتيل وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى أكثر من 9 آلاف مفقود.
وبين التداعيات الدولية للنزاع في الشرق الأوسط وارتداداته داخل فرنسا، يبدو أن معاداة السامية تشكل اليوم أحد أبرز التحديات الأمنية والاجتماعية التي تواجهها الجمهورية الفرنسية، وتطرح تساؤلات ملحة حول كيفية الموازنة بين حماية مكونات المجتمع كافة، والتعامل مع تداعيات صراع يتجاوز حدودها.