ملخص
فرنسا تواجه أزمة سياسية حادة تهدد بسقوط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، ما قد يؤدي إلى صعود اليمين المتطرف وتغيير جذري في سياساتها الداخلية والخارجية، مع انعكاسات سلبية محتملة على المملكة المتحدة وأوروبا، خصوصاً في ملف أوكرانيا والهجرة.
لطالما كان هناك خط فاصل أكثر حدة يميز بين فترة العطلات الصيفية، وبداية الموسم السياسي الجديد في فرنسا بالمقارنة مع بريطانيا. ذلك الخط الفاصل حاد بشكل خاص هذا العام، مع بروز أزمة سياسة متكاملة تتبلور في فرنسا والتي من شأنها أن تترك البلاد من دون حكومة في غضون أيام قليلة، كما تتركها في مهب إجراء انتخابات برلمانية جديدة خلال أسابيع. وقد تدفع الأوضاع باتجاه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، إذا ما قرر الرئيس إيمانويل ماكرون، بدلاً من الانتظار حتى ربيع 2027، أن يحتج ويغادر منصبه.
السبب المباشر للأزمة الحالية هو موازنة تقشف وضعها رئيس الوزراء الحالي الوسطي المخضرم فرانسوا بايرو، صممها من أجل وضع مالية فرنسا العامة المثقلة بالديون على أرضية أكثر صلابة. ومن الطبيعي ألا تحظى مثل تلك الموازنة بشعبية في البلاد ككل - وإذا ما قامت قوى البلاد من اليسار المتطرف (بقيادة الزعيم جان لوك ميلانشون وحزبه فرنسا الأبية) واليمين المتطرف (وحزب مارين لوبن التجمع الوطني) بالاتحاد لمعارضة حكومة بايرو، فتلك الموازنة لن يُكتب لها النجاح.
لكن ما يجعل من هذه المسألة أكثر من مجرد خلاف على الموازنة، امتحان لقدرة دولة مثل فرنسا على الحكم بشكل عام، هو أن رئيس الحكومة بايرو كان قد دعا بشكل منفصل إلى إجراء تصويت على الثقة في الجمعية الوطنية- البرلمان، في الثامن من سبتمبر (أيلول)، حول ما إذا كان من الممكن اعتبار وضع الموازنة العامة السيئة، بمثابة حالة طوارئ وطنية. ويمكن اعتبار هذا الطرح مجازفة كبيرة، فهو خطوة محفوفة بالأخطار أيضاً. فإذا ما خسر بايرو التصويت، قد يفقد بذلك كل ما تبقى له من قدرة على المناورة السياسية، فضلاً عن التسبب في إثارة أشهر جديدة من حال عدم اليقين التي قد تنتهي بانهيار اقتصادي فرنسي، وضرورة طلب عملية إنقاذ مالية مهينة من صندوق النقد الدولي، والذي يتداوله البعض همساً بأنه حال يتهدد المملكة المتحدة قريباً أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وماذا ستكون النتيجة إذا؟ إن شبح فوز اليمين المتطرف بالغالبية المطلقة في الجمعية الوطنية في الانتخابات كما حدث بشكل متكرر في الماضي القريب، يخيم من جديد، وأن يواجه الرئيس ماكرون فترة صعبة خلال ما تبقى من ولايته الرئاسية- أو أن يختار الاستقالة، وبذلك سيفتح الباب أمام وصول مارين لوبن كرئيسة للبلاد.
وغني عن القول إنه لا يوجد وقت جيد عموماً لأزمة سياسية أو تغيير جذري في السلطة، لكن الأشهر المقبلة ستكون من أسوأ الأوقات ليس فقط بالنسبة إلى فرنسا، بل ربما أكثر بالنسبة إلى المملكة المتحدة وأوروبا.
في المملكة المتحدة، لا يزال تزايد عمليات العبور بالقوارب الصغيرة متواصلاً، كما يواصل صعوده إلى رأس الأجندة السياسية، إلى جانب استخدام الفنادق كمكان لإيواء طالبي اللجوء. الحكومة البريطانية الحالية كانت قد أولت أهمية كبيرة لتحسين التعاون مع فرنسا من أجل خفض أعداد العابرين. لكن فرنسا التي تعاني إما من تقلبات سياسية مستمرة، وإما تحكمها حكومة يمينة متطرفة، قد تكون أقل استجابة مقارنة مع السابق. وبغض النظر عن النوايا الحسنة التي بذلت لوضع اتفاقية "واحد يدخل مقابل واحد يخرج"- والتي لم تثبت جدواها بعد- فإن الاحتمالات لتوسيع عملها أو حتى استمرارها تبدو ضئيلة حالياً.
كذلك فإنه ليس من الصعب تصور اتخاذ فرنسا موقفاً أكثر صرامة يتعلق بعبور القوارب الصغيرة من خلال كونه مشكلة المملكة المتحدة وحدها، وأن فرنسا لا مصلحة لديها في منع عبورها أو محاولة المساعدة للتخفيف من أثارها على المملكة المتحدة. معلوم أن القانون الجديد الفرنسي الموعود والذي يبيح لسلطات إنفاذ القانون الفرنسية منع القوارب الصغيرة من الإبحار بعد نزولها إلى المياه لم يتم إقراره بعد، وقد يتم التخلي عنه تماماً.
المجال الآخر الذي قد يتأثر على الفور بسبب أي تغييرات سياسية فرنسية يتعلق بموقف الاتحاد الأوروبي حيال حرب أوكرانيا. لقد كان ماكرون ومعه ستارمر في طليعة الجهود الرامية إلى تشكيل ما يعرف بـ"تحالف الراغبين" الذي من المتوقع أن يلعب دوراً بطريقة لم يتم تحديدها بعد في حال التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب، أو حتى في حال التوصل إلى اتفاق على وقف الأعمال العدائية. معروف أن كل من تيار اليسار المتطرف واليمين المتطرف في فرنسا متحفظان على مسألة استمرار تقديم المساعدة إلى أوكرانيا، تماماً كما هو عليه موقف نظرائهم من المتطرفين في ألمانيا.
حتى الآن، تمكن ماكرون بصفته رئيساً، في توجيه السياسة الخارجية لبلاده بعيداً من تأثير الجمعية الوطنية. لكن أي غالبية برلمانية ينجح اليمين المتطرف الفرنسي في الفوز بها، وأي رئيس للوزراء من حزب التجمع الوطني، وحتى، وإذا ما حدث ذلك، وصول أحد المقربين من لوبن إلى الرئاسة الفرنسية، فإن من شأن ذلك أن يغير مسار السياسة الفرنسية وبسرعة كبيرة. وقد يشمل ذلك استئناف الاتصالات مع موسكو، وإنهاء، أو تقليص الدعم المالي والعسكري المقدم إلى أوكرانيا، والضغط على كييف من أجل تقديم تنازلات عن بعض الأراضي.
وذلك لو حدث، فإن من شأنه أن يغير التوازن على مستوى الاتحاد الأوروبي، وأوروبا بشكل عام، مما سيترك المملكة المتحدة ومعها ألمانيا التي أصبحت حديثاً أكثر انخراطاً في بناء قدراتها العسكرية، وكأنهما غير قادرتين على توفير الإجماع اللازم أوروبياً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار استمرار رفض بولندا- الدولة الكبيرة الأوروبية الأخرى- المشاركة في "تحالف الراغبين".
لكن، ومن الإنصاف القول إن أياً من هذا قد لا يحدث. فقد كان الرئيس ماكرون بارعاً في إنقاذ المواقف الحرجة خلال سنواته الثمانية على رأس السلطة في فرنسا، على رغم أن بعض الحرائق التي أشعلها (مثل قرار إجراء الانتخابات في العام الماضي) كانت من صنعه أيضاً. فقد يقدم رئيس الحكومة بايرو التنازلات من قبيل التراجع عن إلغاء إجازتين سنويتين رسميتين، والاكتفاء بإلغاء واحدة فقط، مما سيسمح بتمرير مشروع الموازنة. وقد يفوز بالتصويت على الثقة بحكومته، إذا تمكن من إقناع الاشتراكيين بالانضمام إليه- على رغم أن ذلك يبدو غير مرجح لأن الجميع يبحث عن طرق لشد النزاع والدخول في معركة ما.
كذلك لن يحدث كل ذلك لأنه ليس مضموناً في حال إجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة، خروج التجمع الوطني منتصراً، على رغم الجنوح اليميني للسياسة الفرنسية والأوروبية في هذه الفترة. لقد كان الناخبون الفرنسيون وفي أكثر من مناسبة قريبين جداً من انتخاب تيار اليمين المتطرف، لكنهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة. وربما أن الرأي القائل بأن السماح بفترة حكم لرئيس حكومة يمثل اليمين المتطرف، من شأنه المساهمة في تحصين الناخبين الفرنسيين ضد انتخاب رئيس من اليمين المتطرف، قد يكون فيه شيئاً من الصحة.
لكن فرضية حدوث ذلك لا تزال بعيدة. ففي حال نجاة بايرو في تصويت حجب الثقة، فقد يعيش هو وماكرون للقتال في معارك أخرى. والآن وبعد مرور عام كامل على إجراء الانتخابات الأخيرة التي أثبتت خطأ ماكرون في التقدير، فقد يختار ماكرون المجازفة- أو عدم المجازفة- في إجراء انتخابات جديدة لكن في وقت يكون من اختياره.
لكن في هذه الفترة، يبدو ذلك الاحتمال البسيط نسبياً حتى- أي استمرار حال الجمود السياسي الحالي- مستبعداً حدوثه بشكل أكبر من أي من السيناريوهات الأخرى الأكثر سوءاً.
© The Independent