ملخص
الفرنسي أوليفييه أساياس واحد من أنشط السينمائيين المعاصرين. هذا الذي بدأ ناقداً في مجلة "دفاتر السينما" في الثمانينيات، المشغول بالعالم بقدر ما هو مهموم ببلده، يعود مع "ساحر الكرملين" إلى مشهد سياسي متشابك يبدأ من فوضى ما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي ويمتد حتى اللحظة الراهنة.
عبر شخصية فاديم بارانوف، يعيد المخرج أوليفييه أساياس رسم خريطة النفوذ الروسي بعقلية شخص غير روسي، محاولاً تفكيك النظام بعيداً من الأفكار السياسية المنتشرة، موظفاً الحبكة والشخصيات والمفارقة الإنسانية.
من دراما حميمية صوّرت شؤون حميمية خلال الحجر الصحي في قرية فرنسية ("خارج الزمن" - 2024)، إلى فيلم سياسي ضخم يتناول قلب السلطة الروسية، يقدم أساياس قفزة هائلة في النطاق واللغة والهم والأسلوب. عُرض الفيلم مساء أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي في دورته الـ82 (27 أغسطس/ آب -6 سبتمبر/ أيلول)، ويُعد أحد أكثر أعماله طموحاً وتعقيداً منذ "كارلوس" (2010)، الذي استعاد فيه سيرة الإرهابي الشهير.
الفيلم مقتبس من رواية الكاتب والمستشار السياسي جوليانو دا إمبولي صدرت في عام 2022 بالتزامن مع غزو روسيا لأوكرانيا، والتي حققت نجاحاً لافتاً واعتُبرت محاولة جريئة لتشريح عقل السلطة في روسيا الحديثة، من خلال شخصية فاديم بارانوف المستلهمة من فلاديسلاف سوركوف، أحد مهندسي "النظام البوتيني". الرواية كانت أقرب إلى مذكرات متخيلة، والفيلم بدوره لا يسير بعيداً من هذا التخييل، بل يوسّعه إلى فضاء بصري وزمني مفتوح.
من اللحظة الأولى، يرسم "ساحر الكرملين" خطوط لعبته: أستاذ جامعي أميركي (جيفري رايت) يلتقي ببارانوف (بول دانو) في موسكو، بعد سنوات من اختفاء هذا الأخير عن الساحة السياسية. يتحول اللقاء إلى مصارحة طويلة، حوار داخلي مع الماضي، تتقاطع فيه الاعترافات الشخصية مع تحولات وطن بأكمله. لا يسرد بارانوف تاريخ روسيا بقدر ما يروي تآكل روحه في أروقة الحكم، وكأنه كان ينتظر حلول اللحظة المناسبة للبوح.
يتنقل الفيلم بسلاسة بين مراحل مختلفة: من فنان شاب يكتب المسرحيات، إلى منتج تلفزيوني بارع، فإلى رجل يؤمن بفكرة النهوض بروسيا جديدة بعد الشيوعية، ولذلك يدعم بوتين الذي كان آنذاك عنصراً في جهاز الأمن الفيدرالي، مقترحاً عليه الترشح إلى الرئاسة خلفاً لبوريس يلتسن. لا يظهر بوتين بشكل مباشر، (له حركات جسدية مشابهة وليس نسخة طبق الأصل عنه) ولا يُذكر اسمه، بل يُشار إليه بلقب "القيصر"، في معالجة ذكية تتجاوز المحاكاة إلى بناء شخصية رمزية، تحمل كل ملامح النظام من دون أن تقع في المباشرة. يلعب دور القيصر الممثل البريطاني جود لو.
أحد أبرز ما يميّز العمل هو مراقبته الدقيقة لديناميكيات السلطة حيث الطعن في الظهر حاضر في كل زاوية. بارانوف نفسه، الذي صعد إلى القمة من خلف الستار، يجد نفسه في نهاية المطاف مُقصى، مجبراً على التأمل في النتائج الكارثية لما شارك في صنعه. وهنا نجد ما يسرده الفيلم آخذاً إيانا إلى أبعد من الحالة السياسية الروسية: تصوير حلم الإصلاح الذي يتحول إلى كابوس الهيمنة، فيُبتلع الإنسان في آلة صنع القرارات.
لا ينفصل البُعد الجمالي في الفيلم عن مضمونه. أساياس يختار أن يصوّر روسيا بلغة بصرية باردة، تُشبه الطقس والمزاج. المباني، الإضاءة، الأزياء، كلها تسهم في صناعة مناخ خانق، لا يحتاج إلى عنف مباشر كي يُشعرك بالهيمنة السياسية. لكن، يبقى التحفّظ الأكبر متعلقاً بلغة الفيلم: الإنكليزية. أن تتحدث شخصيات روسية بلغة أجنبية، بلكنات مختلفة، يفقد العمل شيئاً من خصوصيته الثقافية. وعلى رغم أن الاعتبارات الإنتاجية واضحة في فيلم موجه للجمهور العالمي، فالإحساس بالاغتراب يلاحق المُشاهد، بخاصة في المشاهد التي يفترض أن تكون مشبعة بالنبرة الروسية.
إذا استطاع المشاهد المتطلب صرف النظر عن هذا الجانب، فسيجد نفسه تحت سطوة مادة سينمائية غنية، توازن بين العام والخاص، بين سرد التاريخ وسبر النفوس. الشخصيات ثرية بالتناقضات، والحوارات مدروسة تدفع بالسرد إلى الأمام من دون حاجة إلى إثارة مصطنعة. كل شيء في الفيلم يبدو مدفوعاً بهاجس فهم آليات السيطرة، وأثرها المدمّر على الحالمين بالتغيير. الفيلم لا يسعى إلى "كشف الملفات" على طريقة أفلام أوليفر ستون، بقدر ما يقدّم تأملاً في حاضرنا السياسي، قافزاً إلى سؤال محوري: ماذا يحدث حين يتحول صنّاع الوهم إلى ضحاياه؟ في تعليق، يؤكد أساياس شعورنا تجاه "ساحر الكرملين" بالقول: "هذا ليس فيلماً عن صعود رجل واحد، ولا عن القوة التي تُفرض بها السلطة، أو عن إعادة اختراع أمة تجمع بين الحداثة والقدم، والتي وجدت نفسها مجدداً تحت نير التسلط، إنما تأملات في السياسة الحديثة، أو بالأحرى، في الستار الدخاني الذي تختبئ خلفه اليوم: سياسة ساخرة، مخادعة وسامة. صنّاع القرار اليوم يمتلكون أدوات للتلاعب الجماهيري وتشويه الحقيقة بدقة لم تكن متخيلة من قبل. من هذه الزاوية، هذا ليس فيلماً سياسياً بالمعنى التقليدي، إنما هو فيلم عن السياسة نفسها، وعن فساد أساليبها التي باتت تأسرنا جميعاً".