ملخص
يتنازع إيلون ماسك وسام ألتمان، بعد تحوّل شراكتهما السابقة إلى خصومة، على قيادة مستقبل الذكاء الاصطناعي وتقنيات "واجهات الدماغ والكمبيوتر"، مدفوعَين بطموح شخصي ونزعة للهيمنة، في سباق قد يعيد تشكيل قدرات البشر لكنه يثير مخاوف من أخطار اجتماعية وأخلاقية عميقة.
كان الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أي آي"، سام ألتمان، ومالك منصة "إكس" الشهيرة ("تويتر" سابقاً)، إيلون ماسك، على علاقة وثيقة في السابق. فقد جمعتهما الدوائر الاجتماعية نفسها في "وادي السيليكون"، بل وتعاونا في تأسيس إحدى الشركات. بيد أن الخلاف بينهما ما لبث أن تصاعد، ومع انشغالهما المتزايد بتطوير تكنولوجيات تستهدف تسخير القدرات الدماغية البشرية، تجاوز هذا النزاع حدوده الشخصية، ليمتد بتبعاته إلى الجميع.
تعود العداوة بين ألتمان وماسك إلى نحو عقد من الزمن. خلال مؤتمر أكاديمي عام 2015، كشفا النقاب عن تعاونهما في تأسيس "أوبن أي آي"، مختبر الذكاء الاصطناعي المعروف اليوم بتطويره روبوت الدردشة الشهير "تشات جي بي تي". انطلقت الشركة يومذاك من مبدأ تطوير نماذج ذكاء اصطناعي بطريقة تخدم البشرية وتعود عليها بالنفع. ولكن في رأي ماسك، تراجعت "أوبن أي آي" عن هذه الغاية، مما دفعه إلى الانسحاب منها عام 2018. ومنذ ذلك الحين، لا سيما بعد إطلاق "تشات جي بي تي" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، أخذ ماسك يراقب توجهات الشركة وتقدمها بعين الشك والريبة.
مع تنامي شهرة "تشات جي بي تي"، شعر ماسك بالحاجة إلى خوض المنافسة. فأطلق في يوليو (تموز) 2023 شركته الجديدة "إكس أي آي" xAI، معلناً أن هدفها "فهم الطبيعة الحقيقية للكون". ثم، في فبراير (شباط) من العام الحالي، تقدّم ماسك بدعوى قضائية ضد "أوبن أي آي"، متهماً إياها بالانحراف عن مهمتها الأصلية غير الربحية، وتحولها إلى "شركة مغلقة المصدر، بمعنى أنها لا تتيح الشيفرة البرمجية الخاصة بتقنياتها أو نماذجها الذكية للعامة أو للمجتمع العلمي، إضافة إلى أنها تعمل فعلياً تحت نفوذ مايكروسوفت، أكبر شركة تكنولوجيا في العالم".
ومنذ ذلك الحين، دخل قطبا التكنولوجيا المتفاخران، مدفوعين بأناهما المتضخمة، في سلسلة صدامات لم تهدأ، وقد شهدنا أحدثها في وقت سابق من الشهر الجاري، حينما اشتبكا حول مزاعم تقول إن "أبل" لا تتوخى الإنصاف في تعاملها مع منصات الذكاء الاصطناعي التابعة لكل منهما. فقد اتهم ماسك الشركة بالتحيز لصالح تطبيق "تشات جي بي تي" التابع لـ"أوبن أي آي" ومنحه معاملة تفضيلية في متجر التطبيقات "آب ستور" الخاص بها على حساب التطبيقات الأخرى، مما يحول تماماً، على حد قوله، دون وصول أية شركة منافسة أخرى، بما في ذلك شركته "إكس أي آي" وروبوت الدردشة الخاص بها "غروك" Grok، إلى صدارة الترتيب في المتجر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن سرعان ما انكشف زيف هذا الادعاء، الذي نفته أيضاً الأداة الذكية للتحقق من الحقائق المدمجة في روبوت الدردشة "غروك" الخاص بماسك نفسه. ولم يمر وقت طويل حتى رد ألتمان باتهام ماسك بالتلاعب بخوارزميات منصة "إكس" وخصائصها بما يخدم مصالح شركاته. وفي غمرة سيل الاتهامات المتبادلة بين الرجلين، لم تخل المواجهة من بعض الطعون الشخصية اللاذعة أيضاً.
والآن، تجاوزت المنافسة حدود الذكاء الاصطناعي لتصل إلى تكنولوجيا "واجهات الدماغ والكمبيوتر" أو "بي سي آي" brain-computer interface BCI اختصاراً. تعتمد هذه التقنية على زرع شريحة في الدماغ البشري تستخدم أسلاكاً رفيعة جداً لالتقاط إشارات الدماغ والتحكم بالأجهزة الخارجية، [هكذا، لا يحتاج المستخدم سوى إلى التفكير في الفعل الذي يريده، فينفذه الكمبيوتر نيابة عنه]. وقد تمكن أشخاص مصابون بالشلل في الولايات المتحدة، بعد تركيب هذه الشرائح لديهم، من التحكم في المؤشر الذي يظهر على شاشة الحاسوب عادة [ونتحكم به تقليدياً باستخدام الفأرة أو لوحة اللمس]، وممارسة ألعاب الفيديو، وتحرير مقاطع فيديو على منصة "يوتيوب"، وذلك كله باستخدام أفكارهم وحسب.
ولكن ما يبدو اليوم عالماً جديداً ومثيراً للاهتمام في التكنولوجيا العصبية، ليس سوى تطور حديث لتقنيات تعود إلى عقود مضت. استشاري جراحة التجميل في "مستشفى رويال فري" في لندن التابع لـ"هيئة الخدمات الصحية الوطنية" في بريطانيا، الرئيس التنفيذي لشركة "كوغيتات" Cogitat المنكبة على تطوير تكنولوجيا تفك شيفرة إشارات الدماغ، ألان بونياه، يوضح أن "قراءة موجات الدماغ إجراء يُمارس منذ زمن طويل في المجالات الطبية باستخدام أجهزة تخطيط الدماغ الكهربائي (اختصاراً "إي إي جي" EEG)، إذ يصار إلى وصل الأشخاص بهذه الأجهزة بغية قياس تلك الإشارات الدماغية". ويضيف: "ولكن كثيراً ما كانت المشكلة في أن الإشارة تعج بالتشويش، والحصول على قراءة واضحة يستغرق عادة ساعات عدة، فضلاً عن أن المريض نفسه كان مضطراً إلى تحديد الإشارة التي ترتبط بكل وظيفة أو فعل".
لمعالجة هذه المشكلة، برزت الحاجة إلى تكنولوجيا تنطوي على تدخل جراحي أعمق داخل البنية الدماغية. ولكن هذا الشكل من التدخل الجراحي، الذي تتبناه شركة "نيورالينك" Neuralink، علماً أنها متخصصة في تطوير "واجهات الدماغ والكمبيوتر" وقد أسسها إيلون ماسك عام 2016، يبقى أكثر تعقيداً في التنفيذ، ويحتاج إلى فترة أطول قبل أن تصبح منتجاته جاهزة للطرح في السوق.
في الشهر الماضي، شرعت شركة "نيورالينك" في تسجيل مرضى في المملكة المتحدة راغبين في التطوع لتركيب أجهزة داخل أدمغتهم. وبينما يؤكد بونياه أن هذا الطرح "ما زال بعيداً جداً عن الواقع"، أحرزت "نيورالينك" تقدماً ملحوظاً في خلال أقل من عقد، وتقدر قيمتها السوقية حالياً بنحو 9 مليارات دولار (نحو 6.7 مليار جنيه إسترليني)، بعدما جمعت 650 مليون دولار في يونيو (حزيران) الماضي.
ولكن من المتوقع أن تواجه "نيورالينك" منافسة في القريب العاجل، إذ تشير تقارير إلى أن الرئيس التنفيذي لـ"أوبن أي آي"، سام ألتمان، يستعد لدعم شركة منافسة اسمها "ميرج لابس" Merge Labs، التي من المحتمل أن تحصل أيضاً على تمويل يصل حتى 250 مليون دولار من "أوبن أي آي" وجهات مستثمرة أخرى. وسيشكل هذا التطور تحولاً كبيراً في توجهات ألتمان، مع العلم أنه سبق أن استثمر أموالاً في دعم "نيورالينك".
من وجهة نظر بونياه، يعد استثمار هذين المليارديرين وقتهما وجهدهما وأموالهما في تكنولوجيات "واجهات الدماغ والكمبيوتر" مؤشراً إيجابياً. ويوضح "هناك فجوة شاسعة [بين الطموحات والإمكانات]، ولا يمكن حتى الخوض في استكشاف هذه الفجوة من دون ضخ استثمار ضخم".
ولكن مع ذلك، يرى بونياه أنه من غير المرجح أن يتحقق هذا الطموح على النحو الذي يأمله عملاقا التكنولوجيا. فالتقدم إلى ما هو أبعد من الهدف النبيل المتمثل في تمكين مرضى الشلل النصفي من استعادة قدر من السيطرة على أجسادهم، وهو ما نجحت "نيورالينك" في تحقيقه إلى حد ما، سيتطلب انتشاراً أوسع للتكنولوجيا واستخدامها على نطاق جماهيري، بما يشمل تحويل البشر إلى رجال ونساء معززين إلكترونياً أو ما يسمى "بيونيك" bionic [يجمعون في أجسادهم بين الأعضاء البيولوجية والأجهزة الإلكترونية الاصطناعية الذكية].
يقول بونياه "ينبغي أن تكون التكنولوجيا قادرة على تحريك ذراع روبوتية، أو التحكم في جهاز مماثل، أو هيكل خارجي مساعد. لا بد من أن تبلغ هذا المستوى من التطور، ولا أعتقد أننا اقتربنا من ذلك حتى الآن".
إذا صح كلامه، لماذا إذاً يواصل ماسك وألتمان ضخ الأموال في هذه التكنولوجيا؟ يجيب بونياه: "يطمح ماسك في إرسال البشر إلى المريخ أيضاً"، في إشارة إلى أهداف أخرى تبدو بدورها بعيدة المنال أيضاً.
ولكن من وجهة نظر البروفيسورة في الأخلاقيات الرقمية في "جامعة ستافوردشير"، كاثرين فليك، تتجاوز هذه المسألة مجرد "إمكان تحقيق هذه التكنولوجيا". وتقول إن "هذه التكنولوجيا تمثل أحد المجالات المستقبلية التي ربما تستقطب اهتمام المنظومة الإعلامية الكبرى ونزعتها إلى تضخيم التوقعات حول تقنيات وأفكار جديدة" [بغض النظر عن مدى جاهزيتها أو واقعيتها].
وتشير فليك إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي الحالية، المدعومة بنماذج اللغة الكبرى [التي تستخدم خوارزميات التعلم العميق لمعالجة وتحليل كميات كبيرة من البيانات النصية]، لم تحقق بعد العائدات الكبرى التي تبرر ضخ هذا الكم من الاستثمارات الضخمة فيها. لذا يتعين عليهم الاستمرار في جذب المستثمرين لضخ أموال أكثر، وفي الحفاظ على قناعة المساهمين بأن مشاريعها تنطوي على قيمة مهمة. ومن هنا، عليهم تغيير الاتجاه الآن، وأعتقد أن هذه الوجهة [تكنولوجيا "واجهات الدماغ والكمبيوتر"] هي أحد المجالات التي بدأوا فعلاً في التوجه نحوها".
كذلك ترى فليك أن الرغبة في فرض السيطرة تمثل دافعاً رئيساً وراء التوجه نحو تكنولوجيات "واجهات الدماغ والكمبيوتر". وتوضح "هذه الخطوة تمثل استمراراً لتجربة غريبة أشبه بطقوس دينية يعيشها الرجلان، إذ يعتقدان أنهما منقذان للبشرية. ويتصرفان كما لو أنهما يمتلكان نبوءة تحدد مستقبل البشرية، ويسعيان من ثم إلى استخدام التكنولوجيا وتوجيهها والسيطرة على مسارها".
يتصور مؤيدو تقنيات "واجهات الدماغ والكمبيوتر" أن هذه التكنولوجيا ربما تتجاوز في المستقبل نطاق استخداماتها الطبية الحالية، التي تسهم في استعادة الوظائف الحركية لدى المصابين بالشلل، لتشق طريقها نحو المنتجات الاستهلاكية السائدة وتعيد تشكيل تفاصيل الحياة اليومية. وعلى المستوى العملي، قد يعني ذلك القدرة على التحكم بالأجهزة اليومية مثل الهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر، وحتى المركبات، من طريق الأفكار وحدها.
بالطبع، لا تخلو هذه التكنولوجيا من أخطار محتملة، إذ إن القدرة على تتبع إشارات الدماغ قد تثير مخاوف لدى بعض المستخدمين من إمكان رصد اضطراباتهم النفسية العميقة أيضاً. وقد حذر رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في "مايكروسوفت"، مصطفى سليمان، من أخطار ما وصفه بـ"ذهان الذكاء الاصطناعي" أو "وهم وعي الآلة"، في ظل تنامي الاعتماد المفرط على التفاعل مع روبوتات الدردشة. ومن الناحية النظرية، قد تدفع تكنولوجيا "واجهات الدماغ والكمبيوتر" هذا القلق إلى مستوى أكثر خطورة. وذلك، بطبيعة الحال، إن كنت قادراً على تحمل كلفتها، فحتى لو خرجت من المختبرات الطبية، من المرجح أن تظل مرتفعة الكلفة، ما من شأنه أن يؤدي إلى انقسام اجتماعي بين فئة قادرة على الوصول إليها وأخرى مستبعدة منها.
ومع ذلك، لا تخلو المناوشات الشخصية بين ألتمان وماسك من الاستفزازات. تقول فليك "أعتقد أن سام يستهويه استفزاز إيلون، وربما يحاول في بعض الجوانب تعجيل سقوطه عبر خلق منافسة في هذا المجال، كي يُظهر بوضوح مدى إخفاق المشروع".
وتعرب فليك عن خشيتها من أن الدافع الأساس ربما لا يكون بالضرورة تطوير تكنولوجيا "واجهات الدماغ والكمبيوتر" بطريقة تخدم جميع المحتاجين إليها، أو حتى المستخدم العادي في الحياة اليومية. فإذا كان أحد الأطراف في سباق هذه التكنولوجيا يسعى إلى تحقيق ذلك بدافع الانتقام من خصم قديم، فلا ريب أننا إزاء مؤشر سلبي على مسار تطوير هذه التكنولوجيا مستقبلاً".
وتختم فليك حديثها بالإشارة إلى أن تطوير "واجهات الدماغ والكمبيوتر" يعكس بوضوح "شعوراً ضمنياً بالتفوق الطبقي لدى فئة المليارديرات من ذوي البشرة البيضاء، إذ يعمق هذا التطور الفجوة بين طبقة اجتماعية تملك القدرة على اقتناء هذه التكنولوجيا والاستفادة منها، وطبقة اجتماعية أخرى تظل محرومة منها".
© The Independent