ملخص
عودة الفنانة جاهدة وهبة إلى لبنان ومهرجاناته بعد غياب دام سنوات، كانت استثنائية في "ديوانية الحب" بتوقيعها في افتتاح مهرجانات بيت الدين. في حفلة ضخمة شكلت عودة إلى زمن العراقة والطرب، قدمت رؤية فنية رافقتها طويلاً في أمسية طربية جمعت فيها بين الغناء والشعر والمسرح لتخلق من خلالها رابطاً مع الإرث الثقافي والحضاري. في نهج يتوق الجمهور إليه، وفي محيط يعبق تاريخاً وعراقة، أعادت "ديوانية الحب" إلى مهرجانات بيت الدين رونقها. في لقائها مع "اندبندنت عربية" تحدثت وهبة التي غاصت في الفن تمثيلاً وتلحيناً وغناء وكتابة، عن حلم تحقق، وعن مسيرة حافلة جمعت فيها بين الكتابة والإخراج والغناء والتلحين لتقدم فناً تعبر من خلاله عن احترام للجمهور وعن عمق في الرؤية.
لم تكن "ديوانية الحب" أمسية عادية حضرت لها الفنانة جاهدة وهبة، بل هي تصفها بالرؤية التي حلمت طويلاً بتحقيقها في حفلة ثلاثية الأنغام اجتمعت فيه كبرى الأصوات في العالم العربي. وشاءت الظروف أن يتحقق في محيط أمثل وأجواء تعبق بالأمجاد والسحر والتاريخ في بيت الدين. فكانت جلسة طربية مستوحاة من المجلس الطربي المشرقي الذي يحمل كثيراً من عبق الزمن الجميل الذي يتوق كثر إليه. إلا أن الفنانة لم تشأ أن تتوجه بفنها العريق هذا إلى فئة معينة من الناس، بل حرصت على تقديم برنامج يرضي مختلف الأذواق والأعمار يضم أعمالها في جزء منه، وأعمال كبار الفنانين من لبنان والعالم العربي في جزء آخر.
فكان النتاج أجواء غلبت عليها الألفة، وتميزت بتفاعل عالي المستوى من الجمهور المتعطش إلى هذا النوع من الفن الراقي بمختلف الفئات العمرية التي ضمها. "تفاعل الجمهور بوجود الأجواء التي غلبت عليها الحميمية والألفة، تماماً كما أملنا في هذه الأمسية المتعددة الأنماط. كانت أجواء تذكر بالمجالس الطربية التي يتعطش إليها كثر، مع قصص وأخبار خلقت مزيداً من الألفة مع الجمهور".
عودة حافلة بعد غياب
طوال الأعوام الماضية، غابت الفنانة جاهدة وهبة عن وطنها وعن مهرجاناته، مما زاد من تعطش الجمهور اللبناني إلى حضورها الفني الراقي. فمن بداية الأزمة في لبنان، وخصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، ودخول البلاد في نفق من القلق واليأس بسبب الوضع المأسوي في لبنان. وعلى رغم ذلك، بقي الوطن محفوراً في قلبها وعقلها، وحرصت على إقامة حفلات يعود ريعها إلى لبنان. إلا أن الأجواء الإيجابية في البلاد في العهد الجديد، والأمل بغد أفضل كان حافزاً لها للعودة مع سلسلة حفلات كان أولها بمناسبة يوم المرأة أمسية بعنوان "في رحاب القصيدة والمقام" تضمنت تحية لأم كلثوم ونساء كثيرات في العالم العربي. وأقامت حفلات في لبنان مع المعهد الوطني العالي للموسيقى. وحرصاً منها على التعبير عن عشقها لبيروت التي لها مكانة خاصة في قلبها، قررت أن يكون لها حضور في افتتاح معرض بيروت الدولي للكتاب، خصوصاً أنها تقدم حفلات في معارض في دول العالم. كان لكل من هذه الحفلات طابع خاص، وانتقلت من بعدها إلى مهرجانات كبرى في الصيف مثل مهرجانات الأرز حيث شاركت بصوتها في حفلة فرقة "مياس" لتعذر حضورها شخصياً، إضافة إلى مهرجان كبير في الشمال، قبل أن يتحقق الحلم في مهرجانات بيت الدين.
فن أصيل في زمن الـ"فاست فود"
طوال مسيرتها الفنية الحافلة، اعتمدت وهبة نهجاً مختلفاً، وبدا لكثيرين أنها تمشي في عكس التيار، وتعاكس توجهات الجمهور وميولهم وأذواقهم. حتى إنها اتهمت بالنخبوية عندما اختارت نهجاً لا تنكر صعوبته. قد لا يسهل للكل السير في هذه الطريق، إلا أنها تجد نفسها في المكان الطبيعي الذي يشبهها، فتتابع مسيرتها في مكان تأخذها إليها الذاكرة، وتجد نفسها فيه، وقد تعمقت فيه طويلاً. "بالنسبة إلي، هناك اليوم كم هائل من الغناء السريع الذي أصفه بـ"فاست فود" لأنه لا طعم له، ولا متعة في الاستماع إليه. لكن عندما نقدم ما يحمل الأصالة والنكهة، وما هو معد بشكل متكامل، لا يمكن إلا أن يصبح له بعد آخر يترسخ في الذاكرة وفي وجدان الناس، مهما مر عليه من زمن. شخصياً لا يهمني الأثر السريع الذي ينتهي سريعاً كما بدأ، بل ما يهمني أن أسمع تعليقات كتلك التي تؤكد لي أن أعمالي غيرت شيئاً في حياتهم، وطبعت في ذاكرتهم، وتركت أثراً فيهم عندما أعادتهم إلى الزمن الجميل. عندما أسمع كلاماً كهذا، أجد نفسي في موقع مسؤولية ويحفزني لأتابع في هذا النهج وأتمسك به حتى الرمق الأخير. يضاف إلى ذلك أن الله أنعم علي بهذه الموهبة، ولا بد لي من الحفاظ عليها لأزرع الفرح في قلوب الناس".
من خلال أعمالها، استطاعت وهبة أن تدخل إلى قلوب الناس على اختلاف الفئات العمرية. فما تقدمه فن متكامل ينبع من الأعماق، خصوصاً أنها تجمع فيه بشكل متكامل بين اللحن، والأدب، والأصالة، والمسرح، إضافة إلى الرقي، خصوصاً أنها ترعرعت في أجواء تغلب فيها الأصالة في الغناء والثقافة. لذلك، تأتي بأعمال تقدم فيها الفن الأصيل فتخاطب من خلال الناس في أعماقهم.
فن التلحين
أما في تجربة التلحين، فإذا بها حالة خاصة لكونها من النساء القلائل في العالم العربي اللاتي خضن هذه التجربة بالتلحين لأعمالهن الخاصة. فيبدو تلحين المرأة لأعمالها مستغرباً في العالم العربي، إلا أنها على صعيد شخصي أرادت أن تغوص في الفن على طريقتها لتقدم أعمالاً متكاملة من حيث الكلمة، واللحن، والصورة حتى كونها خريجة تمثيل وإخراج أيضاً. أرادت أن تعبر بمزيد من العمق في أعمالها عبر تقديم ألحان نابعة من القلب، بعدما أتقنت أدوات الغناء الشرقي وعزفت على العود وكتبت قطعاً تؤدى على المسرح. وكانت تجربتها في تقديم الأمسيات الشعرية في العالم العربي الحافز الذي وضعها على هذا الطريق، وساعدها لتتعمق أكثر بالكلمة قبل أن يصبح التلحين الشفاء لها كما تصفه. فإذا بها تجد نفسها هنا قادرة على التعبير عما قد لا يمكن قوله في الحياة اليومية. لذلك، لم يكن التلحين مجرد إضافة في الفن الذي تقدمه، بل أصبح المجال الذي تستعيد فيه ذكريات مضت وتترقب أحداثاً مقبلة. وجدت فيها محطة للتعدد والتطور، حتى أصبح التلحين جزءاً أساساً منها ومن فنها، ووسيلة حققت من خلالها رغبتها بتقديم تلك الكلمات التي تسمعها فتسكنها بألحانها الخاصة. فلحنت لكبار شعراء العرب مثل محمود درويش وجبران خليل جبران وأبوفراس الحمداني وطلال حيدر ونصوصاً لأحلام مستغانمي وغيرهم كثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عرفت جاهدة وهبة أيضاً ككاتبة بما أنها كتبت مقطوعاًت موسيقية وشعرية، وصدر لها كتاب "أزرق والهدهد: عشق في فيسبوك". وعلى رغم ذلك لا تحبذ أن تعد نفسها كاتبة بل تصف نفسها بـ"العاشقة" للكتابة. هي تجد نفسها أكثر في الغناء، وتحديداً عندما تغني من ألحانها الخاصة، فهي مساحة تعني لها الكثير. "في مكتبتنا الأدبية كم هائل من القصائد التي يمكن أن تعتز بتقديمها غناء. أيضاً، يسعدني أن أقدم للجمهور كلمات جديدة بالغناء فتصل إليهم وتدخل إلى قلوبهم، خصوصاً عندما تترافق مع لحن نابع من القلب. وبالنسبة إلي، التوزيع له أهمية كبرى لتقديم الأغاني في قوالب موسيقية مختلفة بدلاً من حصرها لتجذب شريحة معينة من محبي الطرب. فيمكن تقديم أنماط تصل إلى الكل بقالب موسيقي مختلف".
في الحديث معها وفي متابعة أعمالها، تبدو جاهدة وهبي فنانة متكاملة صقلت موهبتها وملكاتها بالعلم. فقد حازت على ماجستير في التمثيل والإخراج، ونالت دبلوماً في الأغاني الشرقية، والأنشودة السريانية، وتجويد القرآن، والعزف على العود، إضافة إلى القراءات الشخصية التي تتعمق فيها للاستفادة من خبرة كبار كانوا السابقين. في كل خطوة جديدة، تلجأ إلى الثقافة سنداً لها فتجدها بحراً لا ينضب. تعدها أساسية للفنان لشحنه، ولإعطاء فنه بعداً آخر، لا بل قد تكون المعرفة حجر زاوية في حياته حتى يتعامل مع جمهوره باحترام. "من واجب الفنان أن يبني ذاته بالدراسات والعلم ليتعاطى مع جمهوره باحترام. من جهة أخرى إن المعرفة إلى جانب التجربة الشخصية من الأسس التي تصقل الفنان. لا يمكن إلا أن يجمع الخبرة والذاكرة من التجارب الشخصية التي تترك أثراً فيه، ليعطي بعداً آخر لعمله وفنه. أما بغير ذلك، فالفنان يبقى سطحياً، ما لم يجمع العلم والثقافة بالذاكرة وبتراكم الخبرات بتفاعله مع الأحداث التي يعيشها. في الوقت نفسه على الفنان أن يبقى في مكان يجمع فيه الناس، ويتكلم بالحق ويواجه الظلم من دون التعبير عن مواقفه. فهو ينتمي إلى حزب الإنسانية ويجمع الناس جميعاً ويحكي عن وجعهم من خلال وقفة إنسانية تبرز في أعماله، من دون أن تكون له وصمة معينة".