Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما وظف فرانتز ليست شعر هوغو في سيمفونياته

النتيجة أعمال استثنائية خضعت فيها الموسيقى للكلمة ولكن خصوعاً عابراً لا أكثر

فرانتز ليست (1811 -1886) (غيتي)

ملخص

الموسيقي فرانتز ليست، الذي أخضع قصائد الشعراء لطغيان موسيقاه، أخضع أيضا سيمفونياته لهيمنة الأبيات المستقاة من فيكتور هوغو، وبخاصة انطلاقاً من أن موضوع قصيدة "ما يسمع فوق الجبل"، أي الحوار الأبدي بين الإنسان والطبيعة

في عام 1856 وضع الموسيقي فرانتز ليست، وكان قد تجاوز الـ40 من عمره ووصل إلى ما بات يعتبر قمة المجد في إنتاجه الإبداعي الموسيقي، المدماك الأول في صرح موسيقي جديد شاء له أن يكون نوعاً من المزج بين الشعر والموسيقى يختلف عن ذاك الذي يقوم في الغناء أو حتى في الأوبرا، أو في أي نوع آخر من أنواع الترتيل، حتى وإن كان حرص على أن تتسم بعض حجارة ذلك الصرح بطابع ديني تأملي، أو فلنقل بطابع روحي.

ولقد حمل ذلك المدماك الأول عنواناً بالغ الشاعرية هو "ما يسمع فوق الجبل"، ولم يكن العنوان من ليست بالطبع، بل كان من الشاعر والكاتب الفرنسي فكتور هوغو الذي كان الموسيقي من كبار معجبيه، ومن هنا اختار أن يفتتح ذلك الصرح، المؤلف في مجمله من 12 قصيدة سيمفونية، بقصيدة لهوغو مستوحاة في الأصل من نص القصيدة الخامسة لهذا الأخير في مجموعته "أوراق الخريف"، تاركاً للمراحل المقبلة من "البرنامج" نفسه قصائد مموسقة لشعراء كبار آخرين، من بينهم دانتي اليغييري (دانتي – سيمفونية) وغوته (فاوست – سيمفونية) وغيرهما.

وسيقال دائماً إن ليست، بقدر ما أخضع قصائد الشعراء الآخرين في المجموعة لطغيان موسيقاه، أخضع هذه الأخيرة لهيمنة الأبيات المستقاة من هوغو، وبخاصة انطلاقاً من أن موضوع "ما يسمع فوق الجبل" نفسه، إنما كان من النوع الأقرب إلى فؤاد الموسيقي: الحوار الأبدي بين الإنسان والطبيعة، الذي يشكل موضوع القصيدة على أية حال.

الحوار الأبدي

ففي هذه القصيدة السيمفونية، التي لا يمكن اعتبارها مع ذلك من أشهر أجزاء ذلك الصرح الموسيقي الكبير والغني، الذي لا بد من القول إنه صنع في حد ذاته فرادة موسيقى لست، يمكن للمستمع أن يتنبه بسرعة إلى ما أشرنا إليه أول هذا الكلام من نوع من "خضوع" تام مارسه الموسيقي في حضرة شعر هوغو، مخضعاً لإيقاعات هذا الشعر ليس فقط جمله الموسيقية وإيقاعاته اللحنية الخاصة، بل كذلك - وهذا أمر طبيعي على أية حال - مجموع التيمات والتطورات اللحنية، وصولاً إلى التوزيع الأوركسترالي نفسه، بحيث إن العمل في مجمله بدا من أوله إلى آخره وكأن همه الأساس أن يعبر عن ذلك الحوار الأبدي بين قطبي ذلك الحوار، الإنسان في عظمته السماوية المطلقة والطبيعة في تقلباتها وأبدية دينامياتها، مما جعل موضوعة العمل ككل تبدو وكأنها نوع من إملاء خالص يمارسه النص الشعري على رغم محاولة الموسيقي في كل لحظة بألا يبدو وكأنه قد أسلم قياده للغة الشعرية تاركاً إياها تقود خطاه تماماً.

ولعل هذا ما أضفى على ذلك العمل تلك الجدلية التي وسمته بقدر من الصعوبة حائلة بينه، وبين أن يحقق شعبية كان من شأن شعر هوغو أن يضفيها عليه لو لم يكن العمل الشعري في حد ذاته تأملياً من خلال تصويره شاعراً يمضي جل وقته مصغياً إلى صوتين يتنازعاه، يصرخ أحدهما منادياً بسيادة الطبيعة، والثاني بسيادة الإنسان، في محاولة من كل من الصوتين لتأكيد أولوية حضوره في تتابع واختفاء وعلو لهجة وانخفاضها، بصورة متبادلة من المستحيل له أن يصل إلى قرار، مما يترك المجال مفتوحاً أمام نهاية غير حاسمة، ولعل هذه النهاية نفسها أسهمت في عدم شعبية هذا الجزء من العمل ككل.

مفتتح تقني

ولكن في مقابل هذا الافتقار إلى الشعبية، بل ولنقل هذا الخضوع من الموسيقي لسلطة الشاعر، يبقى أن "ما يسمع فوق الجبل" شكلت مفتتحاً رائعاً، من الناحية التقنية في الأقل، لتلك المجموعة من القصائد السيمفونية التي يرى المؤرخون والنقاد أنها في مجموعها تشكل اندفاعة من فرانتز ليست كان يحتاج إليها في وقت كان يريد فيه أن يحقق تجديداً متفرداً بأي ثمن كان، ومن هنا نراه، حتى وإن كان "رضخ" بالنسبة إلى قصيدة فكتور هوغو لمنطق أسبقية الكلمة فإنه في الوقت نفسه، ولكن خصوصاً في القصائد السيمفونية التالية، وخصوصاً مع دانتي وغوته، تمكن من أن يطلق مخيلته إلى أبعد الحدود في أعمال تبدت فيها تلك المخيلة متساوية مع المخيلة التي تتيحها الأشعار المختارة.

ولئن كان ليست حرص بالنسبة إلى "ما يسمع فوق الجبل" على خوض نوع من التعبير الدرامي الذي أتاحه له توزع القصيدة نفسه على حلقات تعكس تباعاً، صعوداً وهبوطاً بالتحديد، ذلك التوتر الذي يعيشه الإنسان في بحثه الصاخب والأليم عن مكانته في الكون إزاء الطبيعة التي صحيح أنها تغمره من كل مكان، لكنه هو يشعر مع ذلك أنه قادر على السيطرة عليها، وذلك في مقابل الطبيعة نفسها التي لا تكف عن زجره، موضحة له حدود مكانته وأهميته في الكون. حتى لحظات العمل الأخيرة حين يهدأ توتر الصوتين "المتناحرين" ليتوحدا ذات لحظة حاسمة في نوع من "اندانتي ريجيليوزو" (اندفاعة دينية) يتمثل في تأمل ميتافيزيقي يبدو أقرب إلى صلاة مشتركة لا بد منها في نهاية المطاف، وهو ما يضفي على العمل في مجمله ما تتسم به بقية القصائد السيمفونية التي يتكون منها ذلك الصرح الذي من الواضح أن فرانتز ليست (1811 – 1886) قد اشتغل عليه طويلاً، وراهن عليه بأكثر مما راهن على أي نوع آخر من الأنواع الموسيقية الكثيرة التي اشتغل عليها، وجعلت منه واحداً من أهم موسيقيي أواسط القرن الـ19 في تنوع أعماله، ولكن بأكثر من ذلك في حرصه على تجديدات كان يملك سرها ويتجول بين الأفكار والبلدان وضروب التراث الموسيقي الأوروبي وغير الأوروبي، بغية العثور عليها وتكييفها مع مواهبه المتعددة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

60 عاماً من الإبداع المتواصل

والحقيقة أن استعراضاً للإنتاج الموسيقي الغزير الذي أنتجه فرانتز ليست عملياً ونظرياً طوال سنوات إبداعه الطويلة - ما لا يقل عن 60 عاماً من التلحين والكتابة والابتكار في شتى المجالات، ناهيك بالعزف والتأليف الرائع للبيانو، الذي لم يضاهه فيه في زمنه سوى شوبان - سيفيدنا هذا الاستعراض بأن ليست قد خاض في أنواع موسيقية كثيرة، وغالباً خوضاً مؤثراً في أجيال تالية له من الموسيقيين في هنغاريا والنمسا وألمانيا، ولكن كذلك في فرنسا، إذ عاش كما نعرف حياة صاخبة هو الذي ولد في المجر ورباه أبوه ودربه لكي يضعه كموسيقي في خدمة الدوق استرهازي، الذي كان راعياً للفنون ومحباً لها، لكنه، أي الفتى، سرعان ما تجاوز ما ندبه له أبوه ليبدأ وهو بعد في التاسعة بالعزف على البيانو أمام الجمهور محققاً مكانة وشهرة كبيرتين، مما أهله لاستكمال دراسته في فيينا، ومن ثم للانتقال إلى فرنسا حيث بات جزءاً من حياتها الفنية ومجتمعها المخملي وحلقاتها الفنية والأدبية، ولا سيما أنه أمضى سنوات باريسية عديدة منكباً على دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع والتبحر في أشعار لامارتين وهوغو، والارتباط الودي بشوبان وجورج صاند عبر حياة كان من المفروض أن يضيع في صخبها، لكنه عرف كيف يوظفها لخدمة إبداعه ومعارفه الموسيقية التي راحت تتميز بحس فرادة وقدرة على الابتكار، كما نوهنا غير مرة أعلاه.

وذلك على رغم خوضه مغامرات نسائية، أهمها مع زوجة الدوق انغولت التي فر معها إلى سويسرا، حيث أنجب منها أبناءه الثلاثة، ومن بينهم بالطبع كوزيما التي ستتزوج لاحقاً من قائد الأوركسترا فون بيلو، ثم من فاغنر، ونعرف هنا بالطبع بقية الحكاية.

أما بالنسبة إلى فرانتز ليست فإنه، وعلى رغم كل ذلك، عرف كيف يتابع حياته الإبداعية متغافلاً عن حياته العائلية، لينتج عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية، ومن بينها إلى ما ذكرنا كونشرتوات للبيانو والأوركسترا، وأعمال دينية مثل "كريستوس" و"دراسات للبيانو" و"فانتازيات" و"هارمونيات شاعرية ودينية"، وقصيدته السمفونية الطويلة "هنغاريا" المقدمة لوطنه الأصلي، و"رابسوديات هنغارية" وغيرها، من دون أن ننسى بالطبع كتاباته النظرية، ومن بينها كتابه العمدة حول "البوهيميون وموسيقاهم في هنغاريا"، الذي أصدره باللغة الفرنسية في عام 1859، ليترجم بعد ذلك إلى عدد كبير من اللغات، ويعتبر واحداً من المراجع الرئيسة لتقنين الموسيقى البوهيمية ودراستها، وربما من خلاله أيضاً دراسة موسيقى ليست نفسه الذي يبدو كواحد من أكبر المتأثرين بتلك الموسيقى في القرن الـ19.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة