Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية الغرام المستحيل بين تاسو وإليانور وإلهاماتها

يوم تخلى اللورد بايرون عن مشاغله الكثيرة ليتفرغ لشكوى العاشق السجين

لوحة تمثل تاسو يقرأ لإليانور (متحف الفنون في روما)

ملخص

الحقيقة أن الفارق الاجتماعي بين إليانور رائعة الحسن المنتمية إلى طبقة لا يمكن أن يصل إليها إلا من ولد في أروقتها، وبين تاسو الذي، مهما علا شأنه، كان شاعراً وحسب، هذا الفارق كان هائلاً.

في نهاية الأمر يمكننا القول إن حكاية غرام الكاتب الروماني توركواتو تاسو بالمركيزة إليانور داستي تعد من أكثر الفصول الواقعية التباساً وفتنة في تاريخ الأدب الإيطالي، وليس فقط لأنها حكاية تحمل ملامح قصة حب مأسوية غير مكتملة، بل لأنها في النهاية قصة تكشف عن الصراع العميق بين الشاعر ونفسه، بين الرغبة والواجب، وبين الخيال والحدود الاجتماعية التي يبدو أنها حكمت عصر النهضة الإيطالية ومجالات تحكم الأفراد بحياتهم الخاصة فيه.

نعرف طبعاً أن تاسو كان شاعر ملحمة "القدس المحررة"، ولكن هل ترانا تساءلنا يوماً عما نعرفه من أن هذا الشاعر كتب ملحمته وهو في السجن؟ لقد تقبلنا هذا الواقع التاريخي كما هو، ولا شك أن الوقت قد حان لربطه بحكاية الهوى الذي "عاشه" تاسو مع الكونتيسة، محاولين العثور على رابط يجمع الواقعية التاريخية بالخيال الشعري.

 

تاريخياً، نعرف أن الشاعر كان قد وصل إلى بلاط آل داستي في مقاطعة فيرارا في ستينيات القرن الـ16، شاباً موهوباً تتطلع إليه العيون وتنتظر منه أوروبا كلها عملاً أدبياً شعرياً يوازي ملحمتي "فرجيليوس" و"أنتي". وهناك التقى تاسو إليانور، بطلة الحكاية، ابنة الدوق ألفونسو الثاني التي يذكرها التاريخ حتى اليوم بوصفها سيدة مثقفة راعية للفنون، ذات حضور هادئ ونبيل، سيدة كان من بين زوار صالونها مبدعون من طينة دا فنشي وبوتيتشيلي.

والحقيقة أن الفارق الاجتماعي بين إليانور رائعة الحسن المنتمية إلى طبقة لا يمكن أن يصل إليها إلا من ولد في أروقتها، وبين تاسو الذي، مهما علا شأنه، كان شاعراً وحسب، هذا الفارق كان هائلاً.

ومن المؤكد أنه سيؤدي الدور الأكبر في الحكاية بأسرها، بل حتى في نظرة الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون إلى هذه الحكاية معبراً عنها في قصيدة اشتهرت له عنوانها "شكوى توركواتو تاسو" (نشرت عام 1817). الإبداع يلعب لعبته غير أن الأدب، على عادته، عرف هنا من جديد كيف يسبق الواقع، ونحن ما زلنا نتحدث بالطبع عن قصيدة تاسو وليس عن قصيدة بايرون بعد. فلقد بدأت ملامح الكونتيسة تتسرب إلى الشخصيات النسائية في شعر تاسو، فإذا بها تصبح مرآة لأحلامه وأوهامه، والوجه الذي راح يتمنى أن يشيده في فردوسه الشعري، لم يكن غراماً معلناً على أية حال، بل كان مجرد همس مستتر تلتقطه الرسائل والملاحظات والمقاطع الشعرية، وهذا ما جعل المؤرخين ينقسمون بين من يرى العلاقة حقيقة عاطفية مكتومة، ومن يعدها مجرد إسقاط شعري لا أكثر.

والحقيقة أن سؤالنا هنا لن يدور إلا من حول قصيدة اللورد بايرون: فإلى أي النظرتين ترى صاحبنا شاعر بدايات القرن الـ19 يميل؟

من التاريخ إلى الشعر في الحقيقة أن اللورد بايرون لم يكن أول الرومنطيقيين الذين استولوا على تلك الحكاية، بل كان واحداً من آخرهم. فقد سبقه عديد من المؤرخين والمبدعين النهضويين وصولاً إلى غولدوني وكومبانيوني، بل حتى سبقه، الألماني الكبير غوتهولو من منظور آخر.

بيد أن أحلى ما فعله بايرون كان تحويله الحكاية إلى "مونولوغ" يلقيه تاسو نفسه وهو نزيل زنزانته في سجن "سانت أن: الذي ألقاه فيه آل داستي عقاباً له ليس فقط على تجروئه على الهيام بابنتهم وإعلان حبه على الملأ، بل على كونه قد أبدى نوعاً من الرغبة في ملامسة الذروة التي كان الدوق ألفونسو يشعر ان أسرته بلغتها ولا يجوز أن يدنو منها أحد. ومن هنا فإن الحكاية التي يعبر عنها تاسو في "المونولوغ" تتخذ أبعاداً نائية عن كونها مجرد حكاية غرام، إنها شكوى طبقية تنم عن رغبة صاحبها أن يكون لها موقع في العالم، أعلى كثيراً مما يراد لموقع أن يكون.

صحيح أن هذا الصاحب هو تاسو، في الشكل الظاهري للقصيدة، لكنه في الحقيقة بايرون نفسه، وهو ما سيعود إليه بايرون على أية حال في قصيدة تالية هي "الفارس هارولد"، وهو الموضوع الذي سنجده مفسراً بكلام علمي في الحوار الشهير حول موضوع الفن وغاياته، والذي دار بين غوته ووينكلمان، على أية حال، وهو ما يعطي الحكاية برمتها معنى غير متوقع يحول شكوى تاسو بلغة بايرون إلى إرهاص بالصراعات الطبقية التي كانت قد بدأت تدخل عالم الأدب وحتى الشعر في إنجلترا بدايات القرن الـ19.

عودةً إلى التاريخ مهما يكن من أمر هنا، قد يكون أن نترك اللورد بايرون مع قصيدته ونزعاته الطبقية، شديدة الإنجليزية في زمنه، لنعود للواقع التاريخي الذي لا يبدو أنه يريد حقاً أن يحسم الأمر.

ومن هنا نتابع حديثه من دون أن نصل نحن بدورنا إلى أي حسم. فتاسو ما لبث أن أدرك، وهو يرى أحاسيسه تجاه إليانور تتسلل إلى شعره، أنه يكاد أن يقع أسير قدر يدهمه، وأن قدراً كبيراً من القلق الداخلي يستبد به، بعدما كان حسه قبل ذلك قد قاده لأن يشعر بأن العالم الخارجي نفسه بدأ يضيق عليه وأن قدره كشاعر لا بد أن يكون الآن أكبر من قدر البلاط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولقد نتجت من ذلك تقلبات نفسية راحت تنتابه، وسوف يفسرها كثر لاحقاً بأنها أعراض اضطراب عقلي. صار الحب بالنسبة إليه منفذاً وخلاصاً كما صار لإليانور وظيفة رمزية تتجاوز حضورها الواقعي، أصبحت بالنسبة إليه المرأة المحظورة، المحرمة، الحلم المستحيل الذي يغذي الشعر بقدر ما يغذي الجنون.

ومن هنا تلك القلبة التي عند اللحظة المفصلية بين الشعر والحب والسجن والرغبة في الاستجابة لمتطلبات الذات، وقع تاسو ضحية أقداره لتتخذ الحكاية طابع الحكاية الغرامية ولو ظاهرياً في الأقل. وأتت لحظة الانفجار النفسي ليجد تاسو نفسه متهماً من قبل أرباب البلاط بالعداء لهم والتآمر عليهم، فإذا به يندفع كرد فعل منه، نحو إليانور باحثاً عندها عن اعتراف، عن يقين، بل عن لحظة تعيد ترتيب العالم. لكن العرف الاجتماعي كان أقوى، والتاريخ لا يرحم الحالمين. انتهى الأمر بحبسه في مستشفى "القديسة أنا" للأمراض العقلية سبع سنوات. والذي حدث خلال تلك السنوات، على أية حال، أن صورة إليانور راحت تزداد إشراقاً في خياله حتى تحولت إلى رمز للطهر والجمال وفقدان السعادة.

ومن الطبيعي أن نختم هنا قائلين إنه لم يكتب للحب نفسه أن يتحقق لكن الأسطورة اكتملت حين ماتت إليانور، وتاسو في منعزله سنوات قبل أن يتوج شاعراً في روما. وكان أن أصبحت حكايتهما غير الحقيقية تاريخياً، مثالاً لعشق لم يكتمل لكنه يبقى، وهذا الأمر من شيم الشعراء كما نعرف، أكثر حضوراً من الحب الذي يعيش في الواقع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة