ملخص
خريجو تلك الدورات كان يتم دمجهم مباشرةً في سياق عملهم وتخصصاتهم على أن تستكمل معارفهم خلال أوقات الخدمة اللاحقة بحكم الوقت، لكن مراقبين عسكريين كثراً رفضوا تلك السياسة ورأوا أنها تسهم في تعزيز توافر سلاح من دون هدف واضح لحمله ما لم يكن المجند مشبعاً بالمعارف الضرورية لدوره، وذلك يقود لاستنتاج وهو أن الأمر برمته قام بغية سد الفجوة الأمنية الهائلة بأي شكل وطريقة.
عقب سقوط النظام السابق في سوريا أواخر العام الماضي سارعت القيادة الجديدة إلى حل المؤسسة العسكرية بأكملها من جيش وأمن وشرطة، وشرعت ببناء منظومة جديدة تتوافق مع رؤيتها المرحلية والمستقبلية لشكل البلاد، ولأن القادمين نحو الحكم من إدلب "هيئة تحرير الشام" لم يكن لديهم من القدرات التعبوية خارج الفصائلية ما يكفي لتغطية بلاد باتت تحت إدارتهم فكان لزاماً عليهم المسارعة في وضع البنية الأولية في هذا الإطار.
ولأن الوقت بطبيعة الحال لم يكن في مصلحتهم، جرى كل شيء على عجالة، فاختلطت الأوراق ببعضها وخرجت قوات أمنية وعسكرية تفتقر لشيء من التجانس في ما بينها أولاً، ولأسس التدريبات المتخصصة ثانياً، وللتعامل مع المحيط والشعب ثالثاً، مع الأخذ في الاعتبار أن النواة الأولى والدائمة والمركزية في كل جهاز كانت قائمة على محاربي إدلب القدامى، رفاق سلاح السلطة الموثوقين في سني الحرب الطويلة الماضية.
وما زاد الأمر تشابكاً وأخذه نحو السياق غير الأكاديمي في عملية تأسيس الدولة من الصفر انطلاقاً من تحقيق عوامل أمانها القائمة على تلك المؤسسات، هو أمران: الأول وجود جنسيات أجنبية استلمت مناصب قيادية، وآخرون ظلوا في تعداد المقاتلين الطبيعيين، والثاني أن الجيش والأمن والاستخبارات والشرطة هم من مكون واحد مع إقصاء بقية المكونات، وكان التبرير أن ذلك جاء في إطار ضمان التجانس ضمن مرحلة حساسة.
تحضيرات على عجالة
اعتمدت السلطات الجديدة بعد التحرير والأشهر اللاحقة على نموذج إعداد سريع للمقاتل في مناحي التأهيل والتجنيد ما يضمن تخريج عشرات أو مئات الدفعات العسكرية المتتابعة بشكل متزامن أو بفوارق زمنية ضئيلة وكذلك بأعداد كبيرة لكل دفعة، تلك الأعداد كانت بالمئات بطبيعة الحال كل مرة، وكان الإقبال على التطوع والانتساب يتنامى ويتزايد لجملة أسباب تتراوح بين دوافع شخصية كالبطالة والخروج من أزمات موقتة، مروراً بدوافع مرتبطة بعامل الاستقواء النفسي كرد فعل على سنوات استضعاف، وصولاً إلى دوافع وطنية محضة لعناصر كثر.
خريجو تلك الدورات كان يتم دمجهم مباشرةً في سياق عملهم وتخصصاتهم على أن تستكمل معارفهم خلال أوقات الخدمة اللاحقة بحكم الوقت، لكن مراقبين عسكريين كثراً رفضوا تلك السياسة ورأوا أنها تسهم في تعزيز توافر سلاح من دون هدف واضح لحمله ما لم يكن المجند مشبعاً بالمعارف الضرورية لدوره، وذلك يقود لاستنتاج وهو أن الأمر برمته قام بغية سد الفجوة الأمنية الهائلة بأي شكل وطريقة.
دورات رمزية
يقول الخبير الأمني فائز أحمد لـ"اندبندنت عربية" إن على الناس في أي بلد أن يهابوا القانون، والخوف منه يكون عبر عناصره المكلفين بتنفيذه من ضابطة عدلية وعسكرية وغيرهما، ولو لم تسارع السلطة لاحتواء الموقف وتخريج آلاف العسكر لكانت احتكمت البلاد إلى فوضى تسودها شريعة الغاب والاقتتال المحلي، بل والحرب الأهلية ربما، مشيراً إلى أن مظهر الجندي والحاجز ووجود المخافر والقطعات العسكرية بحد ذاتها هي رموز دلالة وسيادة.
وأبدى فائز اعتراضه على طريقة تدريب وتخريج وتجنيد هؤلاء المقاتلين، قائلاً، "يمكننا فهم ضرورات المرحلة الأولى ما بعد السقوط وما تفرضه، لكن لاحقاً صارت هناك أولوية كبرى لأن يتخرج الجندي وهو ملم بالعلوم العسكرية ضمن اختصاصه بشكل كامل، فالشرطي في سوريا مثلاً هو عنصر مدني ويحتفظ ببطاقته المدنية وعمله كله مع المدنيين وعليه أن يتدرب كيف يتعامل معهم، خلاف عنصر الاستخبارات الذي يكون عسكرياً ويتولى مسؤوليات أكبر وأكثر تعقيداً من ضمنها على سبيل المثال مكافحة التجسس وأمن الاتصالات والطيران ومراقبة الجيش وغير ذلك، وعنصر حرس الحدود يختلف عن عنصر فرقة المدرعات ولا تنتهي الأمثلة، وأشك اليوم، إذا ما استثنينا مقاتلي إدلب الخبراء والمدربين، أن يكون بين آلاف الخريجين الجدد، ولا أدري ربما باتوا عشرات الآلاف، أن يكونوا قد خضعوا فعلياً لدورات معملية حقيقية في صلب مهامهم".
يمكن في جانب ما تبرير تلك العجالة للسلطة على أساس ملء الفراغ الأمني، وانعدام الملاءة المالية القادرة على تغطية النفقات التدريبية الموسعة والتخصصية وعدم قدرة الاستعانة بخبراء عسكريين أجانب أو إرسال بعثات تدريبية خارجية، والقدرة المالية ذاتها ترتبط بالقدرة الإدارية التي يمكنها إنتاج مدارس وكليات وأكاديميات حربية وعسكرية تتطلب سنوات لتخريج دفعاتها، فالأهم كان إيجاد العنصر أولاً ومن ثم البحث في المستقبل الأبعد، إذ إن سوريا تاريخياً منذ استقلالها عام 1946 تعتمد على الكلية الحربية في حمص لتخريج ضباط المدرعات والمشاة والسلاح الأرضي، وعلى الكلية البحرية في اللاذقية، والكلية الجوية، ومدارس الشرطة والاستخبارات في دمشق، وكل تلك المعسكرات كان يقضي الطالب الضابط داخلها فترات زمنية طويلة تمتد حتى سنوات.
الأكاديمي في العلوم الاستراتيجية هايل عبود قال إنه يمكن تجاوز كل الظروف الزمانية والمكانية والأسباب والشروط التي دفعت لاعتماد هذه الآلية في تخريج الدورات الجندية، لكن ثمة أشياء تستحق التوقف عندها، منها أن "معظم الدورات تكون بضعة أيام، السؤال الآن، لماذا يتم التركيز على الجانب الشرعي للجنود خلال هذه المدة مع عدم إيلاء مساحة فعلية للجانب العملي؟ حفظ الأمور الشرعية يكون أسهل مع الحياة العملية لاحقاً خلال الخدمة، لكن فك وتركيب البندقية وأساليب المداهمة لن تكون أسهل، هل التعبئة الأيديولوجية والسياسية تحافظ على حياة المقاتل في المعركة أم أن هناك أولويات أكثر ضرورة كتعليمه كيفية التخفي والقتال والتعامل مع مسرح الجريمة وغير ذلك؟".
داخل المجتمع
في سوريا الآن وفي سياق أي خلاف فردي يمكن سماع أصوات إطلاق النار لفض أي تجمع، بيد أن الهرمية السلطوية المتعارف عليها تقتضي أن يبدأ الحل من قوات حفظ النظام التي تكون عادة غير مسلحة إلا بعصا مطاطية، ومع كل تطور في الموقف يفرض هو ذاته طريقة التدخل وحل الخلاف والجهة التي يجب أن تتدخل، فلا يجوز لاصطدام مروري بسيط أن يتحول إلى مشكلة كبيرة لانعدام المعرفة بكيفية التعامل مع المتسببين أو الموقوفين أو المشتبه فيهم أو المجرمين حتى، وهذا يندرج ضمن غياب مفهوم التخصص الآني بحد ذاته، كأن يتدخل الجيش بنفسه لفض نزاع في شارع فرعي، أو تختلط القوات ببعضها في عملية تستوجب وجود جهة واحدة، فتفسد المهمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تلك التشابكات تجعل من اللجوء للعنف وارداً ومتاحاً في أي لحظة كرد فعل على أي حدث ولو كان بسيطاً، وذلك لأن المنتسبين الجدد فهموا سريعاً أن القوة هي سبيل تحقيق حضور الذات ومن خلفها الدولة أمام الشعب، كما يقول أشخاص تعرضوا لسوء فهم تطور لخلاف بصيغة مؤذية وذلك ناجم عن اختلاط المفاهيم ما بين مهام الجهة المسؤولة والمواطن الذي يصبح خصماً في لحظة، ما يخلق بيئة خصبة لصراع مجتمعي– سلطوي من جديد وفوقها ممارسات محمولة على خلفيات مناطقية أو طائفية تجعل من السلطة خصماً وحكماً في وقت لا تحتمل فيه سوريا زيادة الاختصام بين أبنائها.
تجارب مشابهة
بعد إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003 والإسراع بحل حزب البعث والجيش والمؤسسات العسكرية وغيرها واجهت البلاد فراغاً مريباً، فكان الحل الوحيد أمام قوات التحالف المعاجلة في إعداد برامج تدريبية تكفل تخريج عشرات آلاف العناصر في زمن سريع جداً، وعليه رأت أميركا وقتذاك أن تفتتح الدورات مباشرة وأن يلتحق بها فئتان مقسمتان بعناية، الأولى هي من تملك خبرة عسكرية ولا يزال من المقبول وجودها في الساحة، وهذه الفئة قد تكون شاركت في حروب سابقة، أو ضمن ميليشيات، أو إلى جانب قوات التحالف خلال الغزو، أو في مضامير أخرى، لكن بالتأكيد ليست من قوات جيش العراق السابق، وهذه الفئة خضعت لدورة مدتها أقل من شهر واحد.
أما الفئة الثانية، فقد شملت المتطوعين من غير ذوي الخبرة القتالية السابقة نهائياً، وهؤلاء خضعوا لدورات أطول تراوحت بين شهرين وثلاثة أشهر، وعلى رغم ذلك فإن خريجي هذه الدورات لم يبلوا حسناً ولم يكونوا بأفضل الأحوال وبخاصة القوات الشرطية التي افتقدت للانضباط في التعامل مع الناس، وسرعان ما تورطت في انتهاكات ومشكلات رشى وفساد ومحسوبيات وقضايا طائفية.
وفي عام 2022 اعتمدت أوكرانيا عقب الصراع مع روسيا على برنامج تدريب عسكري سريع بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لمدة ثلاثة أسابيع تشمل دورات مكثفة باستخدام السلاح وبقية تقنيات المعارك، ولاحقاً ارتفعت مدة التدريب للمقاتلين الأوكران إلى خمسة أسابيع ضمن برنامج "إنترفلكس" البريطاني، وفي العام الحالي ارتفعت مدة تدريب الدورة العسكرية إلى قرابة شهرين ضمن ذات المشروع الأوروبي المخصص لدعم أوكرانيا.
وفي أفغانستان، كانت الدورات التي تقارب شهراً تعود بنتائج عكسية سريعة على المجتمع والسلطة الحاكمة الجديدة هناك وقتذاك، طالبان، ما أدى إلى إعادة دراسة الجدوى الزمنية الفعلية وتطويرها نظرياً وعسكرياً لتتمكن من مواجهة تحدي الفشل العشوائي الناجم عن إنتاج قوات هشة وغير مكتفية التدريب.
جيوش دولية
أجرت "اندبندنت عربية" بحثاً حول بعض الجيوش والمؤسسات العسكرية العالمية لمعرفة كيفية التدريب داخلها والطريقة المتبعة في ذلك، وعلى رأس تلك الدول الولايات المتحدة الأميركية التي تبين أنها تعتمد بصورة واسعة جداً على كثير من الأكاديميات التقنية بالغة التخصص التي تتيح التدرب ضمن مدد زمنية طويلة قد تستغرق سنوات وعلى رأسها: الجيش، والبحرية، وسلاح الجو، والشرطة الفيدرالية عبر (أكاديمية أف بي آي)، ومراكز تدريب الاستخبارات المركزية، والأمن القومي. وكل تلك الجهات تتلقى تدريباً قاسياً وصارماً، كل وفق تخصصه مع مراعاة المهارات القتالية والتكتيكية والذهنية والنفسية والحيوية وإدارة الأزمات والتفاوض وإنفاذ القانون الدولي ومراعاة حقوق الإنسان مع الاشتراط الرئيس المتعلق بالجمع بين قوة الشخصية والقدرة على القيادة.
وإلى أوروبا وألمانيا تحديداً فإن قوات الاستخبارات والشرطة والجيش هناك يخضعون لبرامج مهنية وتأهيلية متكاملة تقوم على التدريب المتنوع بين العملي والنظري والميداني المباشر كالرماية والتعامل مع الأسلحة وإدارة الخطط والتكتيكات وعمليات الإسعاف وحفظ مسرح الجرائم إلى جانب إيلاء شأن واسع لمفاهيم القوانين الدستورية والاجتماعية والدولية، وبعد تلك الدورات الصارمة لا يبدأ الخريجون بوظائف رفيعة، بل يبدأون من الحد الأدنى متدرجين في سلم الترفع وفق إحصاءات وإنجازات عملهم مع وجود لجان مراقبة وتقييمات مستمرة.
وإلى شرق آسيا فإن قوات الدفاع الياباني أيضاً تخضع لدورات عسكرية معمقة تصل إلى عامين أحياناً، وكبقية الدول، تشمل تدريبات المجندين السلاح بأنواعه المتعددة، والإسعافات الأولية، والاستجابة للأزمات والطوارئ، والإنقاذ الصحي، والمهارات النفسية في التعامل مع المحيط والآخرين، وتتميز اليابان بصرامة تطبيق التدريب على الانضباط والسلوك الأخلاقي القويم الذي يصل حد اعتبار الرشى أياً كان نوعها واحدةً من أكبر الجرائم المسلكية، ولذلك يخضع العنصر أو الضابط لمراقبة لجنة فنية مستمرة تقدم تقاريرها حوله لقياداتها الأعلى رتبةً.