Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللوحات الإعلانية في لبنان: ساحة حرب معلقة في الهواء

من جداريات الخميني إلى بانويات "نحب الحياة": أرشيف للذاكرة الجماعية

لوحات داعمة للرئيس دونالد ترمب في العاصمة بيروت أثارت غضب البعض (ا ف ب)

ملخص

تحولت اللوحات الإعلانية في لبنان من أدوات تسويق تجارية إلى أرشيف بصري للصراع السياسي والطائفي، فمن جداريات الخميني في الثمانينات إلى حملة "نحب الحياة" عام 2005، وصولاً إلى الجدل المعاصر حول صور النساء وقبول أو رفض إعلان معين، يتضح أن كل لوحة تعكس ديناميات السلطة والهويات المتنازعة، واللوحات هنا ليست وسائط محايدة بل جبهات رمزية تتجسد فيها عمليات الظهور والإخفاء والتشويه، كجزء من معركة أوسع على الذاكرة الجماعية وصورة الوطن في فضائه العام.

وكأنها خرائط مكتوبة بالحبر السري، تتخذ لوحات الإعلانات مواقعها في لبنان وترتدي ما يناسب كل منطقة، في بلد منقسم يحاول اختبار حدود سلطته في كل مرة بقوى ناعمة حيناً وخشنة حيناً وشديدة الخشونة في أحايين أخرى، فالنفوذ الطائفي من جهة والحزبي من جهة أخرى محكومان أحياناً بالإسقاط المجتمعي جعل هذه السوق في تجاذب مستتر، لكنه ما يلبث أن يطفو على السطح تحت وطأة أية حادثة.

وعلى رغم أن شركات الإعلان تختار الصور والرسائل وفق حساسية المنطقة وما يتقبله جمهورها الأكثري، لكن الجدل يندلع أحياناً في قنوات للتعبير تتراوح بين الاستهجان والمهاجمة على وسائل التواصل، وصولاً إلى تشويه اللوحات ونزعها أو إحراقها.

بيكيني وبوركيني

تخيلوا مشهداً للوحات عملاقة في الضاحية الجنوبية لبيروت تعرض إعلاناً لبيكيني (لباس سباحة نسائي)، بينما في جونية (جبل لبنان) ترتفع صور لحملة بوركيني (لباس سباحة للمرأة مصمم لتغطية كامل الجسم ما عدا الوجه واليدين والقدمين)، وفي بلد يرفع شعار التنوع في كل خطاب رسمي ويتباهى بأنه يحتضن كل الأطياف يبدو الأمر ممكناً بشكل نظري، لكن في الواقع ما إن تظهر صورة واحدة خارج السياق الجغرافي حتى تتحول اللوحة إلى ساحة معركة، فسيمزق إعلان البيكيني بداعي الحشمة وإعلان البوركيني بداعي التطرف، وهكذا يصبح جسد المرأة، مغطى كان أو مكشوفاً، قنبلة موقوتة في فضائنا البصري.

أما من الناحية التسويقية الصرفة فالحملات الإعلانية المبنية على الاستفزاز قد تولد شهرة لحظية لكنها تضر بصورة العلامة التجارية على المدى الطويل، وأظهرت دراسة نشرت عام 2004 بعنوان "تأثير الدين على المواقف تجاه الإعلان عن المنتجات المثيرة للجدل" نشرت في journal of Advertising Research  أن الإعلانات المثيرة للجدل قد تزيد من تذكّر العلامة لكنها تقلل من نيات الشراء عند الجمهور المستفز، ولكن الطريف أن الجدل نفسه قد يصبح دعاية مجانية، وهو ما نراه كل مرة تشوه فيها صورة على لوحة إعلانية فيعاد نشرها على وسائل التواصل أكثر مما لو بقيت سليمة، لكن لا يترجم هذا الانتشار إلى مبيعات، ففي لبنان مثلاً حيث الولاءات الدينية والحزبية تطغى على الولاءات الاستهلاكية، غالباً ما تكون النتيجة عكسية، إذ يتحول المنتج إلى رمز صراع بدل أن يكون سلعة.

حجاب في الأشرفية

في يوليو (تموز) الماضي اندلع جدل واسع ودعوات مقاطعة ضد علامة تجميل لبنانية، والسبب المدهش هو ظهور عارضة لبنانية محجبة على لوحة إعلانية في الأشرفية (شرق بيروت)، ولم تكن الحملة لافتة في ذاتها بل في مكانها، إذ اعتبرها كثيرون "غريبة عن السياق" وخرجت أصوات ترفض ما وصفته بفرض ثقافة دخيلة، وأظهرت هذه الحملة هشاشة التوافقات غير المكتوبة والمعلنة حول صورة المرأة في الإعلانات تبعاً للمنطقة، وكيف يُختبر حضور الحجاب أو يرفض بحسب الجمهور المفترض، وهذه الواقعة التي غطتها وسائل الإعلام والتواصل تظهر شرخاً مرعباً لم ترتقه نظريات العيش المشترك و"كلنا أخوة"، وتطرح أسئلة مفادها من يملك حق تعريف الفضاء البصري. ما يظهر أن اللوحات الإعلانية في لبنان، شأنها شأن باقي الوسائل والقضايا، ليست مساحة تجارية محايدة، إنما شاشة تُسقط عليها الجماعات هوياتها وحدودها غير المرئية.

تمزيق ودهن اللوحات الإعلانية

وفي عام 2017 كانت "جمعية علماء المسلمين في لبنان" في طرابلس قد طالبت البلدية بإزالة لوحات إعلانية وصفتها بأنها فاضحة، وهي عبارة عن إعلان لـ "كوكاكولا" يظهر فيها رجل عار من الأعلى وامرأة بلباس سباحة على الشاطئ معتبرة أنها تخالف الأخلاق العامة، ونشرت الجمعية لقطات لعملية إزالة الإعلانات على مواقع التواصل بعد اتخاذ إجراء قانوني، مؤكدة أن اللوحات وُضعت بصورة غير لائقة أمام مسجد، كما شددت الجمعية على رفض استغلال أجساد النساء في الإعلانات وانتقدت الشركات التي تتجاهل القيم المحلية.

تعد صور النساء على اللوحات الإعلانية هدفاً للرقابة المجتمعية في لبنان، ولطالما شوّه بعضهم وجوه النساء وما ظهر من أجسادهنّ بالبويا على اللوحات الإعلانية، أو أزيل الإعلان بالكامل في عدد من المناطق بذريعة الحشمة أو القيم الاجتماعية، ويفضل بعض "المطاوعين" إخفاء ما يرونه نسبة إلى ثقافتهم، صوراً جريئة بصورة جزئية أو كاملة، حتى لو كانت إعلانات تجارية بسيطة.


​​​​​​​وفي الواقع فإن هذه التشوهات ليست نتاج عبث عفوي بل تعبيراً ضمنياً أو صريحاً عن رفض الرؤية العامة، أو شعور أن الجسم النسائي في الفضاء العام يتجاوز قبولاً اجتماعياً، حيث تتحول اللوحات من مجرد وسائل تسويق إلى أرشيف للصراع على الحضور والتعبير ومن يمتلك حق الظهور في الفضاء المفتوح.

يذكر أنه في بلد مثل لبنان فإن الخطاب الأخلاقي ليس ميثاقاً جامعاً بل سلاحاً انتقائياً يصوغه من يملك المنطقة أو الصوت الأعلى، ليقرر وحده ما يسمح للآخرين أن يروا، ولأن اللوحات الإعلانية تشكل الفضاء البصري العام فإن تشويه الوجه البشري على إعلان يعد أداة واضحة لإلغاء وجوده، وهو ليس عبثاً جمالياً فقط بل سلوك محمّل برسائل من قبيل من يقرر من يحق له الظهور؟ وعلى أي أساس؟ والمشهد اليومي في لبنان يعكس هشاشة قدرة المجتمع على قبول الاختلاف البصري، وتشويه الصور ليس مجرد فعل رمزي بل رفض لانفتاح الفضاء العام على هويات  عدة.

ضجة إعلامية مجانية

في علوم الإعلان فإن إثارة أي جدل حول منتج ما أو طريقة إعلانه يعد إعلاناً مجانياً قد يؤتي بنتائج تفوق توقعات العلامة التجارية لكن ذلك يتطلب حذراً، فالجدل يجذب الانتباه بسرعة ويخلق تفاعلاً واسعاً عبر وسائل التواصل مما يرفع الوعي بالعلامة التجارية بكلفة منخفضة، والحملات الصادمة ثبت أنها تنشّط الانتباه والذاكرة وتزيد فرص تفاعل الجمهور معها أكثر من الإعلانات التقليدية.

وذكرت دراسة بعنوان "كيف يؤثر تفاعل العلامة التجارية في ردود فعل المستهلكين تجاه القضايا المثيرة للجدل وغير المثيرة للجدل" نشرت في Textile Engineering & Fashion Technology أن الإعلانات المثيرة للجدل تكون فعالة فقط إذا كانت متوافقة مع قيم العلامة التجارية والجمهور المستهدف، لأن الانحراف عن الهوية يفقد الثقة ويضر بالسمعة، ففي عالم التسويق يعد الجدل مثل شرارة نار تماماً، فيمكنه أن يشعل اهتمام الجمهور ويمنح العلامة التجارية ضجة إعلامية مجانية، لكن له قوة مزدوجة الأوجه، فإذا لم يكن موائماً مع قيم العلامة فقد يحرق صدقيتها.

بيروت مدينة بلا طائفية

في سياق متصل أحرقت لوحات إعلانية في أبريل (نيسان) الماضي على طريق مطار بيروت بعدما استبدلت صور قتلى "حزب الله" بعبارة "عهد جديد للبنان" مرفقة بصورة جوية لخليج جونية، وقد بدا التغيير تجارياً من الخارج إلا أنه فسّر سياسياً، فرآه بعضهم حذفاً محموداً للمدخل الجنوبي للعاصمة من صور الحزب كتنفس الصعداء من هيمنة الصور والشعارات، وبعضهم الآخر اعتبره إنكاراً للواقع المستمر من حرب واحتلال، وردود الفعل المتباينة تكشف من دون أي لبس عن حساسية المشهد البصري، حيث تتحول اللوحات من وظيفة الدعاية إلى رسم حدود مرئية تفصل الطوائف والمناطق، وتحدد مناطق آمنة ومناطق محظورة.

وبعد أيام أعلنت بلدية بيروت بقرار صادر عن وزير الداخلية أحمد الحجار إزالة الصور والشعارات الحزبية والدينية من الوسط التجاري للعاصمة تحت شعار "مدينة بلا طائفية"، فرحّب بعضهم بالخطوة فيما اعتبرها بعضهم إجراء سطحياً لا يعالج الانقسام الحقيقي، بل محاولة تجميلية لمدينة منهكة سرعان ما ستتلاشى آثارها مع عودة الصور والشعارات في أول احتكاك سياسي جديد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بيلبورد "نحب الحياة"

لم تكن شوارع لبنان محايدة منذ الحرب الأهلية، فكثيراً ما شكلت الجدران واللوحات فضاء موازياً للصحف والتلفزيون لتعلن الولاءات وتعيد إنتاج الانقسام، فصور المسؤولين والقياديين والضحايا والشعارات الحزبية المتنوعة والأعلام وصولاً إلى الانتخابات والشعارات المرافقة لها، شكلت لغة بصرية واضحة، وكل منطقة تعرف بما يعلق على جدرانها، والجدران واللوحات الإعلانية ليست مجرد مساحات فارغة تعلّق عليها صور ومنتجات وإنما مرآة تعكس صورة البلد وتحولاته، وفي ذروة الانقسام السياسي خرج شعار "نحب الحياة" على لوحات الإعلانات في شوارع بيروت كأنه بيان مضاد، ولم يكن مجرد جملة شعرية مقتبسة من الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ولا تحية له، إنما سلاح بصري رفعه تيار "14 آذار" (تحالف ثار على الوجود السوري بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري) في مواجهة خطاب "المقاومة" والموت والشهادة الذي تبناه خصومه "8 آذار".

وحينما غطت اللوحات الطرقات عامي 2005 و2006 لم تقرأ كحملة تسويقية لأسلوب عيش وإنما كاستفزاز سياسي مباشر يختصر الصراع، مما جعل فريق "8 آذار" يرد بالمثل في حملة شعارات مضادة انتشرت في المناطق اللبنانية "نحب الحياة بكرامة" و"نحب الحياة بحريّة"، وفي الحالين تحولت الإعلانات إلى ساحة تجاذب علني، إذ لم يعد الفضاء البصري محايداً أو تجارياً وإنما انعكاساً مباشراً للصراع على الهوية والذاكرة، بين رؤية ترفع شعار العيش ورؤية تستحضر التضحية، وبين الشعارين تحولت الإعلانات إلى جبهات معلقة في الهواء لا تبيع منتجاً وإنما تبيع هوية أو موقفاً، وتجعل من شوارع لبنان مرآة للانقسام أكثر مما هي واجهة للتنوع.

جداريات الخميني

وكان لبنان قد شهد مع بدايات الثمانينات وبعد انتصار "الثورة الإسلامية" في إيران انتشاراً لصور الخميني والقادة الإيرانيين في شوارع الضاحية الجنوبية والبقاع (شرق) وبعض مناطق الجنوب، جدران طليت بخلفيات حمراء وخضراء وسوداء فوقها وجوه مكبرة لآيات الله بعمائمهم السوداء والبيضاء، وملامح صارمة مرسومة بخطوط واضحة تشبه الملصقات الثورية في طهران، ولم تكن الصور صغيرة أو جانبية بل غطّت جدران المدارس ومداخل الأحياء  وحتى بعض الجسور، وكأنها تقول إن ثورة بعيدة جغرافياً وجدت لها موطئ قدم هنا.

ألوان صارخة وشعارات بالفارسية والعربية بين عبارات الدعوة الدينية، وخطاب سياسي عالمي أبرز المقولات فيه كان "الموت لأميركا"، ظهرت فجأة في فضاء بصري اعتاد قبلها على صور زعماء محليين أو شعارات حزبية لبنانية، ويومها لم يمرّ المشهد بصورة عادية ورأى بعضهم فيها رمزاً لقوة جديدة تدافع عن المستضعفين، وكثيرون استغربوا استيراد أيقونات جديدة إلى الساحة اللبنانية، ورأوا في الأمر تغريباً للهوية أو محاولة فرض رمزية غير مألوفة، وقد وثقت الصحافة آنذاك هذا النقاش، بين من وجدها تعبيراً عن تضامن عقائدي وسياسي مع الثورة ضد الشاه، ومن قرأها كاختراق للفضاء العام اللبناني برموز غير لبنانية، ومع الوقت ألِف الناس هذه الصور حتى غدت جزءاً من المشهد الثابت، بخاصة بعد طلوع نجم "حزب الله"، وباتت وجوه الخميني وخامنئي من أسس المشهد السياسي وتجاور صور القتلى المحليين وقادة الأحزاب اللبنانية، على رغم أنها في بداياتها كانت صادمة وتشبه "غزواً بصرياً" أكثر منه مجرد شعارات دعم، بحسب ما أورد الباحث الأميركي أوغستوس ريتشارد نورتون في كتابه "أمل والشيعة: النضال من أجل روح لبنان" الذي نشر عام 1987.

الانتخابات واستحواذ المناطق

أما في موسم الانتخابات فيحتل المرشحون اللوحات الإعلانية، ذلك السيل من الشخصيات الممهورة صورهم بشعارات رنانة ينافسون السلع والخدمات، فتغلق الشركات التجارية دفاترها وتُسخر الـ "بيلبوردات" في معظمها لعرض صورهم بأحجام مختلفة، وتختنق الشوارع بوجوه متجهمة أو مبتسمة تتزاحم بشعاراتها، وتتحول اللوحات التي يفترض أن تبيع منتجاً أو فكرة واضحة إلى جدران للوعود الفارغة كما توثق التجربة، وكأن الفضاء العام مجرد مستعمرة موقتة يفرض فيها السياسيون حضورهم البصري بالقوة، وينقسم المرشحون بحسب المناطق فيسيطرون على الجسور والمداخل والجدران كل بحسب منطقة نفوذه، ويظهرون أكثر فأكثر الصورة الفعلية لانقسام البلد، وتصبح اللوحات أداة استحواذ لا وسيلة تواصل، والمفارقة أن هذه الوجوه العملاقة التي تلاحق المواطن في كل زاوية قبل الانتخابات تختفي مع انتهاء الانتخابات كما ظهرت.

أية صورة؟

على رغم أن التسويق ليس حكراً على المنتج والخدمة ويقوم في أحايين كثيرة على التسويق للأفكار عبر الدعاية والإعلان بكل أشكاله من المرئي والمسموع والمكتوب والافتراضي، لكن اللوحات الإعلانية في لبنان تظهر وكأنها جبهات صراع معلّقة في الهواء ومرآة لبلد يفاوض هويته كل يوم، ويعيد رسم حدوده الرمزية بالحبر والصورة والطلاء في فضاء بصري لا يعرف الحياد، حيث كل لوحة إعلان تتحول إلى اختبار للذاكرة الجماعية وتذكير بأن الانقسام ليس في البرلمان فقط بل على جدران الشوارع أيضاً، ويبقى أن التعامل مع اللوحات الإعلانية في لبنان ليس سوى انعكاس لطريقة التعامل مع الذاكرة الجماعية، إما رفعها كأعلام انتصار وسيطرة أو إزالتها كديكور لواجهة نظيفة أمام السياح، وهكذا تنقلب اللوحة الإعلانية من وسيط تجاري إلى مؤشر حاد لقياس توازنات البلد وتناقضاته، أما الحوار الحقيقي حول معنى هذه الصور وحدود حضورها في الفضاء العام فلا يزال غائباً، وتبقى مدننا محكومة بصور ترفع وتمحى كأنها نصوص مكتوبة بالحبر السري على وجه بلد لم يحسم بعد أية صورة يريد أن يعكس للعالم، أو ربما حتى لنفسه.

المزيد من تقارير