ملخص
على رغم أن البوركيني أحدث من كل الأديان، بما فيها الإسلام، وأنه كفكرة ليس مرتبطاً بالمسلمات فحسب، فإنه أصبح رمزاً من رموز الدين، وفي العقود الأخيرة أداة غير معلنة من أدوات جماعات الإسلام السياسي لاستعراض القوة وبسط الهيمنة.
قبل أيام، أعلنت الحكومة السورية عن معايير جديدة خاصة بملابس السباحة والذوق العام في الأماكن العامة، وعلى رغم أن "المعايير" الجديدة أدرجت الرجال ضمن الضوابط والقواعد والشروط والأحكام، فإن الجميع يعرف أن الحديث - أي حديث عن "الملابس" - عادة يدور ويصول ويجول حول النساء.
وعلى رغم أن القرار تطرق كذلك إلى قواعد عمل المنقذين ومواعيد السباحة والأعلام الخاصة بحال البحر وغيرها من قواعد السلامة، فإن أعين العالم وأصوات المعترضين وقلوب المؤيدين تعلقت فقط بما يتعلق بملابس السباحة في المناطق العامة والحفاظ على الذوق والمشاعر العامة.
لسعات القنديل
جاء في القرار ضمن قواعد إرشادية حول عدم التعرض لأشعة الشمس وقتاً طويلاً، وكذلك لسعات القنديل، والقفز أو الغطس في مياه صخرية أو ضحلة وغيرها، "يطلب من رواد الشواطئ والمسابح العامة من السياح والزوار التزام ارتداء ملابس سباحة مناسبة تراعي الذوق العام ومشاعر مختلف فئات المجتمع، وذلك احتراماً للتنوع الثقافي والاجتماعي والديني في الجمهورية العربية السورية". وتمت الإشارة في بند مختلف إلى أنه "يطلب ارتداء ملابس سباحة أكثر احتشاماً في الشواطئ والمسابح العامة مثل البوركيني أو ملابس سباحة تغطي الجسم بصورة أكبر، مع ارتداء أغطية فضفاضة فوق ملابس السباحة عند التنقل بين الشاطئ والأماكن العامة".
معاون وزير السياحة السوري غياث فراح قال إن "هذه التعميمات مماثلة لتعليمات دول الجوار التي تعمل وفق المبادئ العامة". وكما هو متوقع، وبحكم توافر كل عوامل الإثارة في التعميم السوري الرسمي، حيث المرأة والملابس وما يعتبره كثر أمارات "الحكم الديني" أو المستند إلى خلفية دينية، أو المتوقع له أن يميل جهة الدولة الدينية بحكم الأصول الفكرية للجماعة أو الهيئة التي قدم منها، انقسم المتابعون إلى ثلاثة أقسام: الأول مؤيد مهلل محبذ للفكرة التي تحافظ على الآداب الإسلامية وتراعي القواعد الدينية وتحترم العقيدة والشريعة، والثاني مندد معارض شاجب للفكرة التي تفرض لباساً ذا طابع ديني على النساء، وتقتحم خصوصية الاختيار، وتفرض أحكاماً دينية ضمن نظام الحكم الذي يفترض أنه مدني لا ديني، والثالث لا يرى عواراً أو مشكلة أو معضلة في التعميم، سواء على اعتبار أن الثقافة العربية بصورة عامة تميل إلى الاحتشام، أو من منطلق أن كل ما قد يصدر عن أي نظام غير نظام بشار الأسد مقبول لحين إشعار آخر.
الحقيقة هي أن البوركيني وما يتسبب فيه من جدل وقدرته الفائقة على إثارة النظريات حول الجماعات والأيديولوجيا الإسلامية، واستثارة الفرق المتناحرة حول ما يمثله من حرية شخصية لمن تختار أن ترتديه، أو ضغوط مجتمعية وسياسية ونفسية لمن ترفضه، أو تنميط للفريقين، فهو ليس مجرد لباس بحر محتشم، ولكنه رمز ثاقب وأداة فعالة ومنصة واضحة تدعم فكرة وتدحض أخرى، وأحياناً تضمن الحرية الشخصية، ولكن للبعض دون الآخر.
وعلى رغم أن البوركيني أحدث من كل الأديان، بما فيها الإسلام، وأنه كفكرة ليس مرتبطاً بالمسلمات فحسب، فإنه أصبح رمزاً من رموز الدين، وفي العقود الأخيرة أداة غير معلنة من أدوات جماعات الإسلام السياسي لاستعراض القوة وبسط الهيمنة.
كثير من التفسيرات الدينية لأديان وطوائف عقائدية يفرض ملابس بحر للنساء هي صورة طبق الأصل من البوركيني، من "المورمون" (جماعة دينية تصنف نفسها مسيحية وتعترض كنائس عدة على ذلك) إلى "الأميش" (جماعات مسيحية تعيش في تجمعات منعزلة عن بقية المجتمع) إلى "المينونايت" (جماعة مسيحية بروتستانتية تعتمد على تجديد العماد)، إلى طوائف عدة من اليهود الأرثوذكس، ويتوقع من النساء، وأحياناً الطفلات، ارتداء ملابس سباحة تغطي غالب الجسم أو كله في ما يشبه البوركيني إلى حد كبير، أو يتطابق معه.
اختيارات النساء
رسخ البوركيني أو "المايوه الشرعي"، كما يطلق عليه عربياً، لنفسه مكانة في عالم السياسة رغماً عن الجميع، بمن فيهم النساء أنفسهن. اختيارات النساء، لا سيما المسلمات، في الملابس تُستغل من قبل كثير من الدول، لا سيما في العقود القليلة الماضية للتسييس وإشهار المواقف. تختلف السبل وتتعدد الغايات، لكن تظل الأداة واحدة: النساء، وماذا يرتدين؟ وماذا لا يرتدين؟ بين دول وحكومات وأنظمة تمنع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات وأماكن العمل، وأخرى تفرضه ولو من دون قرارات رسمية، ولكن بضغوط مجتمعية، وثالثة تعلن كود ملابس يفرض على جميع النساء، وعلى المتضررة عدم الخروج من بيتها، ورابعة تؤيد منع ملابس بعينها، وخامسة تعارض المنع بشروط وهلم جرا.
في خضم كل ذلك، يبقى البوركيني وجهاً من وجوه سطوع نجم الإسلام السياسي في دول المنطقة العربية، ولعله الوجه الآخر الأبرز. فبعدما أصبح الحجاب – مختزلاً في غطاء الشعر - هو الغالب الأعم في كثير من الدول العربية، وغير العربية ذات الغالبية المسلمة، يطرح البوركيني نفسه في كل صيف كجدلية اجتماعية، ذات محتوى ديني يدغدغ المشاعر، ومكون سياسي يرفضه داعموه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعيداً من فرضية الحجاب دينياً من عدمها، وبعيداً أيضاً من تأريخ ومعرفة أسباب انتشار الحجاب في سبعينيات القرن العشرين، الذي يوافق القرن الـ14 الهجري، أي بعد نحو 1400 عام من نزول الإسلام على النبي محمد، تبقى ملابس النساء وثيقة الصلة بالسياسة، وتحديداً بجماعات الإسلام السياسي، وطرحها لنفسها، واجتهادها على مدى عقود، وعملها في الشارع على مقربة من المواطنين وهمومهم ومشكلاتهم في وقت نأت فيه أنظمة بعيداً منهم.
في مصر على سبيل المثال، وفي مثل هذا الوقت الصيفي من كل عام، يطرح البوركيني نفسه نقطة جدال ثقافي وشد وجذب اجتماعي لا يخلو من تلميحات دينية وتراشقات أخلاقية. شاطئ خاص أو مسبح مغلق على أعضائه يمنع الاستحمام بـالبوركيني، أو قرية سياحية تشترط عدم نزول المسابح بـالبوركيني والسماح به في البحر فقط "حفاظاً على الصحة العامة" و"المشهد الحضاري"، أو ناد رياضي يمنع نزول المسابح بـ"البكيني" حفاظاً على الأخلاق والمشاعر العامة، أو غيرها من تطبيق قواعد تلزم النساء كوداً بعينه، خارج نطاق المتعارف عليه.
يشار إلى أنه بعد تجذير الصور النمطية في مصر لـ"الساحل الطيب" حيث البسطاء الملتزمون الملابس المحتشمة والعفاف والالتزام وعلى رأسها البوركيني، في مقابل "الساحل الشرير" حيث الأغنياء والملابس بلا قيود التي تكشف عن التحرر الأخلاقي ونقص التدين، ظهر هذا العام ساحل جديد هو "الساحل الحلال"، حيث مسابح مخصصة للنساء، وأخرى للرجال، والجميع بكامل ملابسه، إضافة إلى أماكن ممارسة الرياضة بالنقاب والخمار.
سجون الجسد
التعميم الصادر في سوريا قبل أيام أثار الرأي العام، وفجر كثيراً من التحليلات والتوقعات، لا سيما أن العين مسلطة على النظام السوري الجديد انتظاراً إلى "وجه إسلامي" يتوقع بعضهم أن يعبر عن نفسه تدريجاً، أو "وجه مدني" يأمل البعض الآخر في أن ينتهجه. أما في مصر فلم تصدر تعميمات أو تُتخذ قرارات، لكن المجتمع الذي سار بكل قوة تجاه التدين، لا سيما المظهري، فرض البوركيني أو نزول البحر بالملابس الكاملة باعتبارها "المعتاد والمتعارف عليه". وعلى رغم عدم وجود قرارات أو قوانين تمنع النساء والفتيات من ارتداء ملابس سباحة غير البوركيني، فإنه نادراً ما تجرؤ أنثى على ارتداء ملابس سباحة في شاطئ عام.
تصاعد النبرة الدينية، وتحول المجتمعات صوب "المحافظة الدينية"، سواء تحت مسمى "صحوة" أو "تطرف" أو "تشدد" أو "عودة للجذور" أو "بحث عن هوية" أو "هرب من أزمات" أو غيرها، عادة تتخذ من أجساد النساء ساحة للتعبير والإشهار.
يرى أحدهم أن كسب المعركة عبر أجساد النساء يضمن السرعة والتأثير والانتشار واستعراض القوة، لا سيما حين تكون الحجة "وهل تكره الأخلاق؟"، أو "وما الذي يضيرك في الالتزام؟"، أو "أنت تريد أن تمشي أمك وأختك وابنتك عرايا فأنت حر".
في مقال عنوانه "الزي راية للاختلاف... جدل الواقعي والفانتازي في الأزياء ’الإسلامية‘" (2022)، كتب الروائي والصحافي المصري عزت القمحاوي "بعد أن كانت حركات الأسلمة تناضل ضد أعداء محليين في كل دولة، أضيف الأعداء الدوليون. ومرة أخرى تحملت المرأة القسط الأوفر في هذا الصراع المزدوج مع أعداء الداخل والخارج. سجنوا جسدها في كتلة من السواد، الجلباب الأسود أو العباءة مع النقاب الذي يغطي كامل الوجه والقفازات السوداء والجوارب، بينما ظلت هناك تباينات في أزياء الرجال، ومن يتأمل الأمر يجد اختلاف وظيفة الراية بين الجنسين".
واعتبر القمحاوي أن "توحيد زي المرأة من لندن إلى كابول جعلها بمثابة رايات موحدة ذات وظيفة اتصالية واحدة هي التفريق بين المجتمع الإسلامي من جهة، والحضارة الغربية ومجتمعها الكافر من جهة أخرى".
ويعود القمحاوي إلى ما هو أبعد من ذلك في "زي المرأة المسلمة" الذي تتنازع عليه جماعات وتؤيده أنظمة وتداهنه أخرى وتمنعه ثالثة. يقول "من أكثر الصور الفوتوغرافية والمقاطع الفيلمية التي يحلو لدعاة الدولة المدنية المصريين مشاركتها على تطبيقات التواصل الاجتماعي صور لفتيات في ستينيات وبدايات سبعينيات القرن الـ20 راكبات دراجات في طريقهن للمصانع، أو في مباراة كرة سلة في المنيا، أو لابسات فساتين قصيرة في الجامعات"، ويصفها بأنها "صور للتحسر على حداثة انهزمت في الحرب مع التيارات المتطرفة".
ويطرح القمحاوي تفسيراً آخر شائعاً وهو أن الحرب بين الحداثة و"الرجعية" بدأت مع سياسة الانفتاح الاقتصادي والمستمرة حتى اليوم. فيقول "إذا أخذنا بالظاهر، لدينا مفارقة في تزامن الانغلاق الاجتماعي مع الانفتاح الاقتصادي، لكن النظر بعمق يكشف عن الانسجام المنطقي في هذه المفارقة الشكلية. إن سياسة الانفتاح الاقتصادي لم تكن إلا انفتاحاً تجارياً أضر بالصناعة المصرية، وتزامن وتدهور التعليم، وتقويض فكرة العدو بالصلح بإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل". ويرى أن "خسارة العدو ليست بالخسارة الهينة، لأن الذات الوطنية تتماسك وتستمد بعض عناصر تعريفها من وجود العدو، وإن لم يكن هناك عدو فالبديل مشروع وطني يلتف حوله الناس، وهذا مفتقد كذلك، مما دفع المصريين إلى الاقتراض من التاريخ، وهو ما تفعله الشعوب – بحسب ما يرى - في مواجهة انكسار الذات الوطنية"، مضيفاً أنه "على رغم إمكان العودة إلى السلف الفرعوني، فإن الفكرة لم تصمد في وجه تيار الاقتراض من الماضي الإسلامي الذي شجعته السلطة".
البشر كأعلام
ويقول القمحاوي "لم يكن لهذه التيارات (جماعات الإسلام السياسي) التي شجعتها الدولة أن تفرط في فرصة الإعلان عن وجودها من خلال الأزياء، فالبشر سواري أعلام متحركة، راياتها الملابس. وكانت الأولوية لملابس المرأة، في تضافر بين الدعوة الأيديولوجية والتجارة التي وفرت أزياء المرأة المحجبة، وتشجعت جماعة الإخوان، تحت عباءة (الرئيس المؤمن) أنور السادات، لجعل الحجاب تياراً عاماً".
ويشير إلى أنه "ولدت من رحم جماعة الإخوان المسلمين في الوقت نفسه جماعات سلفية أكثر تشدداً، استفادت من العولمة للتشبيك مع الحركات المماثلة في البلاد الإسلامية وبلاد المهجر الغربي، بدعم محلي وإقليمي ودولي بهدف توظيفها في الصراع مع الشيوعية، واتخذت موقفاً متشدداً في الملابس".
اليوم، خرجت إلى الحياة أجيال ولدت في كنف ثقافة جماعات الإسلام السياسي، إن لم يكن كجماعات حاكمة، فكجماعات تنافس من أجل "تطبيق شرع الله" عبر الوصول إلى الحكم. منها ما وصل، ومنها ما وصل وتم التخلص منه، ومنها ما لم يتم التخلص منه إلا في القصر الجمهوري بينما يظل أثره الثقافي والاجتماعي والديني متجذراً في الشارع، ومنها ما وصل مرتدياً ملابس غربية ولكن البوركيني أو ما ينوب عنه نصب عينيه، وهلم جرا. بعض من هذه الأجيال يعتقد أن جماعات الإسلام السياسي وأكواد الملابس، لا سيما للنساء، هي الطبيعي والمتوقع والمقبول.
اللافت أنه بينما تعاني نسبة من النساء والفتيات في مجتمعات عربية وإسلامية فرض كود ملابس خاص عليهن، سواء عبر تعميمات أو بضغوط مجتمعية تحصل على مباركة رسمية، ولو بالسكوت أو بتأكيد الحريات الشخصية تارة وإصدار فتاوى تحريم وتنديد في اليوم تارة أخرى إرضاء لجميع الأطراف، ما زالت هناك دول وثقافات غير قادرة أو غير راغبة في فهم فكرة "تسييس أجساد النساء"، سواء عبر إضافة مزيد من طبقات الملابس أو نزعها.
سواء بحسن نية أو محدودية معرفة تتعامل أوساط حقوقية وأكاديمية وبحثية غربية عدة مع "الأزياء الإسلامية" من حجاب وخمار و"بوركيني" باعتبارها قبولاً للاختلاف واحتراماً للحريات وتقديراً للتعددية الثقافية، وهذا عظيم، لكن بعض هؤلاء يغفل أن "الأزياء" كما هي حرية شخصية ومرآة ثقافية ومنصة تعددية، يمكنها أيضاً أن تتحول أداة سلطوية ووسيلة قمعية وخطوطاً إجبارية، إن لم يكن بالإجبار والقانون فعبر فزاعة الضغط المجتمعي الذي ربما ترك نهباً لجماعات سياسية ذات أيديولوجيات دينية لعقود، حتى أصبح الانغلاق أو التضييق أو كلاهما "الوضع الطبيعي الجديد".
من جهة أخرى يجري التعامل عادة مع "الزي الإسلامي" في كثير من المجتمعات العربية باعتبارها عادات وتقاليد وفروضاً لا يصح أو يسمح بالخروج عليها، ولا مجال لإدراجها ضمن الاختيارات أو الحق في رفضها أو قبولها، لكنها تتحول حقاً من الحقوق وحرية شخصية واختياراً يجب أن يحترم في الدول غير العربية.