Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة قانونية في حرب "البوركيني" و"البيكيني" المصرية

تعكس الجدالات "قدرة الملبس على أن يكون عنصر تصنيف اجتماعي بل والوصول به إلى أن يكون مسوغاً للوصم"

المواجهة مستعرة بين وراء "البوركيني" و"البيكيني" في مصر  (أ ف ب)

المواجهة لا تزال مستعرة. وأيديولوجيا ما وراء "البوركيني" و"البيكيني" وما بينهما ما زالت مختبئة خلف القماش والتنابز بكمّيته، فالكثرة تعكس الصلاح والقلة لا تعني إلا الطلاح. وبين الصالح والطالح، في كل صيف عراك وجدال وتشبّث بتلابيب الحريات وإضافة مبتكرة في هذا الصيف، متمثلة في دعوى قضائية يتم النظر فيها يوم 17 يوليو (تموز) الحالي وذلك في "دائرة الحقوق والحريات".

"دائرة الحقوق والحريات" تدور رحاها على مدار عقود طويلة هي عمر "الصحوة الدينية" وفي أقوال أخرى "الردّة المدنية" التي خضعت لها مصر منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. أما دائرة المحكمة، تحديداً محكمة القضاء الإداري، فهي تستعد للنظر في أولى جلسات الدعوى القضائية المقامة من المحامي محمد حامد سالم الذي يطالب بوقف تنفيذ وإلغاء كل القرارات والتعليمات واللوائح والتنبيهات المكتوبة والشفهية الصادرة من أندية وفنادق ومنشآت عامة وخاصة تقضي بحظر دخول المحجبات ونزولهن المسابح بالحجاب. كما يطالب بإلزام الحكومة المصرية تقديم مشروع قانون إلى مجلس النواب يضمن القضاء على كل أشكال التمييز الواردة في المادة 53 من الدستور المصري، إضافة إلى إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض وهي المفوضية الوارد ذكرها في المادة التي لم ترَ النور بعد، بحسب ما جاء في دعواه.

الدستور والمايوه

المادة 53 من الدستور المصري تنص على "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض".

لكن الغرض من الدعوى – وهي ليست الأولى وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة - متعدد المناحي. تقول سهير راجي (48 سنة) التي تعارض بشدة نزول المسابح والبحر بملابس المحجبات أو "البوركيني"، "البوركيني أصبح رمزاً للتشدد الديني ومحاولات فرض التشدد في كل المجتمع التي نجحت إلى حد كبير. وأي بوركيني مهما كان ثمنه مرتفعاً يتحوّل إلى شيء أشبه بالجلباب بعد أن يبتل، إضافة إلى أنه يكشف عن تفاصيل الجسم كلها، أي أن التحجج بالاحتشام وتغطية الجسم وغيرها غير منطقي بالمرة. وكل الحكاية أنهم (المحجبات ومن يدافع عنهن) يستشعرون خطر استعادة مصر لهويتها التي سلبها الإسلام السياسي، فينظمون أنفسهم لقطع الطريق أمام عودة مصر البهية".

تعريف بهاء مصر

لكن لمصر البهية الكثير من الأوجه. "بهاء مصر يتمثل في المحجبات وغير المحجبات وقبول المجتمع للجميع من دون النظر إلى المظهر أو ما يمثله من قناعات وأفكار طالما لا تضر أحداً أو لا تُفرض على أحد بالقوة"، كما تقول بسنت مظلوم (21 سنة) (طالبة). مظلوم ليست محجبة لكنها تدافع بكل قوة عن حق المحجبات في استخدام المسابح ونزول البحر ودخول كل الأماكن شأنهن شأن غيرهن طالما يلتزمن القوانين والقواعد المعمول بها.

القواعد المعمول بها في إحدى القرى السياحية في مدينة رأس سدر (جنوب سيناء) تنص على عدم السماح للسيدات أو الرجال بنزول المسابح أو البحر إلا بـ"المايوه (ملابس البحر) العادي". ولأن عبارة "المايوه العادي" مبهمة، لجأت إدارة القرية إلى رسم ملابس البحر المسموح بها وتلك غير المسموح بها وعلى رأس الأخيرة "البوركيني". لذلك، حين هرع أحد أفراد الأمن إلى سيدة نزلت البحر بـ"بوركيني" قبل أسابيع ليخبرها بأن ملابسها غير مسموح بها في المكان، انقسم مَن شهد الواقعة إلى فريقين: الأول مؤيد لمنعها لأنهم اشتروا وحداتهم السكنية بناء على هذا المنع، والثاني معارض للمنع لأن من حقها أن تتمتع بالسباحة طالما القماش الذي صُنعت منه ملابس البحر التي ترتديها مطابق للمواصفات ولا يعرّض أحداً لأخطار صحية. لكن الوضع تطور إلى معركة كلامية حامية الوطيس، انتهت بتعرية ما وراء معركة البوركيني. قالت السيدة ذات "البوركيني" بعلوّ صوتها وهي ترمق جمهرة من النساء المسترخيات على مقاعد البحر بملابس بحر "عادية"، "طبعاً لن يرضى أبناء الأكابر عني إلا إذا عرّيت لحمي واستبحت عوراتي ولم أحترم حرمة جسدي". وكما هو متوقع تماماً، ردت إحدى السيدات بعلوّ صوتها أيضاً "طبعاً لن تستريحي إلا لو حوّلت القرية المحترمة ومجتمعها الراقي إلى شاطئ شعبي يقصده مرتدو الجلابيب في البحر ومعهم حلل (طناجر) المحشي".

معركة متكررة

المعركة المتكررة عشرات المرات بسيناريوهات مختلفة - أحدثها عبر مقطع فيديو لشابة باكية لأنها منعت من نزول مسبح كومباوند سكني بسبب "البوركيني" على الرغم من أنه بـ"700 دولار" على حد قولها، وبالرغم من أنها تمتلك "بيكيني" بعشرة دولارات على حد قولها – ليست معركة بين "مايوه" بأكمام وأرجل وآخر من دونها، لكنها بين منظومتين فكريتين متضادتين فيهما سياسة واقتصاد ودين وأسلوب حياة مع قليل من اللهو في الماء وكثير من مفهوم الحرية الشخصية شديد الالتباس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"بوركيني يا فلاحة؟! بيكيني يا فاجرة؟!"، عنوان مقال منشور عام 2018 للكاتب الصحافي ياسر عبد العزيز قال إنه مأخوذ من "كوميكس" على منصات التواصل الاجتماعي لهذا الصراع الكامن والمحتقن. يقول عبد العزيز إن المعركة تعكس "قدرة الملبس على أن يكون عنصر تصنيف اجتماعي، بل والوصول به إلى أن يكون مسوّغاً للوصم، والرغبة المهيمنة في المجتمع للفرز والتصنيف وصولاً إلى التمييز، وغياب التسامح، وشيوع الاستعلاء المادي أو الاجتماعي أو الديني، وأخيراً وليس آخراً تنافر القيم العمومية بل وتصادمها". ويضيف "مجتمعنا يعاني في العمق من أمراض ظاهرة تشي بتضعضع القدرة على إرساء الأولويات، والانصراف عن الجوهري إلى الشكلي، والميل المزعج إلى الصدام وتحقير الآخر، كما يعاني من أمراض باطنة، وللأسف مزمنة، وفي مقدمتها الاستلاب الثقافي".

استلاب ثقافي للجميع

الاستلاب الثقافي الذي تحاول جهات شتى الإمساك بمقاليده والاحتفاظ به وحدها ومنع الآخرين من الوصول إليه، لن تتطرق إليه وقائع الدعوى المرفوعة من قبل المحامي المطالب بمنع الحظر الذي يقول إنه مفروض على نزول المحجبات إلى المسابح والبحر. على الأرجح ستكتفي المحكمة بالنظر في حق من ترتدي "بوركيني" يصفونه بـ"المايوه الشرعي" في نزول البحر والمسبح، وحق الأماكن الخاصة في منعها من منطلق اختصاصها وهي "دائرة الحقوق والحريات".

حديث الحريات تطرقت إليه الكاتبة الصحافية سحر الجعارة في مناسبة معركة شبيهة عام 2017، فقالت إن "المسافة بين البيكيني والبوركيني تعكس حالة التخبط بين الإرهاب الفكري والحريات، بين اعتقال الأنثى في زي يُقال إنه شرعي ورغبتها وحقها في الحياة والتمتع بكل ما فيها وأولها السباحة. إنها المسافة التي يسقط فيها معنى الحرية، ويصبح من حق من ترتدي النقاب أو البوركيني تكفير المرأة السافرة ومصادرة الحق في الاختيار بمنطق حماة الفضيلة وحراس الدين والأوصياء على الأخلاق والمجتمع!".

وتردف أنه في كل صيف، تشتعل "حرب المايوهات"، لأن السياحة ضُربت في مقتل، وبدأت عملية "زحف مقدّس" لاحتلال الشواطئ الراقية من أُسر اعتادت أن تذهب إلى بلطيم ورأس البر، فإذا بها تنطلق إلى الغردقة وشرم الشيخ والساحل الشمالي! الفنادق والمنشآت الفندقية رفعت شعار "المايوه الشرعي ممنوع... والزعل مرفوع"، والمحجبات اعتبرنها معركة دينية، لا بد من أن تثبت فيها المحجبة أن الحجاب رمز العفة ومفتاح الجنة وأن السفور دعوة إلى العهر أو التعري، تماماً كما تتحوّل كل معركة ترتبط بالزي إلى سجال ديني وتظاهرة لإثبات هيمنة تيار الإسلام السياسي على المجتمع.

هيمنة الإسلام السياسي

هيمنة تيار الإسلام السياسي على المجتمع واضحة لكل ذي عينين، وهو وضوح لن تتطرق إليه أيضاً المحكمة في 17 الشهر الحالي. كما لن تتطرق المحكمة إلى ظاهرة "شرطة الأخلاق المجتمعية"، إذ دأب مواطنون ومواطنات عاديون من المجتمع المصري وبشكل متزايد على إصدار أحكام على بقية المارة (غالباً من النساء) بناء على الملابس. وهذه الأحكام تتبلور في صور عدة، تتراوح بين التحرش على سبيل التأديب، ونظرات الاحتقار من باب إعلان الفوقية الأخلاقية، وكلمات الدعوة إلى الهداية إذ ربما تكون هناك حسنات "أوفر تايم" لهداية المارقات ودعوتهن إلى الحجاب أو الخمار أو النقاب.

التنقيب عما وراء المواجهة الصيفية حامية الوطيس بين "البوركيني" ومعارضيه يسفر عن عوامل عدة أقلها أهمية هو "البوركيني" نفسه. يقول عبد العزيز في مقاله إن "مصر في مأزق خطير، إذ يبدو بعضنا مستلباً لثقافة غالبة أولعنا بها في ظل ظرف سياسي واجتماعي محدد هيمن حتى منتصف السبعينيات الفائتة، فيما بعضنا الآخر مستلب لثقافة غازية غلبت منذ هذا الزمن وحتى الآن. وبدلاً من أن نؤسس لتجانس وتعايش ثقافي، ونتمسك باحترام الآخر وتفهّم دوافعه، راح كل فصيل مستلب يزهو باستلابه ويصمّ الآخر".

آخر ما كانت تتوقعه سما طارق (18 سنة) (طالبة) أن تتعرّض للتنمر والعبارات العدائية على "فيسبوك" و"تويتر"، لمجرد أنها طالبت بأن تكون هناك ساعات محددة في النوادي والمنتجعات للمحجبات. وعلى الرغم من أنها لا تعارض "البوركيني"، لا سيما أن شقيقتيها ترتديانه لأنهما محجبتان، إلا أنها فوجئت بنساء ورجال لا تعرفهم يتهمونها بأنها طالما تدعو إلى تحجيم "البوركيني"، إذاً هي بكل تأكيد تحب "البيكيني" (الذي يتكون من قطعتين) والتعري وضرب عرض الحائط بالدين والعادات والتقاليد والاحتشام.

حرب مفتعلة

إسلام مصطفى، صاحب كتاب "الحجاب بين الحقيقة والسراب" الذي ضرب عرض الحائط بالترهيب المؤسسي والمجتمعي لكل من تسوّل له نفسه مناقشة الحجاب، يرى أن ما يجري حالياً من احتقانات واحتكاكات ليس معركة بين دولة مدنية وأخرى دينية، بل وقائع مفتعلة ومدبرة منذ زمن وأن غالبيتها لا تحدث إلا على أثير منصات التواصل الاجتماعي. يقول "الأماكن التي تشهد هذه الاحتقانات ليست في متناول الغالبية المطلقة من المجتمع. القاعدة العريضة من المصريين لا تدخلها من الأصل وتكتفي بارتياد الأماكن البسيطة الشعبية، حيث لا وجود أصلاً لمن ترتدي المايوه بشكله التقليدي".

ويمضي مصطفى قدماً في شرح وجهة نظره التي تدور حول افتعال المشكلة لتحقيق أغراض شخصية، فيقول إن ما يجري كل عام، لا سيما العام الحالي (مشيراً إلى فيديو "البوركيني" ذي الـ700 دولار و"البيكيني" ذي العشرة دولارات) الغرض منه هو "جذب الانتباه وادعاء المظلومية وجنون اللايك والشير، وربما الترويج الاقتصادي للبوركيني". ونتيجة لكل ما سبق واستنفار المتحججين بالتديّن الظاهر، تحرّك محامٍ ورفع قضية بغرض ابتزاز الدولة.

السياحة والإفتاء

الدولة ممثلة بوزارة السياحة كانت أرسلت إلى غرفة المنشآت الفندقية في أغسطس (آب) الماضي خطاباً يشير إلى عدم وجود أية موانع من نزول السيدات اللاتي يرتدين "المايوه" الطويل (الشرعي) مسابح الفنادق والقرى السياحية طالما أنه مصنوع من خامات لا تؤثر سلباً في الصحة العامة، ولا تتسبب في تغيير خصائص مياه تلك المسابح.

لكن الدولة أيضاً ممثلة بدار الإفتاء لا يعنيها من قريب أو بعيد الخامات المصنوع منها "البوركيني"، بل يعنيها ما حدده أمين عام الفتوى ومدير إدارة الفتاوى الإلكترونية محمود شلبي الذي قال قبل أيام إن ضوابط "المايوه الشرعي" تتجسّد في مطالبة الشرع المرأة بزيّ وهيئة معينين يتمثلان في ستر عورتها أمام الرجل من غير محارمها، موضحاً أن "المايوه" لا بد من أن يستر عورتها ولا يشف أو يكشف أو يصف معالم جسدها. وإن أخلّ بذلك، "لا يجوز ارتداؤه أمام الرجال الأجانب الذين يجوز لها أن تتزوج منهم".

وفي انتظار قرار المحكمة، يمضي المصريون والمصريات قدماً في تحديد مواقفهم في ما يختص بـ"البوركيني" دعماً أو هدماً، دفاعاً أو هجوماً، نعتاً بالغوغائية أو تبجيلاً للحفاظ على الأخلاق والفضيلة. الطريف أن الغالبية الساحقة من المصريات يرتدين الحجاب وهو ما دفع أحدهم إلى التساؤل، ساخراً "الغريب أن المطحنة (المعركة) توحي بأن المظلومية واقعة على المحجبات، على الرغم من أن غير المحجبات هنّ الأقلية التي تصنفها الغالبية من المحجبات وغالبية الرجال باعتبارهن وصمة. حبذا لو نعيد ترتيب قواعد الحرب وعلى البيكيني سرعة الطعن".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات