ملخص
معطيات الحاضر السياسي تواجه فيه القاهرة تحديات حقيقية تجمع قضايا المصالح المائية لمصر بأجندات أخرى، وأهداف ظلت مخفية كقضية الشرق الأوسط وتهجير الفلسطينيين، بينما ستعمل كمبالا على خلق توازن في علاقاتها مع الآخرين بدافع ذاتي يقدم المصالح، أو نتيجة ضغوط خارجية لا تستطيع مقاومتها.
توصف زيارة الرئيس الأوغندي يوري موسفيني إلى القاهرة خلال أغسطس (آب) الجاري بأنها ذات وضعية خاصة وفق اهتمامات متباينة لكل من مصر وأوغندا وأطراف أخرى، وبخاصة في ظل وجود خلاف حول مياه النيل بين دول حوض النيل.
جاءت زيارة الرئيس الأوغندي يوري موسفيني إلى القاهرة خلال الـ12 من أغسطس الجاري استجابة لدعوة رسمية من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بهدف تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين مصر وأوغندا والمشاركة في فعالية منتدى رجال الأعمال المصري - الأوغندي.
وكانت آخر زيارة للرئيس الأوغندي إلى مصر خلال الثامن من مايو (أيار) 2018، بدعوة رسمية أيضاً من القيادة المصرية، شملت محادثاتها مجالات الزراعة والكهرباء والصناعة.
وعلى رغم ما تم في الزيارة الحالية من توقيع عدد من مذكرات التفاهم بين البلدين، تقود دعوة الزيارة دوافع أخرى تجاه مستجدات الإعلان الإثيوبي عن الافتتاح الرسمي لمشروع سد النهضة نهاية العام الحالي، وتوابعه في مسألة مياه النيل، والاختلاف المتشعب بين إثيوبيا ودولتي المصب ضمن حيثيات تصديق الغالبية النيلية على الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل (FCA).
وكان الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل (FCA) الذي وقع في عنتيبي بأوغندا عام 2010 نال مصادقة غالبية دول الحوض وهي كل من (إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا وروندا)، وصادق عليه أخيراً دولة جنوب السودان خلال يوليو (تموز) 2024 ليدخل بذلك حيز التنفيذ بعد إيداعه الاتحاد الأفريقي وقضائه المدة القانونية (60 يوماً)، ومن ثم أخذه الاعتبارية الفعلية كبديل لاتفاقات مياه النيل السابقة حسب المخطط الذي تقوده إثيوبيا، لتقويض حصص كل من مصر (55.5 مليار متر مكعب) والسودان (18.5 مليار متر مكعب).
قضية مياه النيل والمستجدات الحالية في تكاملية المخطط ما بين الإطارية وسد النهضة توليها مصر أهمية بوصفها (مسألة حياة أو موت)، بحسب تعبير الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكان السيسي لمح أيضاً إلى "أن القاهرة تتعامل مع ملف سد النهضة باعتباره جزءاً من حملة ضغط عليها لتحقيق أهداف أخرى".
وحدة استراتيجية
تتميز أوغندا، باعتبارها دولة حوضية، بأهمية موقعها الجيواستراتيجي في أعالي حوض النيل الأبيض، إذ ينبع النيل من بحيرة فيكتوريا، بما يجعلها مصدراً دائماً للمياه المتدفقة نحو السودان ومصر، ويلاحظ أن هذه الميزة تكتسب قيمة إضافية مقارنة بمياه النيل الأزرق المتحدرة من بحيرة تانا في إثيوبيا ذات الطبيعة الموسمية.
هذا الموقع المائي يمنح أوغندا وزناً سياسياً في المفاوضات الإقليمية، وبخاصة أنها تتبنى مواقف داعمة للتعاون بين دول الحوض، على رغم مصادقتها على الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل.
ويأتي الاهتمام المصري بتعزيز العلاقات مع أوغندا في ضوء الثقل المائي والجيواستراتيجي، إلى جانب موقف كمبالا الذي يميل إلى الحياد النسبي، حيث تسعى للتوفيق بين أطراف دول الحوض، وتعمل على تشجع الحوار الإقليمي حول قضايا المياه المشتركة، وينظر إلى لعبها دوراً متوقعاً ضمن آليات مبادرة حوض النيل خلال المرحلة المقبلة، بما في ذلك المساهمة ضمن معالجة الخلافات الجوهرية المتعلقة بقضية سد النهضة.
وفي هذا السياق، أكد الرئيس الأوغندي يوري موسفيني ضمن تدوينة له على منصة "إكس" أثناء زيارته مصر، أن "أفريقيا تحتاج إلى وحدة استراتيجية لا مجرد بيانات دبلوماسية"، مضيفاً "يجب أن نواجه التحديات الأمنية والاقتصادية جبهة واحدة، لا كدول متفرقة".
تنافس
على مستوى إثيوبي مقابل، واكبت زيارة الرئيس الأوغندي القاهرة زيارة مماثلة لوزير الدولة للشؤون الخارجية المسؤول عن التعاون الإقليمي الأوغندي موليميا جون، الذي التقى وزير الدولة للشؤون الخارجية الإثيوبي حدرا أبرا بأديس أبابا خلال الـ14 من أغسطس الجاري، وكشفت وزارة الخارجية الإثيوبية عن أن محادثات الجانبين ركزت على تعميق العلاقات الثنائية الراسخة وتعزيز التعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك، مع التركيز خصوصاً على التعاون الاقتصادي والسلام والأمن الإقليميين، وأكد الوزير الإثيوبي "أهمية عقد اجتماعات دورية للجنة الوزارية المشتركة كآلية لتعزيز الشراكة والتكتلات الإقليمية"، وأعرب المسؤول الأوغندي عن "التزام بلاده بتعزيز الاتفاقات الموقعة سابقاً للنهوض بالعلاقات الثنائية بين البلدين".
وكانت مشروعات مشتركة أقامتها مصر مع أوغندا كنموذج للتعاون بين دول حوض النيل وهي إزالة الحشائش المائية (ورد النيل) التي تعوق تدفق النيل من بحيرتي ’كيوغا وفيكتوريا‘، وإنشاء عشرات الآبار الجوفية ومحطات تنقية مياه الشرب في بعض القرى الأوغندية، إلى جانب إنشاء مركز التنبؤ بالفيضانات في كمبالا، إضافة إلى مشروعات بناء سدود لحصاد مياه الأمطار في المناطق الريفية، ومشروعات للطاقة الشمسية اتفق عليها خلال زيارة الرئيس موسفيني إلى القاهرة (مايو 2018) بإنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة أربعة ميغاوات في أوغندا مع مشروعات زراعية وتنموية أخرى.
وضمن التداول الرسمي بين القيادة المصرية والأوغندية دعا الرئيس الأوغندي إلى نموذج تجاري ثنائي يقوم على تبادل السلع والخدمات، واستثمار رأس المال المصري في قطاعات أوغندية واعدة مثل الزراعة والصناعات التحويلية. ووصفت القيادة المصرية أوغندا بأنها "شريك أساس" في منطقة حوض النيل، داعية إلى تأسيس مجلس أعمال مشترك وتعزيز دور القطاع الخاص في دفع عجلة التنمية، ضمن إطار تعاون جنوب - الجنوب وعكس التحولات في نماذج التنمية الأفريقية.
وأشار موسفيني ضمن تدوينة متابعة له إلى أن "الاقتصاد هو ساحة المعركة الجديدة"، مؤكداً أن "التحرر السياسي لا يكتمل إلا بالتحرر الاقتصادي، بالتصنيع والتبادل التجاري العادل بين دول الجنوب".
القاهرة في علاقتها مع كمبالا تعيد الدور المصري الذي ظل غائباً عن القارة السمراء لأعوام عديدة ضمن ظروف متغيرات سياسية عاشتها خلال بدايات القرن الحالي، ويأتي التسابق بين القاهرة وأديس أبابا على المرحلة المقبلة في ما تمثله من أهمية تجاه قضية المياه التي يتوقع لها أن تأخذ شكلاً جاداً في النيات والعزم، والفعل بعد الافتتاح الرسمي لسد النهضة بنهاية هذا العام.
أجندات مخفية
يقول خبير الشؤون الأفريقية والمدير السابق لجامعة أفريقيا العالمية حسن مكي محمد أحمد "ضمن معالجاتها للحفاظ على حقوقها المائية المهددة، تعمل مصر باجتهاد على تفعيل علاقات أكثر نشاطاً مع دول القارة الأفريقية، وبحرص في تسابق لما فات من كسب تجاه قضايا استراتيجية ممثلة في قضية سد النهضة والضغوط الإقليمية التي تتعرض لها تجاه تهديد حصتها المائية التاريخية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشير أحمد إلى أن "مسار العلاقات مع كمبالا يأتي كنموذج في خلق علاقات متبادلة ذات طبيعة ثابتة تتطور بمرور الوقت بما يرتد على البلدين بفوائد عديدة سواء على النطاق الاقتصادي أو السياسي، فأوغندا دولة بكر في الثروات تحتاج إلى رأسمال ونشاط استثماري مما يمثل فرصاً حقيقية لرجال الأعمال المصريين في مختلف المجالات، وينعكس إيجاباً على مصالح قومية وعلاقات راسخة ذات فوائد متبادلة معها، أو بطرق غير مباشرة مع غيرها من بلدان أفريقية مجاورة.
ويضيف خبير الشؤون الأفريقية "شهدت الفترة الأخيرة تحركاً مصرياً في توقيع اتفاقات سياسية وأمنية، شملت دولاً مثل الصومال وجيبوتي وإريتريا، إلى جانب نشاط دبلوماسي وسياسي واقتصادي مع تنزانيا وكينيا وزامبيا والكونغو الديمقراطية في توسع واضح تجاه العلاقات الأفريقية - المصرية".
ويوضح أحمد أن "معطيات الحاضر السياسي تواجه فيه القاهرة تحديات حقيقية تجمع قضايا المصالح المائية وقضية النيل الذي يمثل لمصر ’ماء حياة‘ بأجندات أخرى، وأهداف ظلت مخفية كقضية الشرق الأوسط والبديل الذي تعمل له إسرائيل الآن، ومن ورائها الولايات المتحدة لأهل غزة في ضغوط ومزايدات مع مصر، بما فيها المساومة على الحق المائي الذي أصبحت تهدده إثيوبيا من أقاصي الجنوب".
ويتابع خبير الشؤون الأفريقية "أوغندا تمثل لها العلاقة مع مصر مكسباً هي الأخرى في عدد من المشاريع التنموية، وتعكس المذكرات الموقعة بين الجانبين رغبة جامعة في تحويل العلاقات الثنائية بين الطرفين إلى شراكة استراتيجية طويلة الأمد، إلا أنها وفق مسارها التوافقي ستعمل كمبالا ضمن نطاقها الإقليمي على خلق توازن في علاقاتها مع الآخرين، سواء بدافع ذاتي يقدم المصالح، أو نتيجة ضغوط خارجية لا تستطيع مقاومتها، كل ذلك سيكون له انعكاسات لا مفر منها ويصب في واقع جديد هو واقع ما بعد سد النهضة".
تعظيم دورها الإقليمي
الباحث الإثيوبي عزيز عبدالحي يقول "خلال الآونة الأخيرة، شهدت الساحة الإقليمية تصعيداً ملحوظاً في حدة الخطاب الإعلامي والدبلوماسي المصري، وذلك في أعقاب الاقتراب الشديد من اكتمال بناء سد النهضة الإثيوبي، والاستعدادات الجارية داخل أديس أبابا للإعلان عن تشغيله بصورة رسمية خلال الأشهر المقبلة، ولا شك أن هذا التطور سيفرض، بحكم الأمر الواقع، معادلة جديدة تماماً تمس صميم مستقبل توزيع مياه النيل في المنطقة، وذلك على رغم كل الجهود الدبلوماسية والقانونية المكثفة التي بذلتها مصر على مدى الأعوام الماضية لتحجيم هذا المشروع، أو وضع ضوابط صارمة له، والتي لم تفلح في النهاية في تغيير المسار الذي فرضته إثيوبيا".
ويشير عبدالحي إلى أنه "في خضم هذا المشهد المتأزم، وخلال لحظة يشهد فيها مسار المفاوضات بين مصر وإثيوبيا جموداً كاملاً، تأتي زيارة الرئيس الأوغندي يوري موسفيني إلى القاهرة في توقيت بالغ الدلالة، فمصر تسعى جاهدة إلى تحريك المياه الراكدة، وتبحث عن منفذ دبلوماسي جديد. ومن ناحية أخرى، تبحث أوغندا بحكمتها المعهودة عن تعظيم دورها الإقليمي كوسيط مقبول ومفتاح للحل، مستفيدة من علاقاتها المتينة والمتوازنة مع كل من القاهرة وأديس أبابا على حد سواء، وفي هذا الإطار، فإن موقف أوغندا من اتفاق عنتيبي الإطاري لا لبس فيه ولا يتزعزع، وهو موقف ثابت وقوي".
ويقول الباحث الإثيوبي "لقد أوضح الرئيس موسفيني هذا الموقف بأبلغ عبارة خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس عبدالفتاح السيسي في القاهرة الأسبوع الماضي، حينما نبه إلى أن ما تسميه مصر ’حقوقاً تاريخية‘ يستند إلى اتفاقات وقعت في حقبة الاستعمار، والتي لم تراع، بحسب الرؤية الأوغندية والأفريقية المشتركة، حقوق ومصالح دول المنبع في الحوض، وكان هذا التصريح واضحاً وصريحاً، ولا يدع مجالاً لأي شك حول الموقف المبدئي لأوغندا من هذه القضية الجوهرية".
ويتابع المتحدث "غير أن هذا الموقف المبدئي الثابت لا يتناقض مع البراغماتية السياسية التي تتحلى بها دبلوماسية أوغندا، فالحكومة في كمبالا تدرك تماماً أن مصلحتها الوطنية تقتضي تطوير وتعزيز علاقاتها التنموية والاقتصادية مع مصر، وهي علاقات تعود بالنفع المشترك على البلدين. لذلك، فإن أوغندا تسير بخطى ثابتة على مسارين متوازيين، المسار الأول هو التمسك بموقفها القانوني والدبلوماسي الداعم لحقوق دول المنبع كما يجسدها اتفاق عنتيبي، والمسار الثاني هو بناء شراكة استراتيجية متينة مع مصر قائمة على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة، بعيداً من لغة التصادم والاستقطاب".
ويختم عبدالحي قوله "تعقيدات أزمة سد النهضة تتطلب من جميع الأطراف تجاوز الخطابات التقليدية والتركيز على صياغة حلول عملية وإبداعية، وإن كان لأوغندا أن تلعب دوراً وسيطاً بناءً، فيجب أن يكون ذلك في إطار الاعتراف بالحقائق الجديدة التي فرضها سد النهضة على الأرض، والسعي نحو اتفاق عادل وشامل، يضمن عدم الإضرار بأي من الأطراف، وتحول أزمة المياه إلى فرصة للتعاون والازدهار الإقليمي".