ملخص
تاريخ روسيا حافل بتقطيع أوصال دول الخصوم من طريق استمالة طرف أوروبي. واليوم تستميل موسكو دونالد ترمب
كتبت المؤرخة الفرنسية الاختصاصية في تاريخ روسيا السوفياتية وحقبة ما بعد السوفياتية، فرانسواز توم، مقالاً في صحيفة لوموند الفرنسية، في 14 أغسطس، عشية القمة الأميركية- الروسية بألاسكا تناولت فيه موقف أوروبا من فلاديمير بوتين، الزعيم الروسي، وحربه على أوكرانيا، ومن سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب. وهي ترى أن من العبث محاولة فهم نزعات إدارة ترمب المرتجلة والمبهمة.
سباق الحرب والاقتصاد
فدليل المراقبين والمحللين وسط ضباب الحرب، وضباب الدبلوماسية المخيمين على مسرح العلاقات الدولية، هو الأهداف الروسية التي يسعى بوتين في بلوغها، ونجح إلى اليوم في إقناع ترمب بها، واستماله إلى تبنيها. فالأمور، في هذه الدائرة من الحوادث، جلية. وأحد أكثر الأمور جلاء هو أن الاقتصاد الروسي في طور الانهيار الأخير، ووتيرة انهياره وغرقه تتسارع. أما إدارة ترمب فتتولى إنقاذ النظام الروسي المتهاوي.
ولا تنكر المؤرخة أن القوات الروسية تحرز بعض التقدم في الميدان الأوكراني. ولكنها تدعو إلى قياس التقدم هذا على سرعة الانهيار الاقتصادي. فتكتب أن الأمرين، التقدم العسكري والانهيار الاقتصادي في سباق مع الوقت وعليه. ولا تشك في أن الانهيار الاقتصادي أسرع من التقدم العسكري، وترجح أن يشل روسيا قبل أن تحتل قوات فلاديمير بوتين أوكرانيا، وتنتصر على شعبها وحكومتها.
الاستيلاء بالواسطة
وتذكر النخب الروسية أن عمليات التوسع التي حفل بها تاريخ روسيا لم تكن لتحصل وتنجح لولا تواطؤ دول أجنبية ومساعدتها. فضمت روسيا القيصرية أجزاء من بولندا، في 1772، في سياق شراكة مع روسيا والنمسا. واستولت على جزء من القوقاز في 1920- 1921، بالتفاهم مع تركيا التي غزت آسيا الوسطى. واتكأت على ألمانيا في سبيل استعادة دول البلطيق وضم غاليسيا (معاهدة ريبنثروب- مولوتوف في 1939). فلماذا لا تلجأ اليوم إلى دونالد ترمب وتتخذه وسيلة إلى إخضاع أوكرانيا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتلاحظ الكاتبة أن رجال الكرملين لا يلجأون إلى الأداة العسكرية إلا نزولاً على الضرورة. وإذا لم يضطروا إليها، آثروا المناورة، وزرع الاضطرابات. و"هم مُجَلّون في هذا المضمار"، على ما تكتب. ويشجعهم جهل الغربيين بمناهج التوسع الروسي وأساليبه على انتهاج المناورة، على رغم رتابة هذه المناهج، وتكرارها الحيل نفسها منذ القِدَم. فالسياسة الروسية تنتخب، أولاً، شريكاً أجنبياً في كل مرة تسطو فيها على أرض دولة جارة. وتعمد، ثانياً، إلى تقطيع ضحيتها الإقليمية قطعة بعد قطعة. فقبل هجومها الشامل على أوكرانيا، هاجمت جزيرة القرم، وضمتها. وخطت الخطوة التالية في الدونباس، فأشغلت، في شرق أوكرانيا، بجوار حدودها، نزاعاً عسكرياً أهلياً. واقتطعت القطعة الثالثة من الأراضي الأوكرانية، على ما تحصي فرانسواز توم.
ويؤيد هذه الملاحظة ما طلبه الروسي من ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي الخاص، في السادس من أغسطس (آب) أثناء زيارته موسكو. فهم اشترطوا على الولايات المتحدة، تمهيداً للمفاوضة على وقف إطلاق نار مفترض، أن تُلزم الأوكرانيين بالجلاء عن أجزاء من منطقة دونيتسك لم يحتلوها بعد، وبالتراجع وراء حدود محصنة تحصيناً جيداً، لقاء قطعة أرض رمزية في منطقة سومي.
فإذا انساق دونالد ترمب وراء هذه المناورة، تنبه الكاتبة، فازت روسيا بكل ما تشتهي، واستولت على المداخل الاستراتيجية إلى وسط أوكرانيا وجنوبها، وأضعفت معنويات الأوكرانيين في معرض إخراج مسرحي للدور الأميركي المنحاز إلى شروط الكرملين. ويسخف هذا سياسة الحزب الأوكراني القريب من الغرب، ويمهد لتنصيب أوليغارشي موالٍ لموسكو رئيساً على أوكرانيا، في ختام حملة رئاسية تدعو إلى "السلام" على الطريقة التي تنتهجها بيدزينا إيفانيشفيلي في جورجيا.
وتعول موسكو، في سبيل الحصول على انحياز أميركي إلى سياستها، على جهل الرئيس ترمب، وادعائه وعُظامه، ولا تحسب الكاتبة المعلقة أن التعويل يقتصر على عيوب نفسية. فالفخ، على قولها، يبيت قطعة جبنة شهية، فروسيا تلوح لترمب بـ"صفقة" عظيمة تكافئ الولايات المتحدة بموجبها بوتين، على "تنازله" في الموضوع الأوكراني، برفع العقوبات عن روسيا، وبتجديد حصوله على التكنولوجيا الغربية، وتتولى شركة أميركية الإشراف على توزيع الغاز الروسي على بلدان أوروبا وبيعه.
الخيانة الأميركية
ولا يستبعد أن تعود حصة من الصفقة الهائلة هذه إلى فلاديمير بوتين شخصياً. وتشهد المؤرخة، كاتبة المقال، التاريخ على صدق قولها. فمصير الامتيازات التي يمنحها الكرملين إلى مقربين منه، بينما الاقتصاد الروسي يعاني الأمرَّيْن، هذا المصير معروف: ما إن يستثمر الغربيون في المرافق التي حصلوا على امتيازها، وتدور عجلة الإنتاج، حتى تعمد الحكومة إلى مصادرة المستثمر الأجنبي. فروسيا توظف وعود الأعمال في تظاهرات القوة والنفوذ. وهي تحتاج، اليوم، إلى إنعاش اقتصادي على شاكلة بقرات حلوب. ولا يسع الصين، وهي مثلها دولة اعتادت الابتزاز، تلبية حاجة روسيا.
والحق أن الكرملين، في ضوء التشخيص الذي تقدم، وجد ضالته وشبيهه في دونالد ترمب. فكلاهما يختصر السياسة الخارجية في السطو والسلب. وما لا نعلمه بعد، تستدرك صاحبة المقال، هو: هل يجرؤ ترمب على مواجهة الرأي العام الأميركي وهو يرتكب عار خيانة حليف تخلى عنه وتركه فريسة إلى عدو أنشب فيه مخالبه وأنيابه، ويريد هلاكه.
وتخلص الكاتبة من وصفها وضع العلاقة الثلاثية إلى طرح السؤال التالي: ماذا يسع أوروبا أن تفعل حيال المحور الروسي- الأميركي؟ وتجيب: على أوروبا، قبل أي أمر آخر، أن تتحلى باليقظة، وألا تغفل عن حدة التحامل الروسي على أوكرانيا، وعن سعي روسيا الحثيث في تدمير أوكرانيا منذ عقود، وفي تفجير الحلف الغربي وشرذمة دول الاتحاد الأوروبي. وهذا السعي عاد على روسيا نفسها بدمار ازدهارها. وهي لم تجن من صنيعها العقيم هذا، على ما تكتب المؤرخة غير مصدقة غرابة الأمر وفداحته وعسر تقبله. إلا "متعة سحقها جاراً نَشَد حريته". وتبدو روسيا، في ضوء هذه الوقائع، "آلة تدمير ضخمة". وما إن تجهز على أوكرانيا، على ما تتوقع المؤرخة، وتستعيدها، حتى تنتقل إلى أوروبا، من غير أن تجتاحها ربما، وتنجز تدميرها بواسطة إشاعة الكراهية، والحماقة، والأنانية القومية الانتحارية، والعدمية، في أرجاء القارة.
واجبات أوروبا
ولا تتردد فرنسواز توم، في ختام ترشيحها السياسة التوسعية الروسية. وبعد استشراف مستقبل هذه السياسة في ضوء حاضرها وماضيها، في دعوة أوروبا دعوة ملحة إلى التنصل من الخيانة الأميركية، والبراءة منها. ويترتب على هذا التنصل، عملياً وإجرائياً، إلزام روسيا تقديم ضمانات أمنية صارمة لأوكرانيا، وفرض مرابطة قوات أوروبية على الأراضي الأوكرانية في كل اتفاق على وقف إطلاق النار أو هدنة، قصيرة أو طويلة. وعلى أوروبا، ثالثاً، أن تدرك أنها تملك أوراقاً وازنة في نزاعها مع روسيا. فأميركا ترمب لا يسعها وحدها تعويم الاقتصاد الروسي المتصدع. أي إن الأوروبيين، من غير أن يدروا ربما، على ما تنبه الكاتبة، هم في موقع قوة، على خلاف ما يتصورون ويصورهم الطرفان الآخران، الروسي والأميركي.
والإمبراطورية (القيصرية) الروسية لم تتماسك، طوال تاريخها، إلا بواسطة قوة أوروبية اختار الحاكم الروسي الاتكاء عليها، على ما تقدم القول. ويدرك الروس، اليوم، بعد اختبارهم المرير الانكفاء على أنفسهم، ثم الاستدارة نحو الصين، دور أوروبا الإيجابي وحاجتهم إلى هذا الدور.
روسيا الضعيفة
وخلاصة القول إن على الأوروبيين، على ما تشير المؤرخة على هؤلاء، إبلاغ الروس، منذ اليوم، أن الأعمال (بما فيها شراء الغاز) مع روسيا لن تُستأنف ما بقي الاحتلال الروسي رازحاً على أوكرانيا، ولم تنسحب قواته من الأراضي الأوكرانية المحتلة. فما تفعله الإدارة الأميركية هو إنجاد نظام بوتين، وإنقاذه من الانهيار المحتوم، واستعماله للسطو على أوروبا وابتزازها. أما مصلحة أوروبا فتدعوها إلى تخليص روسيا من نظام بوتين الاستبدادي. وتخاطب المؤرخة الأوربيين، "قومها"، بلسانهم، لسان المتكلم، فتكتب خاتمة: "علينا (نحن الأوروبيين) ألا نمنح النظام الروسي الموارد التي تمكنه من التغرير بسكان روسيا، وإعالة جهاز عسكري وبوليسي ضخم يتولى قمعهم ويصلينا العدوان. والتضحية باستقلالنا الاقتصادي، وبمصادر الطاقة التي تغذي مرافقنا، على مذبح مصالح ضيقة ومباشرة، هي في مثابة كارثة عظيمة نلحقها بأنفسنا طوعاً، وكنا سددنا ثمن هذا الاستقلالي غالياً جداً".