ملخص
لا يترك نبيل سليمان مسافة بين سيرته الذاتية والمتخيل الروائي الخاص به في كتابه الجديد "أوشام" (دار الحوار)، ومع أن صاحب "مدارات الشرق" يجعل من الوشم علامة لرمزية البيوت والنساء والكتب والطغيان في حياته، إلا أنه يدمج بين شخصية السارد العليم وأطياف من أعماله الروائية السابقة، مستخدماً ضمير المتكلم.
يقتحم الروائي السوري نبيل سليمان ما يطلق عليه برواية "المتخيل- السير-ذاتي" للمرة الثانية، بعدما كان قد اختبر هذه التجربة في روايته "المسلة" - عام 1980، أما في عمله الجديد فينتقل الكاتب بين الأمكنة والأحداث وفق تقنية توجز وتسهب في السرد، فتقدم أحداثاً وتؤجل أخرى، تبعاً لانتقائية المؤلف وطريقته في انتخاب وقائعه وترتيبها زمنياً.
لا يحاول سليمان إيهام قارئه بابتعاده ابتعاداً كاملاً عن شخصيات رواياته، بل يصرح علانية - في غير موضع من إصداره الجديد - بمطابقة شخوص رواياته لشخصيات عرفها وخبرها عن قرب في حياته: "والآن آن لقناع السرد بالضمير الثالث (الغائب) أن يتنحى، ليتقدم السرد بالضمير الأول (المتكلم). لم يعد للقناع السيري في الرواية، بل هو أوان السفور. أكتب أن شخصية أحمد في 'ينداح الطوفان' وشخصية خليل في 'هزائم مبكرة' هما ظل الكاتب الظليل، أما في رواية 'تحولات الإنسان الذهبي، فقد حملت قريتي البودي اسم (نيبالين) المشتق من قمة نيبال الأثرية'" (ص83- ص91).
ويفتتح سليمان كتابه بفصل "أوشامهن"، وهو الفصل الذي يجعل من اسم كل امرأة مرت في حياته مقطعاً خاصاً بها، فمن سعاد تطل بطلة روايته "هزائم مبكرة" - 1985، ملتبسة في أول فتاة أحبها عندما كانا طالبين في مدارس طرطوس وريفها، وذلك تبعاً لعمل أبيه في سلك الدرك وتنقلاته الكثيرة في طول البلاد وعرضها. نافذة الحبيبة الأولى ستتشابك ستائرها مع نافذة شفيقة، أو كما يطلق عليها الكاتب: "ماما أمينة" نسبة إلى لممثلة المصرية أمينة رزق (1910-2003).
ويتابع سليمان سرده موظفاً تقنية الأنا الثانية للروائي، أو ما يصطلح عليه نقدياً بـ"السارد الممثل". يقول سليمان: "لم يكن ذلك الشاب الذي يحمل اسمي معلماً فقط. كان طالباً جامعياً أيضاً. يدرس الأدب العربي لأنه مهووس بالقراءة، ويحاول الكتابة" (ص24). هذه الرغبة في الاختفاء سيحققها سليمان بأسلوب "الروائي الضمني" في عدد من فقرات سيرته، ويتابعها بين شخصيتي شفيقة خضر وشفيقة ابنة علي نصور، الفتاة التي عكف على تعليمها قصار السور في القرآن الكريم، ستلتبس شخصيتها الأمومية هي الأخرى بشخصية محبوبته.
صفحة الذكريات
ويدلف صاحب "فتنة السرد والنقد" - 1994 بعدها إلى ذكرياته في قريته البودي بريف اللاذقية. تحديداً إلى قصة حبه لزلفى. الفتاة الأمية التي ماتت كمداً من هجران سليمان لها قبل 40 عاماً. سيرد ذكرها أيضاً في روايته "ينداح الطوفان" - عام 1970، مثلما ستتقمص جسد امرأة تدعى غنوة في روايته "تحولات الإنسان الذهبي" - عام 2022، وستكون هي ذاتها المرأة التي رافقت الروائي في نقاهته بعدما أجرى عملية القلب المفتوح عام 2007.
وكما في أحلام اليقظة يتوغل سليمان في نسج مستويات متباينة لمتنه السيري بين منطقتي الوعي والخيال، مرة بصياغة مسافة بين النص وصاحبه، ومرات بتعدد المواقع التي يتخذها المؤلف والتواريخ التي يراجعها داخل نصه، ناهلاً من صنعة التخييل بما يموهه أو يوضح موقعه في أتون هذا النص. في الفصل الثاني المعنون بـ"أوشام البيوت" يستهدي صاحب "وعي الذات والعالم" - 1985 بكتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار (1989-1932). فهناك "البيوت الأولى"، كما أن هناك بيوت "الكتابة والصداقة". رحلات يطوح بنا الكاتب عبرها إلى أمكنة وأزمنة مختلفة.
يضع سليمان نفسه داخل سرده السيري، مستعملاً أساليب وتقنيات تفضح أسرار تأليفه لأعماله وتصوره لها، أو ما يسميه الناقد البلغاري - الفرنسي تزفيتان تودوروف (1939-2017) بـ"شعرية النثر"، أسلوب يعمل على معالجة نص أدبي بنص أدبي آخر: "عندما كنت أعد لكتابة رواية "مدائن الأرجوان" قصدت برج صافيتا أتقراه للمرة الأولى عن ذكرى (...) صعدت إلى كنيسة البرج في الطابق الثاني، خفقت ملء صدري أصداء لشتات من حديث أمي وأبي عن فرحة جيراننا باختيار اسمي (نبيل) الذي كان شائعاً بين المسيحيين، وكذلك حديثهما عن الحارة المسيحية التي أقمنا فيها" (ص37).
من صافيتا وبرجها الفينيقي الشامخ ستقطع عائلة الروائي 700 كيلومتر نحو عامودا في أقصى الشمال الشرقي للبلاد، وسوف تتبدل البيوت الأولى من حجرية إلى طينية، فمن عامودا ومسرح خيال الظل الذي شاهده الطفل سليمان فيها للمرة الأولى، إلى مكتبات القامشلي وصالات السينما وحماماتها الشعبية، ومنها إلى الدرباسية ولغات سكانها السريانية والكردية والأرمنية. كان ذلك في تلك الفترة التي سبقت سلطة حزب البعث بحملة التعريب والاضطهاد القومي. عام 1953، وتحديداً في صيف ذلك العام سيرتحل الروائي مجدداً إلى بلدة عين ظاط: "من الفضاء الكردي السرياني الكلداني الأرمني البدوي العربي انتقلنا إلى الفضاء الشركسي، فقرية عين ظاط شركسية، وقد جرى تعريب اسمها في أثناء الوحدة السورية المصرية، فصار اسمها عين النسر" (ص44).
صورة أديب الشيشكلي
في تلك القرية شاهد الفتى الصغير والده برفقة زميله في الشرطة يحطمان صورة رئيس الدولة أديب الشيشكلي بعد نجاح الانقلاب العسكري عليه عام 1954. يعود بنا الكاتب عبر تقنية الاسترجاع الروائي إلى المكان نفسه، لكن بعد مضي ما يقارب 70 عاماً: "أفكر بأن تلك البيوت هي التي جعلت من تكويني نبضاً كردياً ونبضاً شركسياً، نبضاً مسلماً وآخر مسيحياً، نبضاً سيريانياً وآخر أرمنياً [...] فألهج بقول قيس ابن الملوح: منازل لو مرت عليها جنازتي/ لقال الصدى يا حاملي انزلا بيا" (ص46).
ولا يتوقف الترحال في هذه الرواية السيرية، بل يمتد ليشمل تلكلخ وحديدة في ريف حمص، المكان المحتشد بالتوابيت الحجرية، تحديداً في الخان الذي أقامت فيه العائلة، وكان يعتقد أنه بقايا معبد للإله حدد، إله العواصف والأمطار عند السوريين القدماء، والذي يشير إليه المؤلف بأن له عديداً من المواقع المشابهة في الجامع الأموي في دمشق، ومثله في قلعة حلب. تحضر أيضاً مدارس حمص في رواية سليمان، صعوداً إلى مصب النهر الكبير الجنوبي على الحدود السورية - اللبنانية، سوف لا يمحى أثر "أوشام البيوت" التي مر أو أقام الكاتب فيها.
وكان بيت حلب المحطة الأبرز في الكتاب، إذ يورد صاحب "تاريخ العيون المطفأة" ما كتبه محمد جمال باروت عن ذلك البيت في كتابه "نبيل سليمان - حوارات وشهادات" فيقول: "كان بيت نبيل سليمان في حلب منتصف السبعينيات، حين تعرفت عليه للمرة الأولى برلماناً لنا نحن الشباب الموسوم بالراديكالية آنذاك". كان بيت سليمان قد تحول إلى ما يشبه خلية للعمل السياسي المعارض للنظام البعثي، وكان على رأس من جمعهم سليمان في ذلك البيت الثقافي قيادات المكتب السياسي للحزب الشيوعي وممن أسسوا رابطة العمل.
عام 1978 سيبيع نبيل بيت حلب ويشتري بثمنه بيتاً في اللاذقية. المدينة التي سيتعرض فيها الكاتب لمضايقات شتى من قبل الشبيحة: "يطل البيت على حديقة عامة، نصفها للأطفال، وهي ما تبقى من شريط أخضر كان يمتد من مدرسة الغافقي والأمن العسكري إلى الجامعة، لكن الشريط راح يقصر من سنة إلى سنة، وإحدى الجمعيات السكنية استولت على شطر ورفعت فيه كتل البناء السكني الصماء، وابنا جميل الأسد: فواز ومنذر استوليا على شطر ورفع كل منهما بنايته التي تسحج بك من بعيد: لا تقترب مني، وجميل الأسد هو شقيق حافظ الأسد الذي نفخ في نار الطائفية فيما اصطنع من (جمعية المرتضى) ولقب نفسه بـ(الإمام)، وكانت أيدي ابنيه منذر وفواز مطلقة في المدينة" (ص77).
ملتقى بيت اللاذقية
وعلى رغم المضايقات التي تعرض لها نبيل من عائلة الأسد، فإنه استطاع أن يحول بيت اللاذقية إلى ملتقى لسياسيين وناشطين ضد السلطة، وفيه أكمل ما كان قد بدأه في بيته الحلبي، وأنجز عديداً من الكتب والمؤلفات، وسيزور هذا البيت عديد من المثقفين والفنانين سوريين منهم وعرب وأجانب. في صيف عام 1989 سيركن نبيل سليمان إلى معتزله في قريته البودي، ليستكمل هناك رباعيته "مدارات الشرق" بجزأين آخرين هما "الأشرعة" و"بنات نعش". في الفيلا التي أطلق عليها سليمان "ورشة القراءة والكتابة"، وهذا ما جعله مجدداً عرضة لشبهات الشبيحة وسلطة البعث.
يشرح سليمان ذلك في الفصل الثالث من الكتاب، والذي عنونه بـ"أوشام الأمننة" والتي خبرها الكاتب عن قرب منذ إطلاق ما يسمى "المكتب الثاني" حملة اعتقالات ممنهجة ضد الشيوعيين في الإقليم الشمالي (سوريا) زمن الوحدة مع مصر (1958- 1961). كان الحديث عن الاستخبارات أو المكتب الثاني يما قبل عام 1963: "منذ ذلك العام الذي استولى فيه حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في كل من سوريا والعراق. أخذت كلمة الأمن تبتلع الأسماء القديمة ابتداءً بأمن الدولة أو الأمن العسكري، وليس انتهاء بالأمن الصحي أو الغذائي أو الاقتصادي أو الجنائي" (ص101).
عثر صاحب "الصراع السردي" على مرادف لكل أنواع الأمن في كلمة "الأمننة"، وهو يواظب على استخدامها في كتاباته، و"الأمننة" - كما يعرفها الكاتب - مصطلح يبرر التدابير الاستثنائية، ويؤدي إلى القفز فوق المحددات القانونية والأخلاقية، من مثل محاكم الإرهاب أو محاكم أمن الدولة، أو الاعتقال 20 عاماً بلا محاكمة، أو التعذيب حتى الموت، أو إعلام الأحكام العرفية لمدة 50 عاماً، إلى آخر ما عاشته سوريا.
الإعتداء الجسدي
وفي عام 2001 تعرض سليمان للاعتداء الأول عليه من قبل الشبيحة في مدخل البناء الذي يقيم فيه في حي الزراعة بمدينة اللاذقية. كان ذلك على تنظميه لأول ملتقى من منتديات اللاذقية في بيته، والذي تزامن مع ما عرف وقتها بربيع دمشق. حضر هذا اللقاء حينذاك 48 شخصية بينهم شخصيات معارضة للنظام، وقضت فترة اعتقالها لسنوات في السجون الأسدية، ومنهم من كان من نواب مجلس الشعب والنقابات، إذ طالب هذا اللقاء بإلغاء المادة الثامنة من الدستور، والتي كانت تكرس حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، كذلك كانت المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية ومحاربة الفساد، وقد كان عنوان الجلسة "المجتمع المدني في سوريا - عرض ونقد".
أدخل نبيل سليمان إثر الاعتداء على المستشفى، وتم تهديده من قبل هشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي وعضو القيادة القطرية بسبب روايته "سمر الليالي" - 2000، والتي تعرض فيها المؤلف للشابات السوريات في المعتقلات الأسدية من يمينيات ويساريات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. يسرد سليمان قصة الاعتداء الثاني عليه وعلى بيته في قريته البودي عام 2011. على خلفية مشاركته في مؤتمر سميراميس للمعارضة الذي طالب فيه المؤتمرون بتفكيك الدولة الأمنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي فصل "أوشام المكتبة" سيستذكر سليمان مكتبات عايشها عن قرب في إعدادية الدريكيش والمكتبة الشعبية في طرطوس التي عرفته مبكراً على يوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله وجبران خليل جبران والمنفلوطي، فيما قدمت له دار الكتب الوطنية في اللاذقية مؤلفات توفيق الحكيم وطه حسين وعباس محمود العقاد ونجيب محفوظ، إضافة لأعداد نادرة من مجلات وجرائد ودوريات. أما في دمشق فسيتعرف الكاتب على مكتباتها العريقة، ومنها "دار اليقظة العربية"، و"النوري" و"ميسلون" و"نوبل" و"دار الفكر" قبل أن تنقرض تباعاً من المشهد مع عام 2011، وفي الرقة ستأسره مكتبة الخابور ومكتبة ثانوية الرشيد التي شارك في تأسيسها، وفي حلب ستخلب عقله مكتبات الشهباء، ومنها مكتبات "فياض" و"دار الحضارة" و"دار الشرق العربي" و"دار الفجر" و"دار الكتب الوطنية".
المكتبات ستلعب دوراً في تأسيسه لمكتبة آفاق ولدار الحوار في اللاذقية عام 1982، فكان "الغطس الأكبر في عالم الكتاب حتى تولت ابنتي وزوجتي أمر الدار وتفرغت تقريباً للقراءة والكتابة منذ عام 1989" (ص206). وعبر هذه العقود التي تبلغ الخمسة كانت مكتبته الشخصية في منزله الريفي في قرية البودي قد صارت مقامه ومنامه، وفي الآن نفسه ملتقى الصديقات والأصدقاء الكاتبات والكتاب من سائر البلاد العربية.