ملخص
يمكن ملاحظة أن اعتبار الإدارة الأميركية إيران تهديداً من عدمه في الاستراتيجيتين ربما رجع إلى علاقة إيران بدول الخليج، حيث إن تهدئة العلاقات بينهم جعلت طهران تضاءلت كمصدر تهديد إلى جانب التحركات الإسرائيلية العسكرية، ومن ثم فمن الواضح أن أهم ركائز أي نظام أمني إقليمي بين دول المنطقة لا بد من أن يرتكز على إيجاد أسس وآليات لحل النزاعات بين إيران وجيرانها.
تعبر استراتيجية الأمن القومي لأي دولة عن الإجراءات والسياسات التي تتبعها وفقاً لرؤيتها لمصادر التهديد لأمنها القومي ولمصالحها، وكيفية التعامل مع تلك التهديدات والوصول للمصالح الوطنية.
صدرت منذ أيام قليلة استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نبعت أهمية تلك الاستراتيجية من أنها توضح الخطوط الرئيسة للسياسة الخارجية الأميركية بناء على ما تعتبره تهديدات لأمنها القومي، وما تعتبره مصالح أساسية لها تتحرك وفقاً لها.
في الاستراتيجية الحالية الصادرة عن موقع البيت الأبيض، تختلف رؤية الإدارة الأميركية للشرق الأوسط، وبطبيعة الحال إيران، عن الاستراتيجية الصادرة عام 2017 في بداية ولاية ترمب الأولى.
ربما يعكس ذلك التغيرات الاستراتيجية التي لحقت بالمنطقة ما بين ولايتي ترمب وموقع إيران بطبيعة الحال، ففي الاستراتيجية الحالية اعتبر الرئيس الأميركي أن على مدى نصف قرن في الأقل، أولت السياسة الخارجية الأميركية الأولوية للشرق الأوسط على حساب جميع المناطق الأخرى لأسباب ارتبطت بأهمية الشرق الأوسط للمصالح الأميركية، ومنها أنه أهم مورد للطاقة في العالم، ومسرح رئيس لتنافس القوى العظمى وكان يعج بالصراعات التي هددت بالامتداد إلى أوروبا والولايات المتحدة.
لكن هذا المستوى من التهديدات والمصالح المرتبطة بالشرق الأوسط تراجع، إذ تنوعت مصادر الطاقة بصورة كبيرة، وأصبحت الولايات المتحدة مرة أخرى مصدّراً للطاقة، وتحتفظ الولايات المتحدة بأفضل مكانة دولية، ومن ثم لا مجال للتنافس بين القوى العظمى في ساحة الشرق الأوسط.
أما التهديدات التي كان عنوانها الرئيس إيران فلم تعد هي المشكلة، وفقاً لإدارة ترمب الحالية، إن إيران قد أُضعفت بصورة كبيرة بفعل التحركات الإسرائيلية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وعملية "مطرقة منتصف الليل" التي أطلقها الرئيس ترمب في يونيو (حزيران) الماضي، والتي أدت إلى إضعاف البرنامج النووي الإيراني حسبما يرى ترمب.
إلا أن ترمب يعتبر أن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لا يزال شائكاً، لكن بفضل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن الذي تفاوض عليه الرئيس الأميركي، تم إحراز تقدم نحو سلام أكثر ديمومة، والداعمون الرئيسون لـ"حماس" تم إضعافهم مثل "حزب الله" اللبناني، ولكن سوريا لا تزال مشكلة محتملة، ولكن بدعم أميركي وعربي وإسرائيلي وتركي قد تستقر وتستعيد مكانتها اللائقة كلاعب أساس وإيجابي في المنطقة، كل ما سبق يمثل رؤية إدارة ترمب الحالية للسياق الإقليمي الشرق أوسطي.
ويعتبر ترمب أنه مع إلغاء هذه الإدارة أو تخفيفها السياسات التقييدية في مجال الطاقة، وتزايد إنتاج الطاقة الأميركية، سيتلاشى السبب التاريخي الذي دفع أميركا إلى التركيز على الشرق الأوسط، وبدلاً من ذلك ستصبح المنطقة بصورة متزايدة مصدراً ووجهة للاستثمارات الدولية، وفي قطاعات تتجاوز النفط والغاز بكثير، بما في ذلك الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع، ويمكننا أيضاً العمل مع حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط لتعزيز مصالح اقتصادية أخرى.
لا يقلل ترمب من أهمية المنطقة ويعتبر أنه ستظل لأميركا مصالح جوهرية في ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة في الخليج في أيدي عدو صريح، وبقاء مضيق هرمز مفتوحاً، وبقاء البحر الأحمر صالحاً للملاحة، وعدم تحول المنطقة إلى حاضنة أو مصدر للإرهاب ضد المصالح الأميركية أو الوطن الأميركي، وبقاء إسرائيل آمنة، مما يستوجب معالجة هذا التهديد أيديولوجياً وعسكرياً من دون عقود من حروب "بناء الدول" العبثية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد مصلحة واشنطن في توسيع اتفاقيات إبراهيم لتشمل مزيداً من دول المنطقة ودولاً أخرى في العالم الإسلامي، لكن الأيام التي هيمن فيها الشرق الأوسط على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في التخطيط الطويل الأمد أو التنفيذ اليومي، قد ولّت لحسن الحظ، ليس لأن الشرق الأوسط لم يعد مهماً، بل لأنه لم يعد مصدر إزعاج دائماً، ومصدراً محتملاً لكارثة وشيكة، كما كان في السابق، بل إنه يبرز الآن كمساحة للشراكة والصداقة والاستثمار.
في حين اعتبرت استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترمب عام 2017 أن هدف الولايات المتحدة هو السعي إلى شرق أوسط لا يكون ملاذاً آمناً أو مرتعاً للإرهاب، ولا تهيمن عليه أي قوة معادية للولايات المتحدة، ويسهم في استقرار سوق الطاقة العالمية.
إن ما عصف باستقرار الشرق الأوسط تمثل في التوسع الإيراني وانهيار الدول، والأيديولوجية التكفيرية والركود الاجتماعي والاقتصادي والتنافسات الإقليمية، ومن ثم كانت أهم أدوات ترمب لتحقيق تلك الأهداف وفقاً لاستراتيجيته هي الاحتفاظ بالوجود العسكري الأميركي اللازم في المنطقة لحماية الولايات المتحدة وحلفائها من الهجمات الإرهابية والحفاظ على بيئة إقليمية مواتية.
والمشاركة مع حلفائها من المنطقة في تعزيز مؤسساتهم وقدراتهم، بما في ذلك في مجال إنفاذ القانون، من أجل مكافحة الإرهاب والتمرد، ومساندتهم في الحصول على أنظمة دفاع صاروخي قابلة للتشغيل البيني وقدرات أخرى لتحسين الدفاع ضد التهديدات الصاروخية النشطة وتحييد أنشطة إيران في المنطقة.
كيف نفهم وضع إيران في الاستراتيجيتين؟ في الوقت الحالي وفقاً لترمب، فقد تضاءل وضع إيران باعتبارها تهديداً، ومن ثم تركيز الولايات المتحدة على مصالحها الرئيسة المرتبطة بالعودة إلى مبدأ مونرو في نصف الكرة الغربي، ومهاجمة الحلفاء الأوروبيين، وشراكة الصين في المجال الاقتصادي، من أهم الحقائق التي دفعت الجانب الأميركي بعيداً من التركيز والانخراط في الشرق الأوسط كما اعتادت الإدارات السابقة، بل التركيز من شأن وضع إيران مصدراً للتهديد أو عدم الاستقرار في المنطقة، ربما السبب راجع إلى التقارب الحذر بين إيران ودول الخليج الذي أرسى أهم قواعده الاتفاق بين إيران والسعودية الذي أسهم في جعل منطقة الخليج آمنة بعيدة من التوترات التي جرت إليها المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى الآن، والأهم قدرة البلدين على الحفاظ على المصالحة، مما دفع إيران إلى طلب وساطة السعودية لدى واشنطن في شأن المفاوضات النووية، وتعتمد إيران في إقناع ترمب بالمسار الدبلوماسي على الدور السعودي.
كلها مؤشرات دفعت ترمب إلى اعتبار أن السياسة السعودية وعلاقتها بإيران ربما تؤدي دوراً مهماً في استقرار المنطقة في حال استمرار إيران بانتهاج دبلوماسية حسن الجوار ومن ثم عدم تأجيج أي توترات عسكرية، لذا اعتبر ترمب أن دور إدارته في تلك المرحلة هو نقل الأعباء إلى دول المنطقة لحل قضايا المنطقة مع تهيئة المنطقة لفرص استثمارية مشتركة، ربما تستفيد إيران من الفرص الاقتصادية في المنطقة بالتعاون مع دول الخليج.
هذه الرؤية تصب في مصلحة إيران لجهتين، الأولى هي تقليل الانخراط الأميركي في المنطقة الذي يعد سبباً لاستياء إيران منذ 1979 وتركيز ترمب على المنطقة الواقعة بين المحيطين الهندي والهادئ التي اعتبرها أنها بالفعل وستبقى من بين أهم ساحات المعارك الاقتصادية والجيوسياسية في القرن المقبل، إذ إنها مصدر لما يقرب من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي بناءً على تعادل القوة الشرائية، وثلثه بناءً على الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم عدم الانخراط في الشرق الأوسط، والأمر الآخر تضاؤل احتمالات مواجهة عسكرية أخرى مع إسرائيل وإن كانت غير مضمونة حال فشل مسار الدبلوماسية وتوصل ترمب إلى اتفاق مع إيران.
لذا تسعى إيران من جانب آخر إلى التهدئة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية عبر الوساطة اليابانية التي حلت بعد اتفاق القاهرة الذي اعتبرته طهران انتهى بعد إعادة تفعيل "سناب باك"، كلها تحركات من إيران نحو الدبلوماسية وإقناع ترمب أن طهران راغبة في اتفاق، لذا تعتبر إيران أن استراتيجية الأمن القومي للإدارة الأميركية الحالية أكثر فائدة، ربما تعتقد إيران أن بتقليل انخراط واشنطن في المنطقة سوف تفسح المجال للتحرك الإقليمي الإيراني لكن لا تزال العقبة الكبرى أمامها هي إسرائيل التي لديها محددات رئيسة هي معاودة إيران استئناف تخصيب اليورانيوم ومعاودة بناء منظومتها الصاروخية.
يمكن ملاحظة أن اعتبار الإدارة الأميركية إيران تهديداً من عدمه في الاستراتيجيتين ربما رجع إلى علاقة إيران بدول الخليج، إذ إن تهدئة العلاقات بينهما جعل طهران تضاءلت كمصدر تهديد إلى جانب التحركات الإسرائيلية العسكرية، ومن ثم فمن الواضح أن أهم ركائز أي نظام أمني إقليمي بين دول المنطقة لا بد من أن يرتكز على إيجاد أسس وآليات لحل النزاعات بين إيران وجيرانها.