Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فهرس بعض الخسارات"... النص تحت سطوة الموت

 الألمانية يوديت شالانسكي ترى أن كل مبنى هو طلل والإبداع ليس سوى تدمير

الكاتبة الألمانية يوديت شالانسكي (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

يسعى المبدعون عادة إلى تجنب فضاءات الألم وبيئات الخراب، ويفضلون دوماً البحث عن أسباب للأمل والفرح بالحياة، ولكن يظل هناك من يربط إبداعه بالنظر إلى الموت ولا يكف عن تفحصه وتقصي حالات الغياب.وتحفل ثقافتنا العربية بكثير من المراثي والنصوص التي تمجد الوقوف على الأطلال وتبقى في تحليلها الأخير محاولة لاقتفاء الأثر، ومواجهة الفقد. وبالمثل تحاول الكاتبة الألمانية يوديت شالانسكي في كتابها "فهرس بعض الخسارات" الذي صدرت ترجمته العربية عن دار كلمة، مركز أبو ظبي للغة العربية. أنجز الترجمة الكاتب والمترجم المصري البارز سمير جريس، وكعادة جريس جاءت الترجمة بالغة العذوبة حافلة بفهارس وإشارات مرجعية مهمة، وحافظت كثيراً على شعرية النص الذي يصعب تصنيفه، إذ يفتح ذائقة قارئه على معارف كثيرة، تتراوح بين كتابة التأملات والتقصي الأنثربولوجي وأدب الرحلات والسيرة الذاتية أحياناً .

ولدت شالانسكي عام 1980 ودرست الفن والتصميم، وترجمت أعمالها إلى 20 لغة قبل العربية، ومن أبرزها "أطلس الجزر النائية" الذي تصدر المبيعات في ألمانيا وترجم إلى العربية من قبل. ووفقاً لما جاء على غلاف الكتاب، فقد نال كتاب "فهرس بعض الخسارات" اهتماماً كبيراً من القراء وصدر في طبعات شعبية. وكما فعلت في كتابها "أطلس الجزر النائية"، فإنها تستعمل الطريقة ذاتها في اعتماد الأحداث التاريخية والتقارير العلمية، كنقطة انطلاق لكل مكان زارته، مما يفتح العين على كثير من المعلومات، والقصص الفريدة عن أماكن يصعب الوصول إليها في العالم.

تحكي المؤلفة في الصفحات الأولى عن رحلة قامت بها لإحدى المدن البحرية شمال ألمانيا، وبدلاً من التفكير في الطبيعة الخلابة طلبت أن تزور المدافن المحاطة بسور من حديد. وكانت دهشتها كبيرة ساعة أن انتبهت لربة بيت كان بمقدورها أن تنظر أثناء الطبخ من شباك منزلها، إلى مقبرة ابنها الذي توفي مبكراً .

 بلاغة اليوتوبيا 

وعلى الرغم من قسوة اللقطة وما تثيره من ألم، فإنها دفعت شالانسكي للتفكير في المعنى الكامن فيها، من حيث تقصي ما يثيره الغياب، حين يلقي بظلاله، ليس فقط على الأماكن وإنما على الأرواح التي تنسحب إلى الموت وتبقى هشة.

وبفضل هذه الرحلة انتبهت مؤلفة الكتاب إلى وجود كثير من الموضوعات التي لا تزال بحاجة إلى أن تكتب. ووقفت فعلياً على كثير من الأطلال ورأت كثيراً من الشعر في أماكن لا تتوقعها. فعندما بحثت في قصة النظرة الفريدة التي توجهها الأم إلى مقبرة ابنها، اتضح لها أن هناك تقليداً في المدينة يضرب بجذوره في الزمن، وهو دفن الموتى إلى جوار ذويهم. ونتيجة لبحثها في فلسفة بناء هذا النوع من المقابر وطرزها المعمارية الفريدة، تعرفت على ما تسميه "الاستعارة البلاغية لليوتوبيا" التي تجسدت أمامها وهي أن تحيا والموت أمام عينيك.

تلعب ظاهرة التحلل والدمار دوراً محورياً في الكتاب، إذ يحتفي عبر نصوصه بالزوال ويرصد أشكالاً للتعامل مع الموت، يصعب حصرها، وفي المقابل يتأمل في كثير من أشكال الحياة. تلفت المؤلفة إلى أن القطيعة التي يحدثها الموت هي نقطة البدء للتراث والتذكر، وأن مراثي الموتى هي مصدر كل ثقافة تحاول أن تحيي الغائب من جديد، والتحايل لملء الفراغ الذي يتركه، وملء الصمت الفجائي الذي يحل مع الفناء.

لا تدعي المؤلفة صلة بالشعر، لكن القارئ لا ينجو من شاعريتها الواضحة، وهي تبني تأملاتها على استعارات ومجازات وحفاوة بالعابر، وتعمل على اقتناص المفارقات، وتتعدد مظاهر السخرية على الرغم من الموضوع القابض، لا سيما وهي تربط سيرتها بالقصص التي ترويها وتعزز من الفائض الشعري لديها. أعطت شالانسكي كثيراً من الصفحات لتوجه عناية القارئ إلى قيمة الأرشيف والغاية من وجوده، وتربطه بالخلود والرغبة في الاحتفاظ بكل شيء مثلما كان يحدث في الماضي.

تؤمن المؤلفة كذلك أن كل شيء في الأصل "نفاية"، وكل مبنى هو دائماً أطلال، وكل إبداع ليس سوى تدمير، بل ترى أن علم الآثار ذاته ليس إلا شكلاً من أشكال التخريب، كما أن المتاحف والأرشيفات من وجهة نظرها، تحولت إلى "مدافن منتظمة" انتزعت معظم محتوياتها من دورها في الماضي، لكي تؤدي دورها في التضليل. أما الأنقاض فهي مكان يوتوبي، يتلاقى فيه الماضي مع المستقبل. ومن هنا تولد لديها دافع تأليف إلى الكتاب الذي جاء من الرغبة في ترك كل شيء باق، والإلحاح على " إحياء الماضي ، واستدعاء المنسي، وإتاحة الفرصة أمام الأخرس لكي يتكلم".

 الاستبداد ولعبة المحو

يضم الكتاب فصلاً مثيراً حول سعي المستبدين لإلغاء الماضي بغرض التحكم في المستقبل، وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فإن الماضي– كما تقول– يمثل فضاء الإمكانات الحقيقي، ولهذا تحديداً، فإن إعادة تأويل الماضي هي من الأفعال الأولى التي يقوم بها أي نظام للحكم عقب سيطرته على السلطة.

وبطريقة سردية مبتكرة، تقف على التخوم بين أنواع كثيرة من الكتابة عبر تعدد الأنواع، فتقفز من فضاء إلى آخر. تجوب الكاتبة مناطق عدة في العالم وتكتب حولها كثيراً من التأملات وبعض الشذرات ذات السمة الشعرية. ومن تلك المناطق جزيرة تواناكي وهي واحدة من جزر الكوك الجنوبية قرب الأرخبيل الياباني الواقع ضمن ما تسميه "الجزر الشبحية". ومما يثير الدهشة أن سكان هذه الجزيرة لم يعرفوا "المعارك" من قبل، كما أن كلمة حرب لم تكن معروفة لديهم، الأمر الذي دفع شالانسكي، للتعرف على بلد ليس له ذاكرة، ولا يعرف سوى الحاضر.

 ويعطي الكتاب لقارئه فرصة التجوال في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، المؤسس حول جملة من الأساطير التي لا تزال فاعلة داخل الحياة اليومية للشعوب التي ورثتها. ويتأمل رحلة البشر في ترويض الحيوانات المفترسة التي كان يتم جلبها من مناطق كثيرة حول العالم. وهي الرحلة التي أوجدت حلبة المصارعة ووصلت بالبشرية إلى خلق فنون السيرك، وهي "فنون تعويضية" عن رحلة الاستعراض المتبادل للقوى.

 ميراث السيرك

وبالمثل خاضت المؤلفة رحلة أخرى للذهاب إلى ما وراء جبال الألب لتأليف "دليل عن الغيلان"، وعادت برؤية متكاملة حول ميثولوجيا الموت هناك، التي تقوم بالكامل على استبطان كثير من الحكايات الخرافية. وتمتد الفكرة لتشمل ضاحية "فالي انفرنو" في روما القديمة وتعني حرفياً "وادي الجحيم".

تقوم أسطورة هذا المكان حول الأثر الخالد الذي يمثله ويبرز في مخيلة السياح الغرباء الذين يقفون قرب "الساحة الإسبانية"، لمشاهدة تقليد لم يتبدد، بحيث ينزل من عربات البريد القديم التي تجرها الخيول، فنانون أتوا من الشمال وهم يحملون في ملف مغلف بالجلد، رسالة توصية من أحد الحكام أو هبة من أحد رعاة الفنون في روما القديمة. وترى شالانسكي أن استعادة مثل هذا التقليد يأتي بغرض تقديس الأطلال وبعث رفات القديسين، وتمثل بهاء الإمبراطورية الضائع. وتقول إن روما بحالتها تجعل من الشعب الإيطالي كله وريثاً لمكان معلق بين الأزمنة، حيث لا حواجز تفصل الأنقاض عن النشاط اليومي لسكانها الذين لا يتعجبون من جمالها الباذخ.

ومن روما إلى "مانهاتن" حيث تبرز النصوص، الكثير من التناقضات التي تعرفها المدينة، لكنها تختار العودة إلى أرشيف غريتا غاربو وتتأمل حضورها في شارع بارك واشنطن سكوير، وتستعيد فيلمها الأخير "المرأة ذات الوجهين" (1941) كفضاء لاستعراض الهواجس الدائمة حول حدود الجمال ومعاييره المتغيرة، بعد أن أضحت غرسئمت غاربو من كل شيء، وليس لديها إلا الشهرة الملعونة، كما لم تعد فرساً يسحب الآخرين إلى الأمام، بل تحولت إلى كلب بلا صاحب يقضي أيامه الأخيرة متشرداً في مانهاتن وبين أوساخها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل أكثر فصول الكتاب إثارة ما كتبته شالانسكي من شذرات حول شعر الشاعرة الإغريقية "سافو" التي توفيت عام 570 قبل الميلاد، ونظرتها إلى فناء الأحاسيس، انسجاماً مع الرؤية الكلية للكتاب عن الأطلال. ويجمع دارسو "سافو" التي عاشت في جزيرة لبسوس على أن غالب أشعارها ضاعت في فترة ما، خلال الحقبة البيزنطية، نتيجة المزيج الفعال بين الإهمال المتعمد أو التدمير الفعال. ولذلك لم تصل إلينا من نصوصها سوى قصائد قليلة جداً، لكنها حافلة بإشارات متناقضة عن مفهومها للحب والمغامرة الحسية.

تقول شارانسكي، إن كل عصر اخترع نسخته الخاصة من "سافو"، وكلما تعددت أدوارها تبددت سيرتها، لكن ما تركز عليها شارانسكي يتعلق بالميول الحسية لـ"سافو" التي مالت إلى جمال النساء وكرست كثيراً من شعرها لهذا الموضوع، علماً أن الإغريق لم يقسموا الشهوة الحسية حسب انتماء ممارستها إلى الجنس نفسه أو إلى أي جنس مغاير. فالأمر كان بالأحرى هو أن يتناسب الدور الجنسي مع الدور الاجتماعي. ثمة نصوص كثيرة في الكتاب تنظر إلى الموت وإلى الأفول، من زوايا متعددة تستند كلها على تأويلات مبتكرة للأساطير أو للحكايات الخرافية التي يتم تمثلها عبر أشكال عديدة، وتتقصى حضورها في أكثر من مكان زارته الكاتبة.

ويتيح هذا الكتاب بترجمته البديعة إلى العربية، مفاتيح لكتابة جديدة مشرعة على الحياة، تطأ أرضاً لم تصل إليها الكتابة العربية إلا في ما ندر، إذ تستدعي العلم والأدب والميثولوجيا والتاريخ وتظهرها في سبيكة واحدة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة