ملخص
في روايتها الأولى "وشم أزرق"، تخوض الكاتبة شيماء عاشور مغامرة أدبية وإنسانية، بحيث يتحول البوح إلى علاج، ويصبح الجمال الجريح مساحة فلسفية للتأمل في الذات والوجود. ليست الرواية عن المرض، بل عن كيفية النجاة منه بالكلمات، عن نساء يعبرن العتمة، بحثاً عن ذواتهن خلف جدران "بيت حكي"، في مواجهة مع الألم، ومع صورتهن في مرآة مجتمع لا يتوقف عن النظر إلى جسد المرأة، حتى في أقسى لحظات هشاشتها.
منذ البداية، تتقدم الرواية كأنها تجربة أو رحلة، تمضي في حوار مع الظلام للعثور على النفس، في سياق جمالي يحمل وعداً بالتعافي. من هنا، تنبثق أسئلة، مثل: كيف نواجه المرض بالكلمات؟ كيف نصنع من الصلات الإنسانية مساحة للشفاء؟ وكيف يمكن للفن أن يعيد تشكيل جوهرنا؟
الرواية تنضم إلى سلسلة من الأعمال الأدبية، التي اختارت أن تواجه المرض عبر الكتابة، كما في كتاب "عام السرطان" للكاتبة سالمة صالح، التي وثقت تجربتها الشخصية مع المرض بلغة تأملية حافلة بالفقدان والبحث عن المعنى، وكتاب "أموت لأكون أنا"، للكاتبة الهندية أنيتا مورجاني، وفق إطار السيرة الذاتية، مع رحلة وعي داخلي قادتها إلى تخوم الموت، والعودة منه بحكمة جديدة عن الذات والكون، وقائمة تطول من الكتب التي تناولت الموضوع نفسه.
في هذا الخط التفاعلي، تبدو "وشم أزرق" امتداداً لهذه الأصوات النسائية التي اختارت أن تجعل من الألم نصاً، ومن التجربة الفردية مرآة للآخرين. لا تأتي الرواية كعمل سردي تقليدي، بل كطقس تطهيري ينتمي إلى ما يمكن تسميته "العلاج بالفن"، ذلك المسار الذي يمنح الكاتبة والقارئ معاً فرصة الاقتراب من موضوع شائك وموجع.
بيت للبوح
تبني الكاتبة معمارها السردي، حول فكرة مكان اسمه "بيت حكي"، أسسته الراوية "صفا"، كي تلتقي فيه مجموعة من السيدات المصابات بمرض السرطان، وهناك يواجهن معاً حقيقة المرض، حيث الحكي والكتابة التعبيرية الركيزتان الأساسيتان لمواجهته. إذ ليس جديداً أن الحكي كوسيلة تعبير أو تنفيس أو تسلية، له جذور ضاربة في الثقافة الشعبية، في حكاء الشوارع، وفي عرائس الظل، ثم تطورت لتصبح بوحاً مباشراً، في لقاءات جماعية أو عبر الإنترنت.. تقول: "يبدو لي أن علاقتنا بذواتنا محكومة بهذه الجدران الأربعة، الأسئلة التي نحملها كثيراً ونتحاشى الإجابة عنها.. نحن نحكي لمشاركة جزء من أنفسنا لاستجلاب الضحك أو الدموع".
يختلف الموقف الوجودي من المرض بين البطلات، تواجه رقية مرضها بتماسك وقوة في البداية، قبل أن تبدأ مرحلة الانهيار، أما زيزي فقد ظلت تنكر المرض حتى موتها. نور لا تشعر بالاستقرار إلا إذا كان كل شيء في مكانه، وكل شخص في موضعه، ويأتي المرض ليعصف بكيانها كله. أما صفا، فهي التي تكشف عن ذاتها، وتسترجع تفاصيل بداية فكرتها عن العلاج بالفن، تفاصيل كانت السبب "في تفتح رؤيتي واهتمامي، فلو لم أصب مثل هؤلاء السيدات، لما تنبهت لوجودهن من الأساس، ولما رأتهن عيني".
في هذا السياق، تتكئ الكاتبة على الحكي كوسيلة علاجية، تمكن المرأة من تفكيك علاقتها بجسدها، وبتجربتها في المرض، بعيداً من الخطابات الطبية الجافة أو نظرات الشفقة المفرطة. "بيت حكي"، يصبح بؤرة للتعبير، ومرآة تعكس تعدد الأصوات، وتجارب النساء، يتداخل الألم الفردي مع الألم الجمعي في مشهد يحرر الجسد والروح معاً.
مواجهة الجمال
في الرواية، لا يقتصر المرض على كونه تجربة جسدية موجعة، بل يصبح مرآة تعكس العلاقة العميقة والمضطربة بين المرأة وجسدها، وبين الذات وفكرة الجمال، كما يرسمها المجتمع. الجمال هنا ليس مسألة شكلية، بل هو قيد غير مرئي، تطوق به المرأة نفسها، أو يفرض عليها من الخارج. منذ الطفولة، تلقن الفتيات أن عليهن أن يكن جميلات، وحين يأتي المرض، ويهشم الجمال الخارجي، تبدأ المواجهة الحقيقية مع الذات.
تعري الرواية فكرة الجمال الزائل، أو الذي كان موجوداً وتعرض للزوال. الرواية تتعامل مع هذه المواجهة كرحلة تأملية، حيث تجبر البطلات على إعادة تعريف معنى الجمال بعيداً من قوالب المجتمع. شاهندة، التي تواجه صلعها منذ المراهقة، تتخلى عن الباروكة حين تبلغ الـ30 من عمرها، وتختار أن تضع وشماً على رأسها، في فعل وجودي ينطوي على إعلان: هذا جسدي كما هو، جميل رغم النقصان.
الرواية تكشف عن جراح النساء العميقة، لحظة مواجهة المرض الذي يهدد كيانهن وأنوثتهن. تتساءل إحداهن: "ما الغرض من المرض؟". إن الجمال، كما تقترحه الرواية، ليس في المظهر الثابت، بل في القدرة على احتضان التحولات، في الشجاعة لمواجهة صورة الذات المتغيرة، وفي القبول بأن الكمال ليس سوى وهم اجتماعي. هذه المواجهة بين الجمال والمرض ليست إلا مرآة لمعركة أعمق تخوضها المرأة ضد ثقافة استهلاكية، تصر على حصر قيمتها في مظهرها الخارجي.
لكن في مقابل هذا كله، تعد عائشة أن أفضل ما حدث في حياتها هو المرض، تقول: "لو سألتني الآن، إذ عاد بي الزمن هل تقبلين المرور بالتجربة بكل ما بها من مآس؟ نعم.. رباني ربي بصدق... درجات من القوة، إلى الضعف والعجز، كلها تربية وتأهيل للروح. كانت الرسالة الإلهية أن أولوياتي في حاجة إلى إعادة ترتيب، أولاً علي الاقتراب من الله، فكم كنت مغرورة بشكل مبالغ فيه، بصحتي وشبابي وعملي، لدرجة أني كنت أرى نفسي أفضل من الذين حولي".
حالة صوفية
منذ الصفحات الأولى، تسيطر على النص حالة صوفية شفيفة، تتشابك مع الفن، مثل: المنع هو عين العطاء، و"الكشف له أوان وسبب، ليس كل مجهول تتحمل عقولنا وقلوبنا رؤيته، تماماً كالفرق بين البصر والاستبصار"، هذه الأفكار تتداخل مع فكرة حضور المطر على مدار النص، وهذا يتناقض مع طبيعة طقس القاهرة، بحيث يجعلنا نتخيل أن الطقس الداخلي في استدعاء الغيث، هو ما تحلم به البطلات، يعزز هذا عناوين الفصول التي تشير إلى ذلك مثل: "أربعينيات الشتاء"، "قبل سقوط المطر" "طفي الشراقي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقوم أسلوب الكاتبة على التشويق السردي السلس، ضمن فصول قصيرة، تنتقل بخفة من بطلة إلى أخرى، على رغم أن القارئ يحتاج إلى تركيز دقيق ليتابع حركة انتقال السرد، لأن المونولوغات الداخلية تبدو متشابهة في بعض الأحيان، كونهن جميعاً يتحدثن عن حالات فيها كثير من التقاطعات النفسية.
حضور ذكوري
تتوارى الشخصيات الذكورية خلف المشهد، يبدو حضورها واهناً، كما هي حال الطبيب يحيى، في علاقته مع صفا، صاحبة "بيت حكي"، أو أمجد المريض بالسرطان الذي تلتقي به رقية في إحدى الجلسات، أو زوج نور الذي يعارضها في نزع الرحم رغم أن بقاءه خطر يهدد حياتها. ربما بدت شخصية إبراهيم زوج أمل، على رغم صغر مساحته السردية، من أكثر الشخصيات تأثيراً وحضوراً في الذهن، بسبب إعطائه مساحة للبوح عن فكرة الحياة مع امرأة مصابة بالسرطان، ثم معاناته بعد رحيلها. لنقرأ "نحن الرجال نفتقر إلى مراكز الدعم، ونضطر إلى عبور رحلة علاج السرطان بمفردنا. أضف إلى ذلك مجتمعاً الغلبة فيه لعدم السماح للرجال بإظهار مشاعرهم، بحجة أن ذلك يوصمهم بالضعف وقلة الحيلة. إضافة إلى أن البعض يعتبر الحديث عن كل تلك المخاوف أنانية مقارنة بما تمر به زوجته".
تختتم الكاتبة روايتها بصوت المعالجة بالفن صفا، وهي موجودة في مكانها "بيت حكي" بعد موت رقية وأمل، في مشهد غامض تطفئ الأنوار وتتجه إلى كتلة الصلصال، تشعل شمعة برائحة اللافندر، وتبدأ في تشكيل الطين في العتمة، تقول: "عجيب أن ما تتذكره يدي، لا يتذكره عقلي، لم تكن مشكلتنا مع المرض، لكن مع ما تركه المرض على نفوسنا، أو بمعنى أدق على مشاعرنا وتجاربنا الحياتية. هل الألم نعمة أم نقمة؟ الأمور نسبية ولكل حقيقة وجهان أو عدة أوجه".
تذهب شيماء عاشور إلى أن الألم ليس النهاية، بل بداية الكشف، وأن الشفاء لا يعني بالضرورة الانتصار على المرض فيزيائياً، بل ربما يكمن في اكتساب وعي أعمق بالذات والعالم. وهكذا، يصبح "بيت حكي" في الرواية رمزاً لمكان رمزي أوسع، مكان حيث تشفى الأرواح بالكلمات، وتلتقي فيه النساء في أضعف حالاتهن ليكتشفن أن الهشاشة قد تكون وجهاً آخر للقوة.
يذكر أن الكاتبة شيماء عاشور، مهندسة معمارية وتعمل حالياً بالتدريس في كلية العمارة والتصميم في جامعة الأمير سلطان في الرياض، ولها كتاب بعنوان: "إطلالة على المعماريين الرواد خلال الفترة الليبرالية بين ثورتي 1919 و1952".