ملخص
يبحث المؤرخ وأستاذ الدراسات الإيطالية ميشال بريتالّي والصحافي الاستقصائي جيوفاني زاغني عن جذور الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي في كتابهما المثير للاهتمام "تاريخ التضليل الإعلامي، الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة من زمن الفراعنة إلى شبكات التواصل الاجتماعي" الصادر حديثاً في باريس عن منشورات "ميميسيس" (2025).
يعيد المؤلفان في هذا الكتاب الفريد قراءة 12 حقبة من حقبات التاريخ من زاوية الكذب والخداع والتلاعب بالحقيقة وتحريفها، مؤكدَين بعبارات قاطعة أن التضليل الإعلامي، على رغم اختلاف أشكاله وأهدافه، كان دائماً جزءاً من تاريخ البشرية.
ولعل أقدم مثال معروف على الخداع يعود إلى مصر القديمة، إلى زمن الفرعون أمنحوتب الرابع، أي قبل 14 قرناً من الميلاد، حين حوصرت مدينة بيبلوس أو جبيل الفينيقية من قِبل أعداء الفرعون المصري. حينها تلقى البلاط الفرعوني رسالتين متضاربتين، إحداهما موقعة من قبل الخصوم، تدّعي أن وباء الطاعون المنتشر في المدينة قد ينتقل إلى الجيش المصري إن أرسل الفرعون قواته إليها. والثانية موقعة من قبل حليفه ملك بيبلوس، تُنكر وجود المرض، لا بل تتوسل الفرعون إرسال تعزيزات عسكرية لمساندته. فأي الروايتين صحيحة؟ لا أحد يعلم. لكن، بما أن الروايتين متناقضتان، فلا بد أن إحداهما في الأقل هدفت إلى تضليل الفرعون، تماماً كما تفعل الأخبار الزائفة في أيامنا، على ما يشير المؤلفان في كثير من المقارنات الجريئة التي يعقدانها بين الماضي والحاضر.
إذاً، من الرسائل الموجهة إلى الفرعون المصري وصولاً إلى بروتوكولات حكماء صهيون، يصطحب هذا الكتاب القارئ في رحلة عبر حكايات كاذبة تركت أثرها في التاريخ. بعضها انتشر بنية صادقة، لكن معظمها حمل نوايا سياسية أو أيديولوجية محددة غيّرت مسارات أمم بأكملها، قبل زمن طويل من ابتكار مصطلح "الأخبار الكاذبة" الذي وُلد مع المعلومات وتطورت أساليبه تبعاً لتقنيات الاتصال المتاحة.
حصان طروادة
يتألف القسم الأول من الكتاب من 18 فصلاً تروي مجموعة من الوقائع الشهيرة المرتبطة بالتضليل الإعلامي كحيلة حصان طروادة أو الوثيقة المزورة التي نُسبت إلى الإمبراطور قسطنطين الكبير التي ادّعت أنه تنازل عن سلطاته الزمنية والروحية لصالح الكنيسة؛ وأخرى أقل شهرة، مثل نظرية الراهب اليسوعي جان هاردوين الغريبة، التي زعمت أن الأعمال الأدبية والفنية القديمة، باستثناء مؤلفات هوميروس وهيرودوتس وشيشرون، و"التاريخ الطبيعي" لبلينيوس"، وقصيدة ڤرجيليوس المطولة "الفلاحيات"، و"هجائيات" و"رسائل" هوراسيوس، فإن جميع الكتابات الكلاسيكية اليونانية والرومانية القديمة هي نصوص خطّها رهبان من القرن الـ13 تحت إشراف شخص يُدعى سيفيروس أرخونتيوس ونُسبت إلى أولئك الكتّاب والشعراء، منكراً أصالة معظم الأعمال الفنية والنقوش القديمة، وهي نظرية سرعان ما تراجع عنها عام 1709، أو تلك الشائعة التي زعمت وفاة نابليون بونابرت وتسببت بانهيار بورصة لندن عام 1814، أو قضية الضابط دريفوس التي قسّمت فرنسا في نهاية القرن الـ19، والتي تميزت بنشر أدلة مزيفة وشائعات هدفت إلى اتهام النقيب بالتجسّس، إلخ.
هذا يعني أن التضليل الإعلامي، أكان عن قصد أو عن غير قصد، ليس ظاهرة جديدة. فهو على تعدد أنواعه موجودٌ منذ العصور القديمة، وأن العصور الوسطى كانت عصور ازدهار للتزوير والخداع، وأن الافتراءات التي شاعت في أوساط النخبة في عصر النهضة، أدى بعضها إلى مبارزات قاتلة.
أما القسم الثاني من الكتاب الموسوم "كيفيّة التصدّي للمعلومات المضلّلة اليوم" فيتوقف أمام الحاضر، أي أمام تنامي هذه الظاهرة منذ القرن الـ20 حتى يومنا هذا، مقدماً لقرّائه دليلاً صغيراً مليئاً بالنصائح والمنهجيات الأساسية التي تساعد على التحقق من الأخبار والمعلومات التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي والتي أصبحت مرتعاً خصباً لنشر الأخبار الوهمية والشائعات، مشدداً على تصاعد وتوّسع وانتشار هذه الظاهرة، مع تنامي الإعلام الإلكتروني وتطبيقات الإنترنت المختلفة التي زادت من سرعة تداول الأخبار وصعوبة احتوائها أو حذفها أو تدارك تداعياتها ودخول جميع الناس على خط صناعة الخبر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتوقف الباحثان كذلك أمام استخدام التضليل الإعلامي كأداة سياسية لتشويه سمعة الخصوم السياسيين وترسيخ السلطة القائمة وخداع الرأي العام وتأثيره في المجتمعات الديمقراطية، محذرين من الأخطار التي تهدد هذه الأنظمة بسبب انتشار الأكاذيب والتلاعب بمواقف المواطنين. كذلك يتناول تعدد أساليب هذا التضليل كنشر الأخبار الكاذبة، أو المبالغة في عرض بعض الأحداث، أو إخفاء معلومات مهمة قد تغير من فهم الناس للواقع.
الإعلام المهني
وإذ يعالج الباحثان موضوع الحاجة إلى التصدي للتضليل الإعلامي، فإنهما يشددان في الوقت عينه على أهمية التوعية والتعليم وتعزيز ثقافة التحقق من المصادر وابتكار إستراتيجيات فعّالة للحد من أخطار وتأثير انتشار الأخبار الكاذبة ومساعدة الأفراد على تنمية حسّهم النقدي وتطوير مهاراتهم الفكرية. وإن ينسى المؤلفان، فلا ينسيان قضية دعم الإعلام المهنيّ الملتزم المعايير الأخلاقية، فيتحدثان عن المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق الإعلاميين والصحافيين وتعهّدهم بعدم نشر الأخبار الملفقة، بل المعلومات الدقيقة والموثوقة مصادرها التي تخدم المصلحة العامة وتمنع انتشار التضليل والتلاعب بالناس، لا سيما في حقبات التأزم، خوفاً من تعزيز الانقسامات وبثّ الذعر وحمل الأفراد على اتخاذ قرارات خاطئة وخطرة قد تؤثر في حياتهم. ويقول المؤلفان أيضاً إن الأخبار الكاذبة أو المضلّلة التي يتم نشرُها بهدف التلاعب بالرأي العامّ أو إثارة الخوف أو التسويق لأفكار معينة لا تندرج في إطار حق التعبير المشروع عن الاختلاف السياسي، مؤكدين أن الخبر ليس رأياً أو وجهة نظر أو تعليقاً على أحداث معينة.
يقدم كتاب "تاريخ التضليل الإعلامي" دراسة ممتعة وعميقة لصناعة الخبر، كاشفاً النقاب عن ظاهرة بالغة الحساسية: تطوّر الخداع الإعلامي من الأزمنة الغابرة وحتى العصر الرقمي. يتتبع الكتاب كيف استُخدمت الأكاذيب وتحريف الحقائق عبر التاريخ لأغراض سياسية واجتماعية واقتصادية، وكيف أسهمت هذه الأساليب في توجيه مسار الأحداث وصياغة مصائر الشعوب. إنها قراءة نقدية لظاهرة قديمة قِدم المجتمعات ذاتها، غير أنها في عصرنا الحديث اكتسبت أشكالاً أكثر تعقيداً وخطورة بفعل التكنولوجيا وانتشار الوسائط الرقمية.
إن قراءة هذا العمل الذي حمل توقيع الأكاديمي ميشال بريتالّي والصحافي جيوفاني زاغني، تحمل فائدة جمة ومتعة فكرية. ذلك أن الكتاب أشبه بدليل عملي موجَّه إلى الجميع، سواء من المتخصصين أو عامة القراء، يمنحهم فرصة لإعادة النظر في الطريقة التي يتعاملون بها مع المعلومات، مهما كان مصدرها. ويساعد على بناء مناعة فكرية في وجه سلاح التضليل الإعلامي، الذي لا يزال يحصد ضحاياه في عالم تتكاثر فيه الأزمات وتتعقّد خيوط الواقع. فالتلاعب بالحقائق لم يعد مجرد خطر عابر، بل تهديد دائم يمس جوهر الوعي العام والاستقرار الاجتماعي.