ملخص
قد يكون دي فانس يحب بلاده، وهذا لا شك فيه، لكن رؤيته القومية تهدد بتقليص أحلام وطموحات أميركا، وستهدر فرصة جعل أميركا عظيمة بصورة حقيقية مرة أخرى.
هل أميركا فكرة أم وطن؟ هذا السؤال أثير طويلاً جداً خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الماضية، لا سيما أنه يتعلق بما إذا كان ينبغي على الأميركيين مواصلة التركيز على القيادة العالمية وتطبيق المبادئ العالمية، أم الانكباب على الاهتمام بمصالحهم الخاصة .
في خطاب انسحابه من سباق الرئاسة، وصف الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن أميركا بأنها "أقوى فكرة في التاريخ"، وبأسلوب يحاكي نهج الجمهوريين، مثل رونالد ريغان، قال بايدن إنها "فكرة أقوى من أي جيش، وأوسع من أي محيط، وأقوى من أية ديكتاتور أو طاغية".
لكن على الجانب الآخر، كان من الواضح أن حزب ترمب الجمهوري يبتعد من هذا النوع من الخطاب، ففي المؤتمر الجمهوري كان المرشح لمنصب نائب الرئيس، السيناتور الشاب جي دي فانس، يؤكد أن أميركا "ليست مجرد فكرة" بل وطن، مستحضراً مقبرة جبلية شرق كنتاكي، حيث قال إن أجداده دفنوا، وأقوى من أي ديكتاتور أو طاغية.
في ذلك الوقت استنكر بعض منتقديه على الفور تلك الإشارات إلى أرض عائلته ونسبها، معتبرين أنها قومية "الدم والأرض" المشفرة، وهي أيديولوجية تعود للنازيين.
وخلال يوليو (تموز) 2024 وعبر مجلة "ذا أتلانتيك"، اتهم الكاتب والصحافي آدم سيروير، جي دي فانس بإظهار "رؤية إقصائية أميركية"، عندما أكد أن الولايات المتحدة بلد يتألف من أناس يتشاركون تاريخاً وليست "أمة عقائدية، أمة تقوم أساساً على أفكار كالحرية والمساواة".
كتب سيروير، "إذا كانت أميركا أمة عقائدية فبإمكان أي شخص أن يكون أميركياً، إما إذا كان الأميركيون الحقيقيون هم أولئك الذين يتشاركون تاريخاً محدداً، فإن بعض الأميركيين أكثر أميركية من الآخرين".
بدا ذلك المفهوم مثيراً لتغيير رؤية أميركا، من "بوتقة انصهار"، وأمة مهاجرين، إلى جماعة ذات ملامح ومعالم بيوريتانية تتضمن الواسب فقط غالب الأمر، أي الأميركيون البيض الأنغلو ساكسون. والسؤال هنا، لماذا العودة إلى مشاغبة هذا الطرح الكفيل بأن يعمق الشرخ الحادث في جدار المجتمع الأميركي؟
دي فانس وتكريم معهد كليرمونت
في الخامس من يوليو الماضي شهد معهد كليرمونت في سان دييغو بولاية كاليفورنيا، تكريماً لنائب الرئيس فانس ومنحه جائزة "رجل الدولة" المرموقة خلال حفل عشاء، جرى فيه إطلاق سلسلة فعاليات "أجندة العصر الذهبي" للمعهد عينه والمخصصة لتجديد العظمة الأميركية من خلال القيادة والحرية والرؤية الوطنية والإحياء الثقافي .
يعد معهد كليرمونت أحد أهم المراكز البحثية الأميركية ذات الطابع المحافظ، وكان من أوائل المدافعين عن دونالد ترمب، بعد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020، ورفض ترمب الاعتراف بالهزيمة، كما ساعد زميل معهد كليرمونت جون إيستمان ترمب في محاولاته لقلب نتائج الانتخابات .
ينشر معهد كليرمونت ومجلة "كليرمونت ريفيو أوف بوكس" والعقل الأميركي وبودكاست القصة الأميركية وكتب كليرمونت، وجميعها تشاغب العقل اليميني الأميركي بامتياز.
تكرم جائزة معهد كليرمونت للحنكة السياسية الشخصيات العامة التي تتميز بالشجاعة والحكمة والتفاني في خدمة النظام الدستوري الأميركي، وفي مبررات فوز دي فانس بالجائزة، شجاعته ووضوحه والتزامه الراسخ مبادئ التأسيس الأميركي، وقيادته الجريئة في "عصر من التدهور المؤسسي والارتباك الأيديولوجي"، على حد وصف رئيس المعهد رايان بي ويليامز.
وقال رايان ويليامز في خطاب عشاء الاحتفال، "نائب الرئيس فانس قائد يسعى إلى استعادة فن إدارة الدولة المفقودة، مقيماً التحديات الأكثر إلحاحاً التي تواجه أميركا ومواجهتها بواقعية وعزيمة. إنه رجل ممتن لما ورثناه، وعازم على البناء عليه مع إخوانه الأميركيين". وأضاف، "كنا فخورين بتكريم روحه العامة واعتداله، وهو يواصل رسم معالم العصر الذهبي القادم لأميركا".
ما الذي احتواه خطاب نائب الرئيس الأميركي في تلك الأمسية، ولماذا هيمنت عليه روح "الصحوة الكبرى الثالثة للأمة الأميركية"، وفقاً لموادها الترويجية، التي باتت تخيم على سماوات الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة؟
عن أميركا أمة تاريخ الدم والأرض
يصعب أن نسرد ونعرض ما جاء في خطاب فانس المطول، لكن يمكن القطع بأنه بصورة أو بأخرى، جاء ليخلق شقاقاً واسعاً بين الأميركيين وبعضهم بعضاً، وكأنه كان معداً لتعميق حال الاستقطاب السياسي في المجتمع الأميركي .
استخدم فانس كمدخل قضية فوز زهران ممداني بالانتخابات التمهيدية لمنصب حاكم نيويورك، معتبراً أن الأمر يمكن تفسيره على أنه موجة من تعاظم الحضور اليساري، بل أبعد من ذلك إعادة نشوء وارتقاء للشيوعية التي ماتت في بلادها، ضمن حاضنة أميركية جديدة.
في صلب خطابه وجه فانس اللوم والتقريع لليسار المتطرف، الذي وصفه بأنه لا يكترث لحقيقة أن حركة "حياة السود تهم" مما أدى إلى ارتفاع حاد في جرائم العنف في الأحياء الحضرية للسود، وقد فعلت ذلك بالفعل، لأن الحركة نفسها أدت إلى فوضى في أحياء البيض من الطبقة المتوسطة. ولا يكترثون ـ على حد تعبيره حرفياً ـ لكراهية الإسلام المثليين جنسياً واستعباده النساء، لأنه حتى الآن، لا يزال أداة فعالة لإسقاط الأميركيين، ولا يكترثون لثراء كثير من شركات الأدوية من العلاجات الهرمونية التجريبية، لأنهم في هذه العملية يدمرون ما يسمى الثنائية الجندرية التي شكلت العلاقات الاجتماعية بين الجنسين في الحضارة الغربية بأسرها.
ما الحنكة السياسية في تقدير فانس؟
بحسب ما جاء في خطابه عبر معهد كليرمونت، فإن إحدى أهم مهام الحنكة السياسية هي إدراك ما يريده الطرف الآخر، أي اليسار المتطرف، لأميركا عام 2025.
وعنده أن أهم ما في الحنكة السياسية هو العمل من أجل شيء ما، ويعتقد جازماً أن هذا هو أهم ما ميز حملة الرئيس ترمب الرئاسية الأخيرة.
ويؤمن دي فانس بأن اليسار يريد تدمير أميركا، كما يفعل ممداني في نيويورك، ولهذا يقول، "علينا أن نبني، ليس فقط على مدى الأعوام القليلة المقبلة، بل على مدى الجيل القادم".
وأوضح طريقة عند دي فانس لتحقيق ذلك، هي "ضمان حياة أفضل لمن نخدمهم في البلد الذي بناه آباؤهم وأجدادهم".
هل هي العودة إلى متوشالح، على حد وصف الأديب الإيرلندي الكبير برنادر شو، بمعنى العودة إلى أميركا الأولى ذات التوجهات البيوريتانية الطهرانية، حيث الإيمان المطلق بفكرتي أو مفهومي "القدر الواضح" و"المدينة فوق جبل".
ربما الجواب يقودنا إلى معنى ومبنى مفهوم القومية الأميركية كما يراه دي فانس... ماذا عن ذلك التوجه الفكري، وهل يجمع عليه كل الأميركيين من ديمقراطيين وجمهوريين، وربما أصحاب الطريق الثالث؟
القومية العقائدية ومن هو الأميركي
يمكن القول من دون تهوين أو تهويل، إن خطاب دي فانس، يعد أحد أهم، وربما أخطر الخطابات التي جرت بها المقادير في الداخل الأميركي، منذ بداية الألفية الثالثة، أما السبب في ذلك، فهو أنها جرأت على فتح ملف شائك بل ملغم، حاول الجميع الابتعاد عنه عقوداً طوالاً، ملف الهوية الأميركية.
يبدو إشكال الهوية في واقع الحال متجاوزاً الداخل الأميركي، ويمتد إلى ما وراء المحيطات، ففي زمن العولمة، ثم الذكاء الاصطناعي تبدو هناك صعوبة شديدة في تقديم مفهوم واحد مجرد عن الهوية، فالمرء يولد في رقعة جغرافية من العالم، ثم ينشأ في وسط معطيات أممية تنقلها إليه وسائل التواصل الاجتماعية، وفيما يحتفظ بلسان المولد، يجد نفسه مدفوعاً للتكلم بلغات وألسنة أخرى للتثاقف مع العالم، وقد تكون رؤاه العقائدية مغايرة لجيرانه الجغرافيين والديموغرافيين، إلى آخر المقابلات الهوياتية التي تخلق عالماً أكثر صعوبة في بلورته في سياق ذهني واحد.
كيف ينظر دي فانس لفكرة القومية الأميركية والهوية الموروثة من زمن الأنغلو ساكسون حتى اليوم؟
الشاهد أن دي فانس يفتح الباب واسعاً عمن هو الأميركي، ويضيف "أكره قول ذلك، لكن قليل من قادتنا لديهم إجابة شافية، هل هو مجرد اتفاق مع المبادئ العقائدية الأميركية؟". الجواب من على لسانه "أعلم أن معهد كليرمونت مكرس للرؤية التأسيسية للولايات المتحدة الأميركية، إنها رؤية تأسيسية جميلة ورائعة، لكنها لا تكفي وحدها" .
تكاد هذه الجملة الصغيرة تكون انقلاباً حياتياً وفكرياً غير مسبوقين في الداخل الأميركي... هل رؤية الآباء المؤسسين غير كافية؟ أيعني هذا تغيير الأوضاع وتبديل الطباع بدءاً من وثيقة الاستقلال مروراً بالدستور الأميركي وصولاً إلى البنى الهيكلية للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، تلك التي عمد المؤسسون أن تراقب الواحدة الأخرى، حتى لا تعرف الديكتاتورية طريقها إلى قلب الداخل الأميركي؟
يرى دي فانس أنه إذا فكرت في الأمر، فإن تعريف أميركا بالموافقة على مبادئ إعلان الاستقلال، مثلاً، هو تعريف مفرط في الشمول وقاصر في آن واحد... فماذا يعني بذلك؟ يعني أن أميركا أمة عقائدية بحتة، أميركا فكرة بحتة... هذا ما سيقود التفكير الهوياتي إليه، لكن في الوقت عينه سترفض هذه الإجابة أيضاً من كثير ممن تصنفهم رابطة مكافحة التشهير (أي دي أل)، بالمتطرفين المحليين، حتى هؤلاء الأميركيين أنفسهم كان لهم أسلاف قاتلوا في الحرب الثورية والحرب الأهلية.
هنا يبدو دي فانس وكأنه يعود من جديد ليعزف على أوتار التشكيك في نيات وتوجهات اليسار الأميركي، معتبراً إياه مصراً على أنه "لا مكان لك في أميركا إلا إذا وافقت على الليبرالية التقدمية عام 2025، فيما أن من قاتل أسلافهم في الحرب الأهلية لديهم حق أكبر بكثير في أميركا ممن يقولون إنهم لا ينتمون إليها".
هل هنا كارثة حقيقية على الرؤية الأميركية للمواطنة، انطلاقاً من فكرة مواطن أرقى أو أعلى من مواطن آخر في الانتماء للوطن الأميركي؟
تبدو إذاً إحدى أكثر المشكلات إلحاحاً التي يواجهها رجال الدولة في الداخل الأميركي – أو هكذا يدعي دي فانس – إعادة تعريف معنى ومبنى المواطنة الأميركية في القرن الـ21.
لكن هل يمتلك نائب الرئيس بالفعل إجابة شاملة عن السؤال المتقدم، وفي ضوء تلك الرؤية يمكن معرفة إلى أين تتجه بوصلة السياسات الأميركية، في بقية زمن إدارة ترمب أول الأمر، وتالياً بعد نهاية تلك الولاية، والوصول إلى نقطة الترشح للرئاسة الأميركية القادمة؟
أحلام الرئاسة 2028 والمواطنة الأميركية
هل جاءت جائزة رجل العام من معهد كليرمونت لجي دي فانس عشوائية أم أنها ضمن سياق يعرفه الراسخون في العلم الأميركي، وكيف تجري عملية صناعة النجم؟
هناك يقين لدى كثر أن العمل جارٍ على قدم وساق لتحضير جي دي فانس للمعركة الرئاسية الانتخابية عام 2028، وهو ما ظهر من خلال استطلاع رأي كلية إيمرسون في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس، أواخر يونيو (حزيران) الماضي، إذ حصل دي فانس على 46 في المئة من الأصوات، بينما حل منافسه وزير الخارجية ماركو روبيو في المرتبة الثانية لكن بفارق كبير، إذ لم يحصل إلا على 12 في المئة من أصوات الاستطلاع، وحاكم فلوريدا رن دي سانتس على تسعة في المئة، ثم وزير الصحة والخدمات الإنسانية روبرت كينيدي جونيور وهو مستقل على خمسة في المئة، ثم وزير الأمن الداخلي كريستي نويم، وفي آخر النتائج سفيرة الأمم المتحدة السابقة نيكي هيلي على اثنين في المئة.
هنا يعن لنا أن نتساءل ومن غير فكر المؤامرة، هل كان خطاب معهد كليرمونت خطاباً ما ورائياً، بقصد إظهار الرؤية الحقيقية لأميركا كما يأمل دي فانس أن تكون؟
يرى دي فانس أن المواطنة الأميركية تعني أول الأمر وآخره "السيادة"، لكن سيادة من على من، وهل الأمر يعني الداخل الأميركي فقط أم نطاق "مونرو" في النصف الغربي من الكرة الأرضية، أم أن تلك السيادة تعني ما هو وراء المحيطين الكبيرين اللذين يحدان الولايات المتحدة بأكملها من الشرق والغرب؟
المقصود بالسيادة، بحسب الرجل الثاني في إدارة ترمب، هو أن تعني المواطنة الأميركية الانتماء إلى أمة تحمي سيادة شعبها، لا سيما في ظل عالم حديث عازم على تذويب الحدود وتجاوز الاختلافات في الهوية الوطنية.
يعني هذا بالنسبة إلى دي فانس، وجود حكومة تدافع بقوة عن أساسات السيادة، وتحمي حدودها من الغزو الأجنبي، وتحمي مواطنيها ومؤسساتهم من المخططات الضريبية الأجنبية الجائرة، وتقيم جدراناً أمنية وحواجز مماثلة لحماية صناعات شعبها، وتتجنب توريطهم في حروب بعيدة وممتدة.
على أن أكثر ما أثار الجدل وربما المخاوف في كلمة دي فانس تأكيده أن أميركا "ليست مجرد فكرة، بل هي مكان خاص بشعب خاص ومعتقدات وأسلوب حياة خاص".
حاول دي فانس أن يجد تبريراً عقلانياً للفكرة بقوله "أدرك أسلافنا أن بناء أمة ناجحة من أرض جديدة يعني خلق أشياء ملموسة جديدة ومنازل جديدة ومدناً جديدة، وبنى تحتية جديدة لترويض قارة جامحة. هذا هو تراثنا كأميركيين. هذا الموقف مكننا من بناء أعظم مدن العالم، وأطول ناطحات السحاب، وأروع السدود والقنوات التي شهدها العالم على الإطلاق".
هل حملت الكلمة عينها لمسات أو لمحات من أحاديث تنبئ بعنصرية عرقية قائمة وربما قادمة بأسوأ صورة؟
يقر دي فانس بأن المواطنة تعني الاعتراف بالعلاقة الفريدة، وكذلك الالتزامات المشتركة بين القيادة والشعب الأميركي، لكن كلمة الشعب هنا، تعني المواطنين الأميركيين، أحفاد الأسلاف الأولين. من هنا يتبدى الشك في رؤية دي فانس للآخرين، حتى وإن لم يرق إلى مقولة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "الآخرون هم الجحيم".
يقول دي فانس "لا يمكنك استبدال 10 ملايين شخص من أي مكان آخر في العالم وتتوقع بقاء أميركا على حالها".
وبالمثل، لا يمكنك تصدير الدستور، كلماته المكتوبة على ورقة، إلى أي بلد عشوائي، وتتوقع أن يسود النوع نفسه من الحكومة. هذا ليس أمراً يدعو إلى الرثاء أو الحزن، بل هو أمر يدعو إلى الفخر. إنها لحظة تاريخية مميزة، مع مكان مميز وشعب مميز .
هل هذه أميركا الانعزالية التي يدعو إليها دي فانس تحت عنوان أرض الدم، ذات الإرث الخاص، المنسحبة من مشهد القيادة العالمية، في خطوة تعزز فكرة "أميركا أولاً"، وربما تالياً "أميركا فوق الجميع" كرجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لتجربة ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الـ20؟
السؤال يحتاج إلى محاولة معمقة لفهم وهضم خطاب معهد كليرمونت، لا سيما أن النائب الشاب يرى أن أميركا اليوم جميلة لكن متناقضة وغير مكتملة، ويبدو أنه تأثر بصورة أو بأخرى برؤية ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر حول فكرة "أميركا دولة مترددة".
على أن علامة الاستفهام الحقيق بنا أن نشاغبها، "هل انساق الأميركيون وراء فكر دي فانس القومي كما تجلى خلال يوليو الماضي، أم أن هناك أصواتاً مغايرة ارتفعت بالنقد الشديد واللاذع لهذا المنظور الفكري ذي الصفات القومية التي تخيف كثراً من أن يكرر التاريخ الأوروبي نفسه في أميركا؟".
رؤية خطرة على الأمة الأميركية
من أكثر الأصوات التي ارتفعت بالضد من رؤية جي دي فانس، صوت السفير الأميركي دانيال فريد، الزميل المتميز من عائلة وايرز في المجلس الأطلسي وسفير الولايات المتحدة السابق لدى بولندا .
عبر مجلة "ناشونال أنترست" كتب فريد تحت عنوان "رؤية جي دي فانس الخطرة للأمة الأميركية"، يقول في خطابه "بدا دي فانس وكأنه يعيد تعريف أميركا من الأسفل إلى الأعلى، وفي كلماته بدا واضحاً أنه يتراجع عن إنجاز أبراهام لنكولن العميق: ليس فقط الفوز في الحرب الأهلية، بل إعادة بناء الأمة ليس كجمهورية الرجل الأبيض بل أمة جديدة حبلت بالحرية ومكرسة لمبدأ أن جميع البشر خلقوا متساوين. إن حجة نائب الرئيس من شأنها أن تنقض معنى خطاب غيتسبيرغ، الخطاب الذي أعاد أميركا إلى مبادئها الأميركية التي نحبها جميعاً".
أحد الأسئلة التي ترددت كثيراً على ألسنة الأميركيين خلال يوليو الماضي وعقب خطاب معهد كليرمونت، هل في الأمر مفاجأة صادمة للأميركيين أم أن ما جاء به دي فانس هذه المرة يتسق طولاً وعرضاً ومساحة إجمالية مع رؤاه التي لم يضن بها في مناسبات بعينها؟
بالقطع ما من مفاجأة بالمرة، فقد سبق لنائب الرئيس فانس أن طرح هذه الحجة. ففي خطاب قبوله في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري عام 2024، أكد أن "أميركا قامت بالفعل على أفكار نيرة... لكن أميركا ليست مجرد فكرة... إنها أمة... لن يقاتل الناس من أجل مفاهيم مجردة، بل سيقاتلون من أجل وطنهم". وفي وصفه الوطن، وصف فانس، المرشح آنذاك المقبرة في شرق كنتاكي، حيث دفنت أجيال من عائلته، وصفاً مؤثراً للمدفونين هناك بـ"هؤلاء الناس... تلك الأمة الأميركية الني نحبها جميعاً".
هل في افتراضات دي فانس تجاوز للواقع؟
يتصدى السفير فريد للجواب، معتبراً أن دي فانس ببلاغته أن الأمة الأميركية تبنى على دم مشترك "تراث"، لا على أفكار مجردة، غير أن هذه فكرة قديمة عن الأمة وتتناقض مع تعريف أبراهام لنكولن للولايات المتحدة بأنها ترتكز على "حقيقة مجردة تنطبق على جميع البشر وفي كل زمان... توبيخ وحجر عثرة لمن ينذرون بعودة الطغيان والقمع. وقد استمد لنكولن إيمانه بأن المبدأ الأساس لبلاده هو المساواة بين البشر من قناعاته بأن العبودية خطأ أخلاقي لا شك في ذلك" .
وسع لنكولن حجته حول المساواة بين البشر لتتجاوز العبودية، ففي خطاب ألقاه في شيكاغو عام 1858، أشار إلى أن المهاجرين "ربما نصف شعبنا"، لا تربطهم صلة دم ولا إرث مشترك مع الأميركيين الذين سبقوهم، لكنه تابع قائلاً "عندما يكتشفون مبدأ إعلان الاستقلال القائل بأن الجميع خلقوا متساوين، يجدون ’أنه أساس كل مبدأ أخلاقي فيهم وأن لهم الحق في المطالبة به كما لو كانوا من دم ولحم الرجال الذين كتبوا ذلك الإعلان، وهو كذلك‘. عرف لنكولن الأميركيين بأنهم أمة قائمة على الإيمان، أمة ذات عقيدة، وأمة جديدة، نظام جديد آمن".
يهاجم دي فانس تأكيد لنكولن أن أميركا أمة قائمة على المبادئ، ويجادل بأنها لا يمكن أن تكون "أمة عقائدية"، فلو كانت كذلك، لضمن مئات الملايين وربما مليارات من المواطنين الأجانب الذين يتفقون مع مبادئ إعلان الاستقلال كما سبقت الإشارة.
غير أن هناك من المراقبين السياسيين الأميركيين من يرون أن هذه مجرد حيلة خطابية بالطبع. قليلون، إن وجدوا، من يجادلون بأن حدود أميركا ستكون مفتوحة لأي شخص وكل من يشارك التفاني الأميركي للحرية.
يقول هذا الفريق إن الولايات المتحدة تستطيع، بل ينبغي عليها، فرض قواعد الدخول، ولكن هل من السيئ حقاً أن تحظى المبادئ التأسيسية لأميركا بدعم ربما مليارات حول العالم؟ لقد كانت الولايات المتحدة هذا النوع من الدول لأجيال، منارة تمثال الحرية والمدينة المتألقة على تل وآخر أمل للأرض، وقد استفادت من ذلك.
أميركا والتراجع عن بوتقة الانصهار
تبدو الولايات المتحدة الأميركية اليوم أمام مفصل طرق حقيقي، بين دعاة بوتقة الانصهار، تلك الرؤية التي شكلت الصورة الديموغرافية المعاصرة لها، وتلك الانعزالية التي تقطع بأن واشنطن ليست شرطي العالم أو دركه .
اعتبر المؤرخون الأميركيون وعلى رأسهم هوارد زين، الرجل الذي سطر التاريخ الشعبي لأميركا في مجلدات خالدة عدة، أن قوة المثل الأعلى الأميركي، وقدرته على إلهام الناس من جميع الأديان والجنسيات، لا تنبع من كون الأميركيين "شعباً خاصاً" له تراث مشترك - أمة ذات جذور عرقية كغيرها - بل من اختلافهم واستنادهم إلى ما ينطبق على جميع الناس وفي كل زمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الحصول على الجنسية الأميركية قد يكون إيماناً بمبادئ الأمة ووعودها، وقد انطبق هذا الشعور على المهاجرين الذين تصدروا مواقع القيادة عند لحظات بعينها، من أمثال هنري كيسنجر ومادلين أولبرايت وزيغينو بريجنسكي، وجميعهم كانت وطنيتهم متقدة، ليس أقلها لأنهم أدركوا الفرق بين ما تقدمه أميركا وما يهدده الطغاة.
أميركا نظام القواعد أم الهيمنة؟
هل جاء خطاب فانس ليشي بأن هناك أزمة أميركية عميقة تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد قراءة عابرة؟ قطعاً يبدو فوز ممداني في نيويورك نوعاً من الزلزال المجتمعي لتيار فانس، إذ أظهر تحالفاً من "الناخبين ذوي الدخول المرتفعة والمتعلمين جامعياً"، مما يعني أن هناك حالاً من الإغراق في الليبرالية تنسحب على الديمقراطيين والجمهوريين دفعة واحدة.
مخاوف فانس الحقيقية، التي لم يكشف عنها صراحة، تمثلت ولا تزال في أن يضحى الرجل الأبيض أقلية عددية في المدى الزمني المنظور، الذي يحدده عدد من علماء بعام 2040 .
هل هي ردة حضارية عن أميركا التي شكلها المهاجرون البيض قبل نحو ثلاثة قرون؟
يمكن بالفعل أن يكون الأمر على هذا النحو، غير أن ذلك يفقد أميركا ربما أقوى أسلحتها ذلك التنوع الخلاق. لقد تسلمت أميركا قمة العالم عندما صدرت للعالم مبادئ ودرو ويلسون الـ14، وهو أول تعبير شامل عن إستراتيجية أميركية قائمة على القيم .
كما كان ميثاق الأطلسي عام 1941 الذي أصدره فرانكلين روزفلت ونستون تشرشل، والذي دعا إلى نظام قائم على القواعد بدلاً من هيمنة القوى العظمى للخروج من الحرب العالمية الثانية، كان جوهر هذه الإستراتيجية هو رؤية إيجابية المجموع لزيادة الرخاء بدلاً من نموذج القوة العظمى المعتاد ذي المجموع الصفري .
خاضت الولايات المتحدة الحرب الباردة وانتصرت فيها باسم هذه القيم، لم تكن إستراتيجية خيرية أو مثالية فارغة، بل فهماً ماكراً بأن مصالح الولايات المتحدة ستتقدم بصورة فضلى جنباً إلى جنب مع مصالح الآخرين .
قد يكون دي فانس يحب بلاده، وهذا لا شك فيه، لكن رؤيته القومية تهدد بتقليص أحلام وطموحات أميركا، وستهدر فرصة جعل أميركا عظيمة بصورة حقيقية مرة أخرى.