ملخص
يقول منتجون لـ"اندبندنت عربية" إن تلك الصناعة توفر 100 ألف وظيفة وبكلفة متدنية للغاية والأرباح تتجاوز 100 في المئة.
في زاوية منسية من الريف المصري، يرقب محمد مصطفى باهتمام بالغ كيف تتحرك دودة القز في صمت، تمضغ أوراق التوت بنهم غريزي، وكأنها تدرك أنها تحمل فوق ظهرها خيوط حلم مؤجل، بعد عقود طويلة، نامت خلالها صناعة الحرير في شرنقتها، هامدة تحت وطأة الإهمال والمنافسة الرخيصة من الأسواق الآسيوية، حتى كادت مصر تنسى أنها كانت، ذات زمن، من أوائل منتجي هذا الذهب الناعم في العالم.
من رحم دودة القز، كانت مصر يوماً تنسج من الحرير تاريخاً من الفخامة والحرفية، إذ كانت من أوائل الدول التي عرفت أسرار هذه الصناعة، فازدهرت منسوجاتها وتألقت بين الأسواق، لكن شيئاً فشيئاً انسحب الخيط من النول، وتراجع الحرير المحلي تحت وطأة الإهمال، وإغراق الأسواق بخيوط مستوردة أقل كلفة، وأكثر وفرة... وأقل قيمة.
لماذا تدهورت صناعة الحرير في مصر؟
من الصين، تدفقت كميات هائلة من الحرير الرخيص، دفعت كثيراً من منتجيه في مصر إلى التخلي عن مهنتهم، بعدما ضاقت بهم السبل ولم يعد العائد يغطي حتى عناء تربية الديدان، فتآكلت المهنة، وذبلت شجرات التوت في صمت.
لكن القصة لم تنته، إذ بدأت صناعة الحرير تجد طريقها من جديد إلى النور، ولم تعد "دودة القز" حكاية من الماضي، بل مشروع للمستقبل.
تحركت جهات متعددة لإعادة إحياء هذه الصناعة، من الجذر إلى الخيط: زراعة التوت، وتغذية الديدان، وجمع الشرانق، واستخلاص الخيوط الناعمة التي كانت يوماً عنواناً للترف المصري.
لماذا يعد الحرير مهماً للاقتصاد المصري؟
ليس ذلك فحسب، بل امتدت النظرة الجديدة إلى ما هو أبعد من الخيط الرفيع، فالمخلفات الناتجة من دورة إنتاج الحرير تدخل اليوم في صناعات أخرى، منها مستحضرات التجميل والأسمدة الحيوية، في نموذج يراهن على التكامل والاستدامة.
"نقطف أوراق التوت صباحاً، نقطف من أعلى إلى أسفل، وزوجتي تساعدني في إزالة الغبار عن الأوراق تجنباً لإصابة الديدان بأي أمراض، ثم نخرطها إلى قطع صغيرة يسهل مضغها تبعاً لعمر الديدان"، يسرد الشاب الثلاثيني محمد مصطفى لـ"اندبندنت عربية" كيف تمضي عملية الإطعام التي تحدث مرتين يومياً، مشيراً إلى أن تلك الصناعة على ما تطلبه من صبر دؤوب إلا أن عوائدها مجزية.
في قرية الوسطاني، بمركز كفر سعد بمحافظة دمياط، يقطع المتحدث الطريق يومياً نحو أشجار التوت التي زرعها، قاصداً جمع بعض الوريقات اللازمة لعملية الإطعام في دورة إنتاجية تستغرق 35 يوماً قبل الشرنقة، وتنتهي بتسع صفائح من الحرير لكل "علبة" بكلفة إنتاجية لا تتعدى 1200 جنيه (24.59 دولار)، وعائد 5 آلاف جنيه (102.44 دولار).
ما طبيعة الدعم الحكومي للصناعة؟
بغية ضبط العملية الإنتاجية وتقليص الهالك والحيلولة دون موت الديدان، حصل محمد مصطفى على دورة تدريبية من مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة المصرية، لكن الأمر لم يف بالغرض: "استغرقت ست ساعات فقط تدريباً نظرياً. ساعتان لزراعة أشجار التوت الهندي، وساعتان لتربية الديدان، وساعتان لجدل الحرير. كانت مادة تدريبية فقيرة للغاية، لذا كان يتعين البحث عن متخصص له السبق في تلك الصناعة للحصول على التدريب العملي".
اشترى محمد مصطفى "العلبة" ثم خسرها تماماً، وتكرر الأمر ثانية، ثم استخلص العبر والنتائج وجرب ثالثاً فأنتج ونجح الأمر، وصار كل شيء مدوناً في بضعة أوراق. يتحدث عن خمسة أعمار للديدان خلال الدورة الإنتاجية الواحدة، وحاضنة مثالية وبيئة مناسبة لإنجاح عملية التربية من دون موت الديدان، وهي أمور تكتسب بالممارسة والتجربة الفعلية، ويلفت إلى مزية أخرى في تلك الصناعة، ألا وهي زراعة أشجار التوت الهندي السريعة النمو التي تستغرق شهرين فقط حتى الإثمار والتوريق.
يضيف "زرعت 650 شتلة في نهاية يناير (كانون الثاني) 2024 وسرعان ما أثمرت بحلول مارس (آذار) من العام نفسه، واعتمدت عليها في إطعام الديدان".
أين تتركز الصناعة في مصر؟
ينظر محمد مصطفى إلى ما تحمله صناعة الحرير من فرص واعدة وقيمة مضافة، فثمة قرى بأكملها في دلتا النيل والصعيد، كانت تعيش على هذا الخيط الناعم، نساء يجلسن عند المغازل اليدوية، وأطفال يساعدون في جمع الشرنقات، ورجال يسهرون على تربية دود القز في حجرات رطبة صيفاً وشتاءً، قبل أن تحل الطامة: حرير صيني أرخص، صناعي أحياناً، يجتاح السوق ويخنق ما تبقى من إنتاج محلي لا يقوى على المنافسة.
تشهد مناطق مختلفة في مصر محاولات حكومية وخاصة لإحياء صناعة الحرير، ليس فقط بإعادة زراعة التوت وتربية دودة القز، بل أيضاً بتدريب العاملين، وإنشاء مراكز لتجميع الشرنقات، والتوسع في صناعات مشتقة من بقاياها، فمن ألياف الورق إلى الأسمدة العضوية وحتى مستحضرات التجميل، أصبح الحرير أكثر من مجرد خيط.
وفي صعيد مصر تتحد القرى مع جمعيات تنموية صغيرة لخلق "دوائر حريرية"، يزرع فيها التوت محلياً، وتربى ديدان القز في البيوت، ثم تنسج الخيوط في ورش صغيرة تعيد إنتاج تراث قديم بثوب عصري جديد.
هل تعود مكانة مصر في إنتاج الحرير؟
في عمق صحراء الوادي الجديد، وبين كثبان الرمل الصفراء، تنمو أشجار لا تشبه غيرها. ليست نخيلاً ولا زيتوناً، بل توت هندي، غذاء دود القز، وأمل مصر في صناعة تراجعت طويلاً أمام زحف الحرير المستورد.
هنا، في ما أطلق عليه اسم "واحة الحرير"، تتشكل ملامح مشروع قومي غير تقليدي، مشروع زراعي، صناعي، سكني متكامل، هو الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط، هدفه أن يعيد لمصر مكانتها التاريخية كمركز مزدهر لإنتاج الحرير الطبيعي.
بدأت التجربة على استحياء بـ50 فداناً فقط في مركز الداخلة، لكن بحلول عام 2030، تخطط الدولة للوصول إلى 9 آلاف فدان مزروعة بالتوت، موزعة على 15 مشروعاً، وما يميز مشروع "واحة الحرير" هو بعده الاجتماعي والتنموي، فمن خلال مبادرة إنتاج الحرير، تمنح أراضٍ بأسعار رمزية لشباب الخريجين، ليبدأوا مشاريع صغيرة في زراعة التوت وتربية دود القز.
"كائن بلا صوت أو رائحة يمنحك 1000 متر من الخيط"
لم تقف المبادرة عند الزراعة فحسب، بل امتدت إلى دعم التصنيع المحلي، عبر معامل إنتاج المعدات، وتوريد ماكينة آلية حديثة لفصل خيوط الحرير، ستركب قريباً في مدينة الخارجة.
يعمل في المشروع أكثر من 5 آلاف شخص حتى الآن، ويتوقع أن يرتفع العدد مع اتساع الرقعة المنزرعة، وتراهن مصر على هذا المشروع لتغطية كامل احتياجها المحلي من الحرير، بل وتصدير الفائض، بما يجعلها في المرتبة الثالثة عالمياً بعد الصين والهند.
"كائن بلا صوت أو رائحة يمنحك 1000 متر من الخيط... ألا يستحق أن يصغى له؟"، بابتسامة واثقة يقول عضو رابطة منتجي الحرير، سامح فؤاد لـ"اندبندنت عربية" مشيراً إلى أن مصر لا ينقصها شيء لإنجاح هذه الصناعة: المناخ ملائم، وأشجار التوت، وإن تراجعت، لا تزال موجودة في مناطق كثيرة، والعائد يتجاوز 100 في المئة في كل دورة إنتاجية، بل ويمكن تكرار الدورة حتى ثماني مرات كل عام، مما يجعل من المشروع مصدر دخل إضافي شبه دائم.
مراحل الإنتاج... من البيضة حتى السجادة
رحلة الحرير تبدأ من البيض، ثم الشرنقة، التي تنقل إلى "الحلال"، لتستخرج فيها خيوط رفيعة، تمر بعد ذلك بـ"الفتال" الذي يجمعها ويعقدها في فتلات غليظة قابلة للصباغة، ومنها إلى مصانع السجاد الفاخر، لكن فؤاد لا يخفي أن الطريق لا تزال محفوفة بالتحديات، فإنتاج مصر لا يتجاوز طنين سنوياً، بينما نستهلك 350 طناً!" يقول متعجباً، ملقياً اللوم على ضعف الوعي، وقطع أشجار التوت الهندي لاستخدامها كفحم، وتواضع الإمكانات الفنية.
الصناعة لا تحتاج إلى مساحات شاسعة، فغرفة واحدة تكفي ولا وقت طويل، ساعتان يومياً كافيتان لرعاية دود القز، وهذا ما يجعلها، كما يقول فؤاد، فرصة ذهبية لمن يبحث عن مصدر رزق إضافي إلى جانب وظيفته، خصوصاً مع بساطة التشغيل وسهولة الإدارة، لكن تبقى المشكلة الكبرى في غياب الدعم المؤسسي، فصناعة كهذه لا يمكن أن تنهض بمجرد اجتهادات فردية.
ويقترح فؤاد خريطة طريق تبدأ بـدخول الدولة كمشتر وضامن وتمويل ميسر وسن تشريعات تمنع قطع أشجار التوت، مع إعفاءات ضريبية للعاملين بالصناعة، وحملات إعلامية لرفع الوعي الشعبي.
"الحرير لا يصدر ضجيجاً، لا يشكو، لا يعترض"
"قد تمل من بطء الإنتاج، لكنه بطء مدروس"، يقول فؤاد، موضحاً أن الحرير لا يصدر ضجيجاً، لا يشكو، لا يعترض، لكنه حين يحين وقته يقدم لك شريطاً من الخيوط النقية، طوله 1000 متر بلون الحلم.
صناعة لا تحتاج إلى رأس مال كبير ولا شهادات عليا، لكنها تدر ذهباً خالصاً خلال 35 يوماً فقط"، بهذه الكلمات رسم رئيس قسم بحوث الحرير بمركز البحوث الزراعية، الدكتور أسامة غازي، خريطة الأمل لآلاف الأسر التي تبحث عن باب رزق شريف.
لكن الطريق إلى هذا النجاح ليس مفروشاً بالورد، فأولى العقبات التي توقف غازي، كانت تقلص المساحات المزروعة بأشجار التوت، الغذاء الوحيد لدود القز، ومع انحسار هذه الأشجار، ينحسر معها الحلم، لكنه أشار إلى حلول قابلة للتطبيق، مثل زراعة جزر الطرق، والاستفادة من الأراضي الجديدة والمستصلحة.
كيف تُخلق البيئة المثالية للإنتاج؟
العقبة الثانية كانت طرق إكثار التوت، كما يضيف فغرس البذور بدلاً من استخدام العقل، ينتج أشجاراً ضعيفة، لا تقدم أوراقاً بالجودة المطلوبة، وكأن المزارع يحاول غزل خيوط من الهواء.
أما الخطر الأكبر، فهو إهمال تطهير أماكن تربية دود القز، مما يفتح الباب أمام الأمراض لتفتك بالقوارض الصغيرة، وتفسد موسماً كاملاً، مشيراً إلى أن كثيرين لا يلتزمون بدرجة الحرارة المثالية، 26 مئوية، خلال تحضين البيض، مما يقتل المشروع في مهده.
في الزراعة، لا توجد تفاصيل صغيرة، فمن عدد شتلات التوت في الفدان، الذي يجب ألا يقل عن 7 آلاف، إلى ارتفاع الأشجار التي يجب أن تراوح ما بين 20 سم و1.5 متر فحسب، كلها معايير دقيقة، تجاهلها يعني خسارة مؤكدة، فالعالم كله، كما يقول غازي، تخلى عن الأشجار العملاقة التي يصل ارتفاعها إلى 15 متراً، ليس فقط لصعوبة جمع أوراقها، بل لما تمثله من خطر حقيقي على حياة المزارعين، ممن يضطرون إلى تسلقها كأنهم في مهمة انتحارية من أجل كل ورقة.
هل تُرجمت النيات إلى أفعال؟
في خطوة تترجم النيات إلى أفعال، أعلن محافظ الوادي الجديد اللواء محمد الزملوط، عن إطلاق مبادرة لتوطين صناعة الحرير الطبيعي في المحافظة، ضمن جهود الدولة لإعادة إحياء هذه الصناعة التاريخية.
الزملوط أوضح أن المبادرة تستهدف التحول من التجربة إلى التوسع، بتخصيص نحو 2500 فدان على مستوى المحافظة، لزراعة التوت الهندي، الغذاء الرئيس لدودة القز.
لكن الأهم من الزراعة هو ما بعدها، لذا تتضمن المبادرة إنشاء 25 معملاً مجهزاً بالكامل، مخصصاً لإنتاج الشرنقة وتربية دود القز، في محاولة لبناء منظومة متكاملة تجمع الزراعة بالإنتاج بالصناعة التحويلية.
وعلى رغم الحراك الذي بدأ يتصاعد في مشروعات الحرير داخل مصر، فإن الأرقام لا تزال تصرخ بالفجوة، فبحسب مصادر رسمية، يراوح استهلاك مصر السنوي من الحرير ما بين 400 و500 طن، بينما لا يتجاوز الإنتاج المحلي في الأعوام الأخيرة "طناً أو طنين فقط"، وتنتج مصر سنوياً ما يقارب 182 ألف متر من قماش الحرير، ويعمل في صناعة السجاد اليدوي والفخم أكثر من 100 مصنع، ومعظمهم يعتمد على الحرير المستورد، مما يثقل كاهل الميزان التجاري ويفتح الباب أمام الاستيراد من الصين والهند وتركيا.
أي القطاعات تنعش الصناعة في مصر؟
هذا التناقض الصارخ بين ما نستهلكه وما ننتجه، يجعل من مشروع واحة الحرير، ومبادرات إنتاج الحرير في البيوت الريفية، ضرورة وطنية لا مجرد تجربة تنموية.
وتصل القيمة العالمية لصناعة الحرير اليوم إلى نحو 20 مليار دولار، ومن المتوقع أن تقفز إلى 44 مليار دولار بحلول عام 2030، وفقاً لتقديرات المؤسسات الدولية المعنية بالصناعات النسيجية.
وعلى رغم أن هذه السوق تنمو بوتيرة سريعة بفعل ارتفاع الطلب في مجالات الأزياء والسجاد والطب، فإن مصر والدول العربية لا تزال على هامش هذه الصناعة العالمية، بحصة ضئيلة لا تليق بتاريخها ولا بمقوماتها.
هذه الأرقام تكشف عن أن الحرير لم يعد مجرد رفاهية أو صناعة تراثية، بل قطاع استراتيجي يمكن أن يلعب دوراً حيوياً في تنمية الصعيد والريف، وتوليد عملة صعبة، وتقليص فجوة الاستيراد.
الطريق لا تزال طويلة، فالإنتاج المحلي لا يزال متواضعاً مقارنة بالاستهلاك، وأسعار الحرير المستورد تضغط على أرباح المزارعين، لكن الفكرة عادت وهذا بحد ذاته ثورة، أن تعود مصر لتنسج الحرير، لا يعني فقط استرداد صناعة ضائعة، بل يعني استعادة جزء من هويتها الاقتصادية والثقافية التي كادت تندثر.