ملخص
مجمل تصريحات كبار مسؤولي النظام والتقارير التي تنشر في بعض وسائل الإعلام الحكومية أوضحت الآن بصورة شبه مؤكدة أن إسرائيل كانت تعتزم اغتيال كبار مسؤولي النظام الإيراني، لكنها إما فشلت وإما عدلت عن تنفيذ العملية بالكامل.
لقد مر أكثر من شهر على وقف إطلاق النار بين النظام الإيراني وإسرائيل، وبدأ خلال الفترة الماضية ينشر مزيداً من المعلومات حول الأبعاد الخفية لهذه الحرب. ما يمكن قوله الآن بوضوح هو أن إسرائيل، بعد اغتيالها قادة عسكريين كباراً، كانت تسعى إلى استهداف القيادة العليا للنظام أثناء انعقاد جلسة المجلس الأعلى للأمن القومي، وهو المجلس الذي يعد أعلى هيئة لصنع القرار الأمني والعسكري في هيكلية النظام الإيراني.
على رغم أن هذه الهجمة لم تكن ناجحة بصورة كاملة، فإنها تظهر مدى اختراق إسرائيل المعلوماتي ووصولها إلى كبار مسؤولي النظام الإيراني. من جانب آخر، كشفت هذه الحادثة عن وجود شبكة من الأنفاق والمنشآت الأمنية المدفونة في قلب المناطق الحضرية بطهران، منشآت بنيت لحماية القادة، بينما يعيش الناس العاديون فوقها من دون علمهم، ويستخدمون، عملياً، كدروع بشرية.
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان كشف للمرة الأولى بعد وقف إطلاق النار مع إسرائيل، خلال مقابلة مع المذيع الأميركي تاكر كارلسون عن أن إسرائيل حاولت اغتياله لكنها فشلت. ورداً على سؤال كارلسون "هل حاولت الحكومة الإسرائيلية اغتيال الرئيس الإيراني؟"، أجاب "نعم، لقد حاولوا. وبجدية أيضاً، لكنهم فشلوا".
ولم يقدم بزشكيان في تلك المقابلة تفاصيل إضافية عن الأشخاص الذين كانوا معه في الجلسة أو مكان انعقادها، واكتفى بالقول إنهم "قصفوا الموقع بناءً على معلومات حصلوا عليها من جواسيسهم". وفي زيارته الأخيرة إلى مدينة قم، كشف الرئيس الإيراني في جلسة نشر جزء من تسجيلها، تفاصيل إضافية عن الهجوم، وقال إن إسرائيل قصفت اجتماعاً للمجلس الأعلى للأمن القومي التي حضرها رؤساء السلطات، وقادة عسكريون، وبعض الوزراء. وفي وصفه للحظة القصف قال "في تلك اللحظة، كانت هناك فتحة فحسب، ورأينا الهواء، فقلنا لن نختنق بعد الهجوم".
كما قال رئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إجئي في مقابلة بثت عبر التلفزيون الإيراني عن لحظة الهجوم الإسرائيلي على اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي "عندما بدأ القصف، انقطعت الكهرباء أيضاً. في لحظة ما، أصبحت الأجواء مظلمة تماماً. وعلى رغم ذلك، لم نشعر بالخوف أو القلق إطلاقاً. كنا جميعاً هادئين. كأننا نصور فيلماً. وهل يخاف الممثل في لحظة التمثيل؟".
بدوره قال مستشار المرشد الإيراني علي لاريجاني في مقابلة مع الإذاعة والتلفزيون الإيراني إن إسرائيل "اكتشفت مكان عقد اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي في ذلك اليوم"، وكانت تخطط من خلال القصف لـ"القضاء على قادة السلطات من أجل إسقاط النظام، لكنها لم تنجح".
عراقجي كان هدفاً للهجوم الإسرائيلي
مجمل تصريحات كبار مسؤولي النظام والتقارير التي تنشر في بعض وسائل الإعلام الحكومية أوضحت الآن بصورة شبه مؤكدة أن إسرائيل كانت تعتزم اغتيال كبار مسؤولي النظام الإيراني، لكنها إما فشلت وإما عدلت عن تنفيذ العملية بالكامل.
هذه التكهنات التي طرحت سابقاً تعززت بعد نشر مقابلة جديدة مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في برنامج بعنوان "رواية الحرب". في هذه المقابلة التي يبدو أن بثها من التلفزيون الحكومي واجه اعتراضات، طرح عراقجي فيها نقاط مهمة عدة، من بينها أنه كان هناك "سوء تفاهم" بينه (كعضو في الحكومة) و"الحرس الثوري" أثناء الحرب، بخاصة في ما يتعلق بتوقيت وقف إطلاق النار. وقال إن قرار وقف إطلاق النار اتخذ قبل ثلاثة أيام من نهاية الحرب في جلسة المجلس الأعلى للأمن القومي وبموافقة خامنئي. وأكد عراقجي، أيضاً، أنه كان هدفاً محتملاً للهجوم الإسرائيلي، وأوضح أنه خلال رحلة برية إلى الحدود التركية، حلقت طائرات مسيرة عدة فوق موكبه، وتمكن مرافقوه من رصدها باستخدام أجهزة خاصة، واضطروا، في بعض الحالات، إلى إغلاق هواتفهم المحمولة. وأضاف أن قنبلة وضعت أيضاً قرب مكان إقامته، لكن تم إبطال مفعولها قبل أن تنفجر.
المسؤولون تحت الأرض
كانت وكالة أنباء "فارس" التابعة لـ"الحرس الثوري" قد كتبت سابقاً عن الهجوم الإسرائيلي على اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي "قبل ظهر الإثنين الـ15 من يونيو (حزيران)، وبينما كان اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي يعقد بحضور رؤساء السلطات الثلاث وكبار المسؤولين في الطوابق السفلية لأحد المباني غرب طهران، وقع الهجوم". وبحسب تقرير "فارس"، "استهدف المهاجمون، بمساعدة ست قنابل أو صواريخ، مداخل ومخارج المبنى، بهدف قطع طرق الهرب ومنع تدفق الهواء". وأضاف التقرير "بعد الانفجارات انقطعت الكهرباء عن الطابق، لكن المسؤولين تمكنوا من الخروج من المبنى عبر فتحة طوارئ تم تجهيزها مسبقاً". وأعلنت الوكالة أيضاً أن رئيس الجمهورية أصيب بإصابات طفيفة في قدمه أثناء الخروج. كما طرحت هذه الوسيلة الإعلامية احتمال وجود "عنصر اختراق" ساعد في تسريب مكان الاجتماع السري لكبار قادة النظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقف إطلاق النار بعد قصف عنيف
من خلال تصريحات المسؤولين والتقارير الإعلامية الرسمية يمكن استنتاج نقاط واضحة عدة: قرار وقف إطلاق النار إما اتخذ أثناء الهجوم الإسرائيلي على اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي، أو بعده مباشرة، وفي ظل ظروف كان فيها قادة النظام الإيراني يشعرون بأن الموت أقرب إليهم من الوريد، كما اعترف بذلك عراقجي في مقابلته الأخيرة بأن قرار وقف إطلاق النار اتخذ في المجلس قبل ثلاثة أيام من نهاية الحرب.
نقطة أخرى لافتة تم التلميح إليها، وحتى وكالة "فارس" أشارت إليها، هي أن الاجتماع عقد في مكان تحت الأرض غرب طهران. وتصريح بزشكيان عن وجود "فتحة هواء" يعزز الفرضية بأن الاجتماع جرى في منشأة تحت الأرض،
نظراً إلى أن القاذفات الإسرائيلية استهدفت كل المداخل والمخارج، لكن الحاضرين تمكنوا من الفرار عبر مخرج طوارئ، يحتمل وجود نفق في تلك المنطقة يؤدي إلى أحد المراكز الحضرية مثل مجمع "إيران مول" التجاري أو صالة ضيافة "دوكوهه".
وكانت قد نُشر عديد من التقارير غير الرسمية عن استهداف مجمع "إيران مول" والجبال المحيطة به. وأظهرت مقاطع فيديو نشرت لاحقاً عن الهجوم على الاجتماع الأمني الأعلى أن الموقع قريب جداً من مجمع "إيران مول".
جار مشبوه في غرب طهران
"إيران مول"، هو أحد أكبر المشاريع التجارية في إيران، ويقال إنه أكبر مركز تسوق في العالم، ويقع غرب طهران نهاية الطريق السريع "خرازي" عند تقاطعه مع الطريق الدائري "آزادكان". ويتميز المجمع بوجود مرافق تجارية وترفيهية وثقافية ورياضية، وبُني بموازنة تتجاوز 22 ألف مليار تومان (100 دولار أميركي تساوي 4200000 تومان).
منذ بداية بنائه رافقت المشروع سلسلة من المخالفات والتجاوزات. ففي يونيو 2018 قدم عضو مجلس مدينة طهران، آنذاك، محمد سالاري تقريراً مطولاً عن مخالفات المشروع، وأشار إلى إنشاء أنفاق غير مصرح بها، قائلاً "في الجزء الشمالي الشرقي من المشروع تم الاستيلاء على نحو 5400 متر مربع من طريق خرازي السريع بصورة خاصة، كما تم بناء نفق بمساحة 8600 متر مربع في الجزء الشمالي الغربي من المشروع ضمن الأراضي التابعة للبلدية. إضافة إلى ذلك تم إنشاء ممر خاص آخر بمساحة تزيد على 18 ألف متر مربع من دون دفع أي رسوم أو الحصول على ترخيص من بلدية طهران".
أضاف سالاري أن هذه الأنفاق فعلياً شكلت ممرات شرقية - غربية داخل الطريق السريع، واستخدمت من قبل مالك المشروع من دون أي محاسبة قانونية.
ويظهر فحص خرائط شمال غربي طهران أن "إيران مول" وصالة ضيافة "دوكوهه" التي يحتمل أن تكون من مخارج الطوارئ المستخدمة، تقعان على جانبي طريق "خرازي"، ومن الممكن جداً أن تكونا مرتبطتين ببعض عبر أنفاق تحت الأرض، وهو طريق سري يعتقد أنه ساعد في هرب قادة النظام يوم الهجوم.
اللافت أن المالك الرئيس لمشروع "إيران مول" هي "شركة التنمية الدولية لإيران مول"، وذكر اسم علي أنصاري وإخوته في وسائل الإعلام مراراً بارتباطهم بها. ويعد أنصاري خلال العقد الماضي من الشخصيات المعروفة في القطاع غير الحكومي الإيراني، وهو من المساهمين الرئيسين في بنوك "تات" و"سرمايه" و"آينده"، ويلعب دوراً محورياً في سوق الصلب والحديد والبناء والأثاث.
من جهة أخرى يعد مجمع "دوكوهه" منشأة غير معروفة نسبياً، وعلى رغم أنه يعرف كمطعم وصالة ضيافة، فإنه يستخدم لعقد اجتماعات سرية وولائم خاصة من قبل القادة العسكريين والأمنيين في النظام. ويقع المجمع قرب "إيران مول" في شمال غربي طهران، وتخفيه الأشجار الكثيفة، عن أنظار العامة.
مع المخالفات المثبتة في مشروع "إيران مول"، بخاصة إنشاء أنفاق غير مرخصة في الشمال الشرقي والشمال الغربي، فإن فرضية وجود شبكة أنفاق بين منشأة المجلس الأعلى للأمن القومي تحت الأرض، ومجمع "إيران مول"، ومجمع "دوكوهه"، ليست بعيدة من الواقع، خصوصاً أن الحاضرين في الاجتماع نجوا من القصف من دون إصابات، وهو أمر يبدو مستحيلاً من دون وجود ممرات طوارئ آمنة.
ومع ذلك لا يغير هذا الغموض من جوهر الحقيقة: إن إسرائيل وصلت إلى مستوى من التغلغل المعلوماتي بحيث مكَّنها من تحديد مكان الاجتماع السري للغاية لقادة النظام والتخطيط لتصفيتهم، حتى إن لم تنفذ كامل العملية أو فشلت جزئياً، فإن هذا المستوى من النفوذ يعد تحذيراً جاداً للأجهزة الأمنية الإيرانية، كما أن هذه الواقعة أثبتت مجدداً وجود أنفاق ومنشآت تحت الأرض مجهولة لعامة الناس ضمن النسيج الحضري لطهران. هذه الأنفاق التي أنشئت لحماية القادة جعلت في الواقع من الناس العاديين الذين يعيشون فوق هذه المنشآت دروعاً بشرية من دون علمهم.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"