Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موانئ العالم "حصان طروادة" صيني قد يزلزل عرش أميركا

استثمرت بكين ضمن 129 ميناء داخل عشرات الدول معظمها في دول الجنوب العالمي وتمتلك غالبية أسهم 17 ميناء

الموانئ تعد ركائز أساس في النظام الاقتصادي الدولي (رويترز)

ملخص

وفقاً لأحد التقديرات، استثمرت الشركات الصينية 11 مليار دولار أميركي في تطوير الموانئ الخارجية بين عامي 2010 و2019، ويمر الآن أكثر من 27 في المئة من تجارة الحاويات العالمية عبر محطات تمتلك فيها شركات صينية رائدة حصصاً مباشرة.

منذ فجر التاريخ نشأت الموانئ كمنشآت حياتية قرب المدن الساحلية باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتواصل الأمم والشعوب، ذلك أن السفن كانت أدوات التنقل والسفر من جهة، وآليات التجارة مع العالم الخارجي من جهة أخرى، عطفاً على دورها كعصب للحروب خارج الأراضي الإقليمية.

ولعل الدول المشاطئة للبحار والأنهار والمحيطات، عرفت بصورة مسبقة فكرة المرافئ والموانئ بصورة أكبر كثيراً جداً من الدول الحبيسة، بل إن مذاقاتها الحضارية وتكوينها الإنثروبولوجي يختلف اختلافاً واسعاً.

ولعل الحضارات الإنسانية القديمة عرفت فكرة الموانئ منذ آلاف الأعوام، وفيما كانت بعضها من أسباب قوتها وانتصاراتها، تسببت موانئ أخرى في ضعف دول أخرى وتعرضها للغزوات الخارجية.

ومن أهم الموانئ التي حفظها التاريخ، ميناء قوانغشتو خلال عهد أسرة تشين الصينية، وميناء كانوب المصري الرئيس للتجارة مع اليونان قبل تأسيس مدينة الإسكندرية.

وفي اليونان القديمة كان ميناء بيرايوس في أثينا قاعدة الأسطول الأثيني، الذي لعب دوراً مهماً في معركة سلامين ضد الفرس عام 480 قبل الميلاد.

أما في الهند القديمة وبالتحديد عام 3700 قبل الميلاد، تحفظ لنا أضابير التاريخ الدور الذي لعبته الموانئ هناك كرافد قوة مدني وعسكري.

هل أتاك حديث "أوستيا أنتيكا" التي كانت ميناء روما القديمة مع "بورتوس" التي أنشاها كلوديوس ووسعها تراجان، لتنطلق منها الحملات والغزوات العسكرية الرومانية في طول الكرة الأرضية وعرضها؟

الثابت أن عدداً من تلك المواقع القديمة لم تعد موجودة، لكن ذلك لا يعني نقص الاهتمام بالموانئ، بل يوماً تلو الآخر تزداد تلك الأهمية، لا سيما في ظل عالم يموج بالصراعات التجارية والعسكرية، ومن هنا نرى الاهتمام الكبير الذي توليه القوى القطبية للتوسع والتمدد، ليس في سياقاتها الإقليمية فقط بل حول العالم.

ومن هنا يعن لنا أن نتساءل، هل باتت الولايات المتحدة الأميركية عاجزة عن وقف التمدد الصيني في موانئ العالم؟ وهل لدى الصين بالفعل مخططات للهيمنة على تلك الموانئ كخطوة تعزيزية لقطبيتها المقبلة لا محالة؟ وغيرها من الأسئلة التي نحاول مشاغبتها في هذه القراءة عن صراع الموانئ في العالم المعاصر.

واشنطن ومخاوف تمدد موانئ الصين

خلال الثاني من يوليو (تموز) الجاري، نشرت مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية تحقيقاً مطولاً للكاتب "ماثوي فيلان" تحت عنوان "هل تستطيع أميركا وقف توسع الموانئ الصينية؟".

في عمق المقال تبدو هناك مخاوف من أن توسع حضور الصين في الموانئ العالمية يهدد أمن الولايات المتحدة ونفوذها الاقتصادي وتجارتها الحرة، وأنه يجب على واشنطن مواجهة نفوذ بكين بتمويل التنمية والضغط الدبلوماسي والتنسيق مع حلفائها قبل فوات الأوان.

ولأن الموانئ تعد ركائز أساس في النظام الاقتصادي الدولي، إذ تسهل الشحن البحري العالمي الذي قدرت قيمته بأكثر من تريليوني دولار أميركي عام 2023، فربما لهذا تسعى الصين بالفعل للسيطرة بصورة متزايدة على المئات من موانئ العالم كخطوة لتأكيد الطريق إلى عالم متعدد الأقطاب.

ولعل الحقائق اللوجيستية تقطع بأن حضور الصين في الموانئ الدولية، والذي يعرف بأنه امتلاك حصة مسيطرة في ميناء بصورة مباشرة أو من خلال شركة تابعة، أو امتلاك محطة ميناء أو إدارة أعمال الإنشاءات بطريقة تبدو وكأنها تمنح سيطرة تشغيلية فعالة، يشهد نمواً ملحوظاً على مدار الـ25 عاماً الماضية.

وتظهر المعلومات أن الصين قبل عام 2000 كانت ممثلة في 16 ميناء، أما اليوم فيوجد 93 ميناء صينياً ومن المتوقع أن يتجاوز هذا العدد 100 ميناء خلال الأعوام المقبلة.

هل هذا التمدد والتوسع هو ما يخيف واشنطن بالفعل؟

من المعروف أن جميع المؤسسات والمنشآت التجارية والاقتصادية في الداخل الصيني، تعمل وفقاً لإرادة الحزب "الشيوعي الصيني"، ولهذا فإنه من السهل على الحزب أن يستغل صراحة، لكن بصورة سرية، القيمة الاستراتيجية والنفوذ الذي يمكن أن توفره الموانئ.

هل من مثال على ذلك؟

على سبيل المثال، قد تستخدم بكين موانئ خارجية لتشكيل طرق التجارة أو إنشاء طرق جديدة، مما يعزز دور الصين في الاقتصاد العالمي. قد يشمل ذلك تجاوز طرق التجارة أو نقاط الاختناق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها، واستعراض القوة العسكرية وتسهيل النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني في الدول المستضيفة.

هذه في واقع الأمر أخبار سيئة للولايات المتحدة والعالم، فالصين تهيئ نفسها لاستبدال نظام استبدادي يترأسه الحزب الشيوعي الصيني بقوة، بنظام عالمي ليبرالي تقوده الولايات المتحدة.

هل مخاوف الأميركيين من الصينيين تتعلق فقط بحركة التجارة العالمية؟

بحسب فيلان المتخصص في السياسات الصينية، لا يقتصر الأمر على النشاط التجاري، بل يمتد إلى احتمالات الاستخدام العسكري، فقد استغلت حاويات الشحن التي يفترض أن تكون مدنية في تهريب مكونات طائرات مسيرة إلى ساحات نزاع مثل أوكرانيا وغزة، وهو ما يثير المخاوف من أن بكين قد تستخدم شبكتها العالمية من الموانئ لأغراض استخباراتية أو عسكرية مستقبلاً.

يعن لنا أن نتساءل بداية عن مفهوم "نقاط الاختراق البحري"، وهل وصل صراع الموانئ الصينية–الأميركية إلى تلك النقطة أم ليس بعد؟

بكين والقبض على جمر التجارة العالمية

يعد البروفيسور واتسون جونز المتخصص في الشأن الاقتصادي العالمي أن سعي الصين الحثيث لبسط نفوذها حول موانئ العالم هو رمز لصراع أوسع، ويشير إلى أن الصين تعتمد على رأس المال الحكومي والتكامل الاقتصادي لضمان السيطرة على طرق التجارة، في حين تحشد الولايات المتحدة رأس المال الخاص وتحالفاتها الدولية للتصدي لهذا النفوذ المتصاعد.

ويعترف البروفيسور جونز بأن الصدام بين الطرفين في نقاط الاختناق الاستراتيجية يزيد من التوتر المرتبط بسلاسل التوريد، ويجعلها أكثر عرضة للصدمات الجيوسياسية.

 

لقد أظهرت الفترة التي انتشرت فيها جائحة "كوفيد 19" أن الذي يملك الطرق التجارية البحرية قادر بالفعل على التحكم في سلاسل التوريد الخاصة بالتجارة العالمية، بالتالي ممارسة هيمنته على الأطراف المناوئة ضمن سياق الصراعات العالمية التجارية أول الأمر، والعسكرية تالياً.

ولعل العالمين ببواطن الأمور يدركون جيداً كيف أن الصين لا تفكر خلال الوقت الحاضر في خوض معارك عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، وإنما معركتها الأساس والرئيسة اقتصادية، إذ تبدأ الإمبراطوريات فترات ازدهارها من خلال تعاظم دورها الاقتصادي في الداخل ثم تمتد تالياً إلى الخارج، ومن عند تلك النقطة تمضي قدماً في عالم العسكرة.

تدرك الصين تمام الإدراك أن الموانئ هي بوابات لا بد من المرور عبرها لبلوغ نقطة الذروة العالمية، ومقارعة الولايات المتحدة الأميركية على قيادة العالم، لا سيما أن 80 في المئة من حجم التجارة الدولية تمر منها من حيث الوزن، وما يقارب من 70 في المئة من قيمتها المالية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من عند هذه النقطة تحديداً تتضح لنا المخاوف الأميركية من تراجع وزنها القطبي الذي كان منفرداً بمقدرات العالم تجارياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وسياسياً وعسكرياً منذ سقوط الاتحاد السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

تنظر واشنطن إلى الصراع حول الموانئ التجارية العالمية من منظور يفوق السباق التجاري ويمتد إلى النفوذ العسكري، فالموانئ ليست مجرد بوابات للبضائع بل نقاط عبور يتدفق من خلالها النفوذ الاقتصادي وتشكل سلاسل الإمداد العالمية، وتتولى الخدمات اللوجيستية سواء المدنية أو العسكرية.

والشاهد أنه منذ الانتصار الكبير للقوات المسلحة الأميركية في الحرب العالمية الثانية، وواشنطن تضع يديها على الممرات المائية العالمية بصورة شبه كاملة، سواء كان ذلك في منطقة المحيط الهادئ أم الأطلسي، عبر شبكة من الاستثمارات والتحالفات السياسية البينية التي تأسست خلال فترة الحرب الباردة، فهل يمكن للصين خلال الوقت الراهن أن تغير من تلك الأوضاع التي استقرت عبر نحو ثمانية عقود حتى الساعة؟

المليارات الصينية في خدمة الهيمنة

لم يعد سراً أن الصين استثمرت مليارات الدولارات في موانئ حول العالم، ولهذا السبب يشعر الغرب بالقلق الشديد.

يقدم لنا البروفيسور "كلاوديو يوري" المحاضر في القانون بجامعة ديكين رؤية مثيرة، وقد تكون خطرة بالفعل عن تطلعات الصين لموانئ العالم.

أوائل يناير (كانون الثاني) الماضي اشترت شركة "كوسكو الصينية" العملاقة للشحن والمملوكة للدولة حصة 60 في المئة تخص ميناء شانكاي في بيروفيا، وهو ما منح الشركة الاستخدام الحصري للميناء لمدة 60 عاماً.

وبعد أيام، غادرت أول سفينة إلى شنغهاي محملة بالتوت الأزرق والأفوكادو والمعادن.

ويعد ربط مشروع شانكاي جزءاً من رؤية الصين لطريق الحرير البحري خلال القرن الـ21، والذي سيحسن ربط مراكز التصنيع الصينية بشركائها التجاريين حول العالم. واستلزم ذلك استثماراً كبيراً في موانئ عدد من الدول، مما أثار قلق الغرب في شأن تنامي نفوذ الصين على طرق الشحن العالمية.

 

لم يكن مشروع شانكاي بعيداً من الرؤية الكلية الصينية للموانئ العالمية بل إنه جزء من طريق الحرير البحري خلال القرن الـ21، والذي سيحسن ربط مراكز التصنيع الصينية بشركائها التجاريين حول العالم. واستلزم ذلك استثماراً كبيراً في موانئ عدد من الدول، مما أثار هواجس المعنيين الغربيين.

وتبين الأرقام أن حجم ونطاق طريق الحرير البحري بات بالفعل مثيراً للإعجاب من ناحية، وللقلق من ناحية تالية.

استثمرت الصين ضمن 129 ميناء في عشرات الدول من خلال شركاتها المملوكة للدولة، معظمها ضمن دول الجنوب العالمي، وتمتلك الصين غالبية أسهم 17 ميناء من تلك الموانئ.

ووفقاً لأحد التقديرات، استثمرت الشركات الصينية 11 مليار دولار أميركي في تطوير الموانئ الخارجية بين عامي 2010 و2019، ويمر الآن أكثر من 27 في المئة من تجارة الحاويات العالمية عبر محطات تمتلك فيها شركات صينية رائدة حصصاً مباشرة.

هنا لم يعد خافياً أن الصين دخلت بقوة إلى أسواق أميركا اللاتينية، لتصبح الشريك التجاري الأول للمنطقة. وتشير استراتيجية بكين في مجال الموانئ بوضوح إلى هدفها طويل الأمد المتمثل في الوصول إلى الصادرات الأساس لأمنها الغذائي وأمن الطاقة، فول الصويا والذرة ولحوم الأبقار وخام الحديد والنحاس، والليثيوم المستخدم في البطاريات.

وخلال العام الماضي على سبيل المثال، وقعت شركة "بورتوس دي بارنا" وهي شركة برازيلية مملوكة للدولة تعمل كسلطة ميناء في ولاية بارنا خطاب نيات مع شركة "تشاينا ميرشانتس بورت هولدينغر"، لتوسيع محطة حاويات باراناغو ثاني أكبر محطة في أميركا الجنوبية، وقد تستثمر الصين في مزيد من الموانئ البرازيلية، ومن المقرر طرح 22 محطة للبيع بالمزاد قبل نهاية عام 2025.

هل الحضور الصيني في القارة اللاتينية عمل اقتصادي مجرد؟

قطعاً، ما يخيف الولايات المتحدة الأميركية أن الحضور الصيني داخل تلك البقعة الجغرافية، والتي تمثل الخلفية اللوجيستية للإمبراطورية الأميركية، أمر بمثابة تهديد حقيقي للنفوذ الأميركي في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وعلى الناظر متابعة ما يجري في بنما، والنفوذ الصيني في قناة بنما التاريخية، مما يدفع الرئيس ترمب ربما إلى التدخل العسكري هناك ذات مرة وعلى حين غرة، في محاولة لاسترجاع القناة مرة أخرى، بالضبط كما فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع شبه جزيرة القرم التي استرجعها عام 2014.

موطئ قدم في موانئ أفريقيا

تبدو أفريقيا في حاضرات أيامنا مثل الثمرة الناضجة التي حان موعد قطافها، لا سيما أنها تتمتع بأمرين أساسيين أولهما ثرواتها الطبيعية الوافرة وكثير جداً منها لا يزال قابعاً في جوف الأرض من نفط وذهب، ويورانيوم ومعادن ثمينة.

وثانيهما أنها لا تزال القارة التي تتوافر فيها فرص التنمية لمائتي عام مقبلة دون أدنى شك، مما يعني صراعاً اقتصادياً بين القوى الاستعمارية القديمة تاريخياً لا سيما الأوروبية، والوسيطة العهد مثل روسيا خلال الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية والصين منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وحتى الساعة.

كان من الواضح أن صعود الصين اقتصادياً منذ ثلاثة عقود أمر مغر لها بقوة للدخول في سباق اقتصادي مع واشنطن وموسكو، لا سيما أنها وضعت ضمن قائمة أكبر 10 اقتصادات في العالم.

على أن علامة استفهام مثيرة تواجه القارئ، لماذا تمتد وتتوسع الصين في الداخل الأفريقي بسهولة خلال العقدين الماضيين بصورة خاصة؟

 

يمكن الرجوع إلى ما كتبه نعيم موسى رئيس تحرير مجلة "فورين بوليسي" الأميركية عام 2008، إذ لاحظ أن الأموال الساخنة تتدفق بسهولة ويسر كبيرين على الدول الأفريقية، بالتالي سيكون من السهولة السيطرة الصينية على موانئ القارة السمراء.

السر كما اكتشفه السيد موسى أن الصين غير معنية بمعايير أو محددات قيمية وأخلاقية، كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية.

بكين لا يهمها في واقع الأمر منسوب الديمقراطية، ولا أوضاع حقوق الإنسان أو الحريات الدينية، وبقية منظومة "المدينة فوق جبل".

كل ما يهم بكين، حكومة وشعباً، الحصول على الموارد الطبيعية بأسرع وقت وأرخص سعر في مقابل تقديم أموال ساخنة، فقط لا غير.

يعطي السيد نعيم مثالاً بدولة أفريقية في الوسط من القارة، تألمت كثيراً من أجل الحصول على قرض أميركي بقيمة 50 مليون دولار، غير أنها ما لبثت أن وجدت الصين تقدم لها قرضاً بقيمة 500 مليون دولار، ومن دون أي شروط، فقط عقد براغماتي للحصول على نفط ومعادن.

تبدو أرقام الصين في موانئ أفريقيا مثيرة للتأمل العالمي وللقلق الأميركي والأوروبي، وربما الروسي بنوع خاص.

اليوم تظهر الصين مشاركة فاعلة وواضحة في نحو 62 محطة بحرية من إجمال ما يقدر بـ231 ميناء تجارياً في أفريقيا، وتعمل على تأسيس وجود صيني في أكثر من 255 من الموانئ البحرية في أفريقيا، وهي نسبة أعلى بكثير من أية منطقة أخرى في العالم.

ولعل الأكثر إثارة أن 33 ميناء منها تقع على المحيط الأطلسي، في صورة محطات لتصدير المعادن الأكثر انتشاراً داخل هذه المنطقة، مثل البوكسيت والنحاس وغيرهما من المدخلات المعدنية المهمة.

 في السياق عينه، تأتي منطقة شرق أفريقيا وساحل المحيط الهندي في المركز الثاني من حيث تركيز الموانئ الصينية بإجمالي 17 ميناء، معظمها داخل القرن الأفريقي، والتي تتكامل مع مشروعات التنمية الصناعية والسكك الحديد الرئيسة عبر الدول الساحلية وغير الساحلية، وتقدر الحصة السوقية للشركات الصينية العاملة في مجال تطوير وإنشاء الموانئ البحرية بنسبة 61 في المئة من إجمال حجم الشركات العاملة في المجال ذاته داخل أفريقيا.

ما الذي تخشاه واشنطن بصورة رئيسة من توسع النفوذ الصيني في الموانئ العالمية داخل بقاع وأصقاع الكرة الأرضية؟

واشنطن ومخاوف أمنية واستخباراتية

أفضل من يقدم لنا جواباً عن علامة الاستفهام المتقدمة، البروفيسور توماس أكس. هاميس الزميل الأول في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن، الذي يرى أن مخاوف أميركا المتعلقة بملكية الصين للموانئ الخارجية تنقسم إلى ثلاث فئات عامة، أولاً الكم الهائل من المعلومات الاستخباراتية التي تجمعها الصين، وثانياً إمكانية استخدام هذه المعلومات وسيطرتها على الموانئ والأرصفة الرئيسة لتعطيل الشحنات الأميركية خلال أوقات الحرب، وأخيراً هناك احتمال أن تستغل الصين سيطرتها على هذه الموانئ للتخزين المسبق للأسلحة والذخائر والمعدات، إما لتزويد سفنها الحربية وتجارها المسلحين بالإمدادات أو لإنشاء نقاط تفتيش ومنع وصول الأسلحة بسرعة قرب نقاط البحرية الرئيسة... ماذا يعني ذلك؟

يعني باختصار غير مخل، تطويع قدرات بكين البحرية لتعطيل حركة التجارة العالمية.

وهنا يبدو واضحاً أنه بمجرد حصول الصين على مقدرات إدارة الموانئ الدولية، تحصل بصورة مباشرة على دفق هائل من المعلومات حول تدفقات التجارة البحرية وتجمعها، لا سيما أنها طورت منصة المعلومات العامة الوطنية للتنقل والخدمات اللوجيستية المعروفة باسم LOGINK، وهي نظام برمجي مصمم لإدارة الشحن العالمي.

هل من خطورة فعلية لمثل هذه الخطوة الصينية؟

الثابت أن تلك المعلومات يمكن أن تزود الصين بمواد استخباراتية عالمية حول حركة القوات الأميركية، والعتاد والمعدات خلال الأزمات، ويمكن للصين من خلالها أن تعمل على تعطيل العتاد الأميركي وحلفائه في حال نشوب صراع، وفعلت ذلك بالفعل عام 2016 عندما استولت على ثماني ناقلات مشاة سنغافورية أثناء عبورها ميناء هونغ كونغ في طريق عودتها من تدريبات في تايوان.

 كانت الفرضية الرئيسة –وما زالت– التي مكنتها من بلورة حضورها القطبي الأممي حول العالم، قدرتها على تسيير الشحن التجاري في اتجاهات المسكونة الأربعة، ومن غير أن تعطلها قوة دولية ما.

 

هنا ومع تصاعد النفوذ البحري الصيني، سيكون من الطبيعي أن تمر شحنات أميركا التجارية، العسكرية والمدنية، من خلال موانئ تسيطر عليها الصين، مما يعني أنها ستكون قادرة على إصابة الاقتصاد الأميركي في القلب منه.

أما الجزئية المخيفة بأكبر قدر، فهي أنه سيضحى في متناول الصين استخدام هذه الموانئ أو حتى الأرصفة الفردية لتمركز المعدات العسكرية مسبقاً، والتي يمكن أن تتحول كل منها إلى عقدة لجمع المعلومات، أو نقطة إعادة تسليح لتجديد الصواريخ المحمولة في حاويات على السفن الحربية أو السفن التجارية الصينية، أو عقدة لتعطيل الشحن الدولي أو مزيج من المنطلقات الثلاثة المتقدمة.

مفاتيح أميركية لمواجهة الموانئ الصينية

ولأن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال في مركز القوة المتقدم في عالم البحار، لذا يبدو من الطبيعي جداً أن لديها رؤى استراتيجية لمواجهة طموحات الصين البحرية.

وفي هذا السياق يتطلب الأمر مزيداً من مشاغبة ما يسمى "المفاتيح الاستراتيجية المائية " للولايات المتحدة الأميركية، والتي يوليها الرئيس دونالد ترمب أهمية خاصة.

عند وضع قائمة من "خمسة مفاتيح" لسيد البيت الأبيض، ينبغي البدء بقناة بنما حالياً، إذ تدير هذه القناة العابرة للمحيطات ما بين خمسة إلى ستة في المئة من تجارة الاستيراد والتصدير العالمية، أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة فتمثل هذه النسبة 40 في المئة من حركة الحاويات. وفي الوقت نفسه، أدت خطة توسعة القناة عام 2016 إلى إنشاء قناة بنما حديثة وجديدة كلياً إلى جانب القناة الأصلية، مما ضاعف سعة القناة.

المفتاح الثاني الذي تركز عليه الولايات المتحدة هو قناة السويس المصرية، التي تمر عبرها 12 في المئة من التجارة العالمية و30 في المئة من حركة الحاويات، ومن بين مستخدميها الدائمين البحرية الأميركية، إذ تمر بها كل عام ما بين 35 و45 سفينة بما في ذلك حاملات الطائرات، وتتطلب المصالح الاستراتيجية البحرية الأميركية وجوداً بحرياً منتظماً داخل هذه المنطقة لحماية الوصول التجاري، وموازنة نفوذ الصين المتنامي في الطرف الغربي من المحيط الهندي.

وتعد الصين أيضاً القوة الاستراتيجية الرئيسة في المحور الاستراتيجي الرابع، مضيق ملقا الذي يربط بحر الصين الجنوبي بالمحيط الهندي، ويقدر أن ثلث الشحن العالمي وبخاصة شحنات النفط والغاز الطبيعي المسال إلى آسيا يمر عبر هذا الممر المائي الدولي، ويعد هذا الممر بالغ الأهمية لصحة اقتصاد كل من الصين واليابان اللتين تعتمدان عليه في جزء كبير من تجارتهما.

والمعروف أن إدارتي أوباما وبايدن تجاهلتا أهمية المضيق إلى حد كبير، وتنازلتا تقريباً عن السيطرة على بحر الصين الجنوبي للصين.

وفي هذا الإطار يمكن لاستراتيجية ترمب العالمية أن تستخدم السيطرة على الوصول إلى المضيق لاستعادة التوازن الاستراتيجي في بحر الصين الجنوبي، ومنع النزاعات بين الصين والفيليبين، من تهديد التجارة أو إشعال فتيل صراع مسلح.

أما المفتاح الخامس فيمتد عبر ما يعرف بالممر الشمالي الغربي، من جزيرة بافن إلى بحر بوفورت، وهو خامس أهم ممر استراتيجي وأحدثه، وذلك بفضل تغير المناخ. ويبلغ طوله 900 ميل، وهو أيضاً الأطول مقارنة بـ120 ميلاً لقناة السويس، مع وجود ما لا يقل عن سبعة مسارات مرور مختلفة، والتي قد يستغرق عبورها من ثلاثة إلى ستة أسابيع، لذا فإن استخدام الممر الشمالي الغربي غير منطقي لنقل البضائع الحساسة للوقت، كما أنه ليس خالياً تماماً من الجليد.

هل من خلاصة؟

يحاجج المحلل السياسي والاستراتيجي الأميركي كريس استيب بأنه يجب على الولايات المتحدة إطلاق حملة إعلامية هادفة ومتسقة وجريئة حول أخطار توسع الموانئ الصينية، مع تسليط الضوء على الأخطار التي قد يشكلها انخراط الصين في الموانئ على الدول الأخرى.

ويرى أنه لن تكفي الرسائل وحدها تجاه المساعدات الخارجية، بل ينبغي على واشنطن إعطاء الأولوية لتمويل التنمية الخارجية ودعم تطوير الموانئ في الدول الشريكة، شريطة استبعاد الشركات الصينية من بناء الموانئ وتشغيلها وملكيتها. ويمكن الاستفادة من الزيادة المقترحة في موازنة مؤسسة تمويل التنمية لتوفير دعم وحوافز كبيرة للشركات الأميركية للاستثمار، وتوسيع حضورها في منظومة الموانئ الدولية.

لكن هل سياسات الرئيس ترمب الخارجية تخدم هذا الإطار؟

بالطبع هناك كثير من المآخذ على الرجل، لا سيما أن تعريفاته الجمركية الأخيرة، تفتح الباب واسعاً للصين، لتدلف في كل البقاع والأصقاع بحرية شبه مطلقة.

كما أن علاقاته مع حلفائه أيضاً ستلعب دوراً حاسماً في مواجهة تهديدات الصين من المنظور الأميركي، لكن هذه التحالفات يعتريها في واقع الأمر كثير من العقبات. وفي كل الأحوال ستبقى هذه قضية مفتوحة ضمن قضايا النوازل التي يتعين على العقل الأميركي تقديم حلول مبتكرة لها، حال أرادت واشنطن أن تظل سيدة قيصر من دون منازع، وهو أمر مشكوك فيه.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات