ملخص
يحتفل غاليري "مشربية" في القاهرة بمرور 35 عاماً على تأسيسه، عبر معرض خاص يستعرض محطات من تاريخه الطويل في دعم الفن المعاصر في مصر، من بداية التسعينيات حتى اللحظة الراهنة.
يضم المعرض مختارات من أعمال فنانين تعاونوا مع الغاليري منذ تأسيسه في أوائل التسعينيات وحتى اليوم، مثل عادل السيوي ومحمد عبلة وحازم المستكاوي وشادي النشوقاتي وهاني راشد والإيطالي كارمينيه كارتولانو والإسباني خافيير بوغمارتي وهشام نوار وأحمد الشاعر وسحر درغام وصباح نعيم وسارة أيمن، لكن ما يبدو في ظاهره عرضاً احتفائياً يتحول هنا إلى شهادة بصرية على تحولات المشهد الفني في مصر خلال أكثر من ثلاثة عقود. هذه الشهادة تأخذ بعداً أوثق حين ترويها مؤسسة الغاليري الإيطالية ستيفانيا أنغرانو التي حضرت إلى القاهرة في بداية التسعينيات، فاختارت أن تقيم وتبني من هنا إحدى أقدم المساحات الخاصة التي كرست نفسها للفن المعاصر.
حين وصلت ستيفانيا إلى مصر لم يكن ثمة إنترنت، ولم تكن مفاهيم مثل "الفن المعاصر" قد وجدت مكاناً مستقراً في الخطاب الفني المحلي، "كان علينا أن نشرح للناس ما الذي يحدث في بقية العالم"، وفق قول ستيفانيا، مشيرة إلى أن الفنانين المصريين، خصوصاً من الشباب، لم يكن لديهم سوى فرص محدودة للاحتكاك بتجارب خارجية، إلا من خلال المعارض الرسمية أو المبادرات الفردية.
غاليري مشربية في تلك اللحظة لم يكن مجرد غاليري يضيف رقماً إلى المشهد الفني، بل نافذة مفتوحة على أنماط وأساليب لم تكن مألوفة آنذاك، كالوسائط الصوتية، والأعمال التركيبية، والتجريب في الخامات، وممارسات مفاهيمية لم تكن شائعة بين الفنانين المصريين. كان الغاليري، كما تقول أنغرانو، يسعى إلى توسيع فهم الفن، لا فقط إلى عرضه. ولم يكن معنياً فقط بتقديم أعمال حديثة، بل بموقف معين من الفن، وبرؤية تزعج الاستقرار، وتغامر بالمألوف. تقول ستيفانيا، مستذكرة الروح التي كانت مسيطرة على تلك المرحلة، أن الفنانين في التسعينيات كانوا يمتلكون شغفاً ورغبة كبيرة في التجريب. لا يعني ذلك أن الأعمال كانت دوماً على مستوى عالٍ، لكنها كانت، بحسب تعبيرها، مشحونة بالقوة والجرأة. لقد تجرَّأ الفنانون آنذاك على طرق موضوعات مسكوت عنها، والتعبير عن أنفسهم بحرية، خصوصاً بعد عام 2011، هذه اللحظة الفارقة التي انفجرت خلالها حدود التعبير في مصر، ولو لفترة موقتة، لكن هذه اللحظة لم تدُم طويلاً، فمع تراجع الحريات، عادت موجة من الاهتمام بالجماليات والشكل على حساب الأفكار والمفاهيم، وبات السوق الفني، بما يحمله من ذوق مقتنين ونخبة، أكثر حضوراً وتأثيراً من طموحات الفنانين الذاتية. ومع ذلك تمسكت ستيفانيا كما تقول بأن يظل "مشربية"، مكاناً لمقاومة هذا الميل إلى السطحية.
المعرض الحالي لا يدعي أنه يؤرشف كامل التجربة، بل يقترح، كما جاء في بيانه الصحافي، "التعامل مع الأرشيف كشيء مفتوح يتشكل بالذاكرة والحوار والعلاقات". بهذه الروح، لا يحتفي المعرض فقط بأسماء الفنانين الذين تعاونوا مع الغاليري، بل يستعيد لحظاتهم، وأعمالهم، وتجاربهم العابرة أو المستمرة، أولئك الذين غادروا مصر، أو الذين واصلوا، أو حتى الذين غيبهم الموت.
هو معرض لا يحتفي بالنجاحات فحسب، بل بالتراكم، ويلخص ما يقارب 400 معرض أقامها الغاليري منذ تأسيسه، من بينها معارض تشاركية، وتجارب نسائية جريئة، وأخرى تأسيسية لمهرجانات كان لها بالغ الأثر، مثل مهرجان النطاق الذي شارك في تنظيمه "مشربية" مع قاعات أخرى في أوائل الألفية، وكان أول مهرجان مخصص للفنون البصرية المعاصرة في مصر، وشارك فيه عدد من الأسماء التي أصبحت لاحقاً من رموز الساحة الفنية.
ما يميز شهادة ستيفانيا أنغرانو أنها تأتي من موقع مزدوج، فهي فاعلة في الحقل الفني، ومراقبة له من مسافة ثقافية. إن خبرتها السابقة في إيطاليا، وحسها المتصل بالتحولات الأوروبية، جعلاها ترى المشهد المصري من زاوية مختلفة. وهي لا تخفي انزعاجها من انحراف بعض الغاليريهات الخاصة عن رسالتها الفنية، واعتبارها مجرد مشاريع استثمارية. تؤكد ستيفانيا أن من يقدمون على تنظيم المعارض الفنية "لازم يكون عندهم حب حقيقي للفن"، مشيرة إلى أن تأسيس غاليري لا يمكن أن يكون فقط قراراً اقتصادياً، بل هو موقف ثقافي، يحتاج إلى وعي بتاريخ الفن بقدر ما يحتاج إلى إدراك ما يحدث الآن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اليوم، يبدو أن ما بدأه "مشربية" قبل 35 عاماً لا يزال مستمراً، ولكن في سياق مختلف. ازداد عدد الغاليريهات، وتنوعت الأساليب، وفتح الإنترنت أبواباً واسعة للتجريب والمعرفة. لكن ما ينقص، ربما، هو تلك الجرأة التي كانت تحرك جيل التسعينيات. تقول ستيفانيا بأسف واضح: "دلوقتي الشغل كله بيخاطب السوق"، لكن الأمل لا يغيب تماماً، فالمعرض المقام حالياً في "مشربية"، يقترح إمكان أخرى، وهي أن يكون الفن مساحة للذاكرة، وللتجريب، وللأسئلة التي لم يجب عنها بعد.
في نهاية المطاف لا يقدم هذا المعرض مجرد أرشيف بصري لمسيرة غاليري، بل يفتح باباً للتأمل في طبيعة الحراك الفني في مصر، وتحولات الذائقة، وحدود التعبير. وبين موجات التجريب التي ميزت التسعينيات، وحضور السوق المتصاعد في السنوات الأخيرة، تظل تجربة "مشربية" شاهداً على زمن من التبدلات الفنية والاجتماعية. إن القاهرة، مدينة لا تفهم من النظرة الأولى، بل عبر التراكم والمعايشة. وفي هذا السياق، ظل غاليري مشربية يمثل مساحة من مساحات الرؤية المختلفة، ساعياً إلى طرح أسئلة جديدة ومواكبة تحولات الفن المعاصر داخل مدينة معقدة الإيقاع.