ملخص
حين وقفنا على "سوق الليل" في مدخل المدينة التاريخية المطلة في بهاء على الساحل، وكأنها تحرسه من عدوان المدنية والأغيار الجدد، ممن ليسوا من قبائل توماس إدوارد لورانس بالضرورة ولكن أيضاً "تجار الأسمنت وعصابات التراب"، كما اعتاد السكان المحليون في السعودية القدح في الباحثين عن الثراء السريع، على حساب ذاكرة السكان والمدن وعبقها الثقافي الأخاذ.
قد تكون مدن سعودية سرقت الأضواء من "ينبع" غرب السعودية لأعوام مضت، على رغم مقوماتها الفريدة في الموقع والتاريخ، إلا أن المدينة الحديثة بموانئها ومصانعها وشواطئها عادت تنقب عن الجواهر في الأطلال، وتمسح الغبار عن نصفها الآخر الذي يحتفظ بسرها لقرون وعقود، كانت فيها حديث جاراتها على ضفتي البحر الأحمر، وقطب الرحى عند التجار والغزاة والعابرين من العرب والترك والألمان والإنجليز.
وشهدت المدينة فصولاً من التاريخ الحديث لا تزال حية التأثير حتى اليوم، فيما تحتفظ برموزها وذكرياتها الحلوة والمريرة، مثلما يروي لـ "اندبندنت عربية" مالك "متحف رضوى" سالم الحجوري الذي قادنا في جولة داخل مقتنياته عبر العصور من مخلفات الحرب العالمية الأولى، مثل الخوذات والرصاص والبنادق، إلى أعماق مياه بحر المدينة الغنية بالتنوع هي الأخرى، مما جعل "مركز الرقابة على الالتزام البيئي" في البلاد ينفذ فيها أخيراً تمريناً لاختبار جاهزية أسطول مكافحة التلوث المهدد للحياة البحرية.
مولد "الجامعة العربية"
مرّ سريعاً على الزوايا قبل أن يتوقف الحجوري موجهاً حديثه إلينا: "ماذا يهم في جاسوس بريطاني جاء عابراً كي تنقبوا عن آثاره؟ تعالوا انظروا ما هو الحدث الأهم"، وكنا سألناه عما لديه من بقية آثار لورانس، يوم جاء المدينة ليتخذ منها نقطة انطلاق الشرارة الأولى وقاعدة "الثورة العربية" ضد الحكم العثماني عام 1915.
ولم يلبث أن توقف أمام أرشيف الصحف السعودية والمصرية التي أرّخت لـ "قمة رضوى" الفاصلة في تاريخ المنطقة إثر لقاء الملكين السعودي والمصري عبدالعزيز وفاروق عند شرم ينبع على بعد بضعة أميال من المدينة التاريخية حيث كنا، ليكتبا الفصل الأخير من المشاورات التي سبقت إعلان ميلاد "الجامعة العربية" التي ظلت على رغم الانتقادات، ما تبقى من وحدة العرب الميؤوس منها.
وقد نجح الحجوري في لفت الفضول الصحافي داخل أذهاننا نحو "قمة رضوى"، إلا أن "جارات لورانس" على بعد خطوات منه أعدن للجاسوس البريطاني جذوته حين وقفنا على "سوق الليل" في مدخل المدينة التاريخية المطلة في بهاء على الساحل وكأنها تحرسه من عدوان المدنية والأغيار الجدد، ليسوا من قبائل توماس إدوارد لورانس بالضرورة ولكن أيضاً "تجار الأسمنت وعصابات التراب"، كما اعتاد السكان المحليون في السعودية القدح في الباحثين عن الثراء السريع على حساب ذاكرة السكان والمدن وعبقها الثقافي الأخاذ.
بدت السوق من الخارج ببنائها الحجري كما لو أنها قلعة لا ينقصها سوى الحرس على أبوابها، إلا أن ما بداخلها عالم آخر لا صلة له بالقلاع والمحاربين، إذ جرى تخصيصها للنساء من منسوبات "جمعية رضوى النسائية" ليعرضن فيها السلع والحرف التي ورثنها عن الآباء والأمهات، مثل التطريز والرسم على الطين والسعف والبخور والصابون والجلابيات والسُبح وأزياء القبائل المحلية التاريخية وحليها من الفضة والخرز والأحجار الكريمة.
من البحارة إلى النساء
في البداية تحدثت إلينا أم عبدالله وسط متجرها المتخصص في بيع الهدايا البسيطة من صنع يديها، وتقول "نحن نبيع ما نصنعه ولذلك نشعر بقيمة أكبر للحصيلة التي نعود بها آخر النهار مهما كانت قليلة"، وما كاد الحديث يأخذ أبعاده مع أم عبدالله حتى تجمع حولنا مجموعة من النساء الوقورات، معظمهن كبيرات في السن يشرحن من دون تردد المهمة التي يظهر أنهن فخورات بالقيام بها، على رغم بساطة المعروض وقلة مردوده على الأرجح، ويشرحن كيف أن السوق شكلت بالنسبة إليهن "بادرة أمل"، ويطمحن إلى تحسن دخلهن مع الوقت ليصبحن رائدات أعمال في محيطهن الاجتماعي.
وتوضح مديرة السوق حنان الجهني في حديث جانبي مع "اندبندنت عربية" جانباً آخر من قصة السوق، إذ تروي أنها لم تكن في الأصل نسائية وإنما جاء تخصيصها لهذه الفئة من ذوات الحرف، ولا سيما محدودات الدخل، بغرض تطوير مهاراتهن وتحسين ظروفهن، إضافة إلى الحفاظ على الصناعات التراثية ونقلها للأجيال المقبلة من دون تشويه. وتفسر الحماسة من بعض البائعات بما يفعلن على رغم كبر سنهن، بأن "عدداً ممن ترون كان آباؤهن يعرضون في هذا السوق قبل عقود حين كانت سوقاً عامة للتجار والبحارة، فكأن تلك الخالات يحرسن تاريخ آبائهن بطريقة تبعث على الفخر".
عند السؤال عما يهتم به الزوار تضيف "نحن ما زلنا في أول الطريق ولم يمض عام على بدء التجربة، ومع الوقت سنرى البنات يحققن مبيعات أفضل، وإن شاء الله يتحقق الإقبال السياحي الذي يساعد في ذلك، فنحن نعتمد على السياح ولا سيما الأجانب الذين يشترون الهدايا من المدينة".
"هذا جارنا عرفناه من السياح"
وعند السياح الأجانب جاء الوقت المناسب لنسألها عن "لورانس" الذي نقتفي آثاره منذ لحظة الجولة في المدينة "لورانس، نعم نعم، هذا جارنا"، ثم تضحك وتضيف "من الغريب أننا لم نكن نعرف أننا بقرب شخص بهذا الثقل الدولي، فكثير من الأجانب الزوار يسألوننا عنه، ثم لكثرة السؤال أصبحنا نهتم بمعرفة المنزل الذي سكن، وقد نفكر في طرح بعض الأفكار على الزميلات لبيع منتجات باسمه لتلقى الرواج المنشود".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب ما أفادت محافظة ينبع "اندبندنت عربية" فإن السوق أعيد تأهيلها بعد أعوام ظلت فيها مهملة، فأعيد بناؤها على طرازها القديم إلا أن الجهات المتخصصة في المدينة اتفقت على تخصيصها للنساء بدلاً من طبيعة نشاطها السابق الذي جعلها تسمى "سوق الليل"، حين كانت السوق الوحيدة التي تعمل ليلاً وتضاء بالفوانيس لتلبية حاجة البحارة وقاصدي الميناء الإستراتيجي خلال الساعات التي تخلد بقية الأسواق فيها إلى السكون.
وتختلف تقديرات عمر السوق بين المهتمين الذين تحدثوا إلينا ما بين 250 و500 عام، إلا أن ارتباطها بالميناء الذي كان الرئيس لوسط الجزيرة العربية وشمالها الغربي، يضفي عليها أهمية بالغة يوم كانت الموانئ، قبل طائرات الشحن والمكائن البخارية، وسائل الإمداد الوحيدة بالسلع والمؤن والعتاد الحربي الثقيل التي كانت سفن الصحراء "الجمال" تنوء بأحمالها.
لهذا يقول المرشد السياحي المهتم بتاريخ ينبع، الذي رافقنا إن أهل المدينة كانوا محظوظين إلى عهد قريب بحصولهم على جوانب من الرفاهية لا تحصل لغيرهم، باعتبارهم المحطة الأولى للبضائع القادمة من العالم، كما لو أنها طازجة، مشيراً إلى أن طُرفاً تروى بين الأهالي حول هذا المعنى، مثل "من أكل الحلوى الفلانية، ومن جرب البسكوت، ونوع الطعام المحدد قبل أهل ينبع"؟ على هيئة التباهي، والجواب "لا أحد في تلك الأنحاء"، فهو الميناء الأقرب إلى مصر ووجهة قاصدي المدينة المنورة الأولى، فكان بذلك موقعاً لا يضاهى.
ويشير بتحفظ إلى أن المؤرخ علي السمهودي يزعم في هذا السياق أن الجواري في الماضي كن يرفضن بيعهن على أسياد خارج ينبع، لما يجدن فيها من الراحة والتمدن، فلا ينتقلن منها إلا قسراً.
وقد يكون لارتباط السوق بالجواري قديماً، كانت المسؤولة حنان الجهني أشارت إلى أن بعض النساء رغبن تغيير اسم السوق لما قد يثيره من الريبة في أذهان الأجانب غير العارفين بالمنطقة، فكانت الخشية أن يظن بالنساء المحتشمات فيه ظن السوء، لكنها أردفت بأن الجهة المعنية في المحافظة والبلدية، أصرت على إبقاء اسم السوق كما هو، حفاظاً على تاريخه الممتد، فالأسماء التاريخية لا تتغير. و يعتبر "سوق الليل" من بين أسماء الأسواق الشائعة في مدن المنطقة، بما في ذلك مكة المكرمة.
مصير بيت "لورانس"
على امتداد "حي الصور" التاريخي حيث سوق الليل ومسجد السنوسي وكثير من المعالم القديمة في ينبع البحر، أطل منزل "لورانس" بواجهته ونوافذه الخشبية بعد أن صار على هيئته الجديدة بعد الترميم مثل يوم سكن فيه الضابط البريطاني أو أفضل، إلا أن جولتنا في المساء المتأخر من دون التنسيق مع الجهة المعنية بشؤون المنزل التاريخي جعلت الدخول إليه متعذراً، لكن محافظة المدينة في حديث خصت به "اندبندنت عربية" ذكرت أن البيت أصبح "أحد المعالم التاريخية المهمة في السعودية، وهو المنزل الذي أقام فيه الضابط البريطاني الشهير توماس إدوارد لورنس، المعروف بـ "لورنس العرب"، خلال الحرب العالمية الأولى أثناء دعمه الثورة العربية الكبرى، حيث يقع البيت في المنطقة التاريخية بمدينة ينبع البحر على شارع البحر، ويطل مباشرة على ساحل البحر الأحمر، ويعتبر جزءاً من التجمع المعماري التراثي المميز للمدينة". لكن سكاناً في المدينة يشيرون إلى أن المبنى لا يزال تحت الترميم، كما أن هناك روايات مختلفة حول هوية البيت الذي سكن لورانس بالتحديد، هذا إن لم يكن سكن أكثر من بيت!
ولا يزال جزء من المدينة التاريخية أثناء جولتنا يخضع للترميم بإشراف من وزارة الثقافة السعودية ممثلة في "هيئة التراث" التي أحاطته بسياج، وتؤكد المحافظة في إجاباتها علينا أن البيت المحدد أقام فيه المسؤول البريطاني بالفعل "بين عامي 1915 و1916 حين كان يعمل مستشاراً للمخابرات البريطانية ومشاركاً في تنسيق الدعم للثورة العربية ضد الدولة العثمانية، واستخدمه كمقر سكن وعمل نظراً إلى موقعه الإستراتيجي القريب من الميناء"، مشيرة إلى أن المنزل يتميز بطرازه "المعماري التقليدي، إذ بُني من الحجر المرجاني ويزدان بالنوافذ الخشبية والمشربيات، ويتكون من طابقين مع شرفات تطل على البحر، وقد خضع لترميم شامل عام 2020 ضمن مشروع تطوير المنطقة التاريخية بإشراف وزارة السياحة، ويستخدم اليوم كمعلم سياحي وثقافي مفتوح للزوار يضم لوحات تعريفية وصوراً توثق لتاريخ لورنس ودوره في المنطقة، ويشكل نقطة بارزة ضمن جولات 'ينبع التاريخية' مع دخول مجاني ضمن هذه الجولات".
صدى بيت ينبع في بريطانيا
وقال أحد السكان المحليين، والذي تحدث إلينا من دون الرغبة في ذكر اسمه، إن "الاهتمام البريطاني بالمكان لافت، فأي قنصل جديد في جدة يزور عادة ينبع ليلقي نظرة على البلدة التاريخية والمكان، فضلاً عن السياح"، ويؤكد صدقية ذلك اهتمام الإعلام في لندن بتطورات المكان، فقد احتفت صحيفة "تلغراف" بإعادة ترميم المنزل ونقلت عن رئيس جمعية "تي إي لورانس"، فيليب نيل، أن الأخير ربما أمضى أياماً فقط في منزل ينبع لأنه كان "في حال تنقل دائم"، ولكن على رغم ذلك فإنه يحظى باهتمام السياح.
وقال "يبدو أن السعودية تنفتح في كل الاتجاهات وأنا متأكد من أن محبي لورانس سيكونون حريصين على الذهاب وزيارة هذا المنزل"، مضيفاً أنه يمكن أيضاً تطوير مواقع أثرية أخرى في شبه الجزيرة العربية والأردن، حيث "لا تزال هناك بقايا قطارات ملقاة في الصحراء التي فجرها لورانس"، وذلك لأن "لورانس" شكل بدوره في الثورة العربية ضد الأتراك رمزاً للدور البريطاني في المنطقة الذي لا تريد له لندن أن ينسى، ولا سيما في الجوانب المشرقة من العلاقة التي أخذت طابعاً إستراتيجياً مع السعودية والخليج والأردن، بينما لم ترغب السفارة البريطانية في التعليق على سؤال "اندبندنت عربية" لها عن ما يشكله إرث ضابطها السابق من أهمية بالنسبة إليها في الوقت الحالي الذي أعيد فيه الزخم للروابط الثقافية والتاريخية بين لندن والرياض.
أما لورانس الذي أحب العرب بعد أن عرفهم عن قرب فإنه يقول عن تجربته المحورية التي بدأها من ينبع في إحدى خلاصات كتابه "أعمدة الحكمة السبعة"، إن المستشارين في الدول الغربية لم يكونوا قادرين على استيعاب "روح العربي والقوة المستترة خلف قضيته".
ماذا يقول لورانس عن تلك الأيام؟
ويروي في مذكراته كيف أن المدينة كانت "قلبنا النابض على البحر الأحمر، وشريان حياتنا المفتوح على بريطانيا"، فعلى رغم أنها كانت محاطة بالخطر من كل جانب فقد أظهر العرب فيها، على قلتهم، "ثباتاً عجيباً على رغم غارات الأتراك ومحاولاتهم استردادها"، وكان البحر في ينبع بالنسبة إلينا "الملاذ الوحيد الذي ننتظر منه المؤن والسفن الحربية البريطانية التي تحمينا".
وبينما كان الأتراك يزحفون من البر يقول، "نحن نحتمي بالبحر وصمدنا، وفي تلك الليالي، وسط الصحراء والبحر، وأنا أسمع أصوات المآذن والأمواج معاً، وأرى في أعين المقاتلين العرب حلم الحرية يتقد على رغم الجوع والبرد والخوف".
وعلى رغم ما أثارته شخصيته من انقسامات بين من يرى فيها مغامرة فردية ومن يعتبرها امتداداً لسياسات الإمبراطورية البريطانية، فإن حضور لورانس لم يخفت في السرديات الغربية بل أعيد إحياؤه لاحقاً في أعمال سينمائية وأدبية ووثائق رسمية شكلت مرجعاً دائماً لذاكرة تلك المرحلة، فيما لا يعدو في السعودية كونه مثل غيره من العابرين "رجل جاء وذهب".
وفي سيرته "أعمدة الحكمة" اعتبر لورنس أن فشل العثمانيين في الاستيلاء على ينبع في ديسمبر (كانون الأول) 1916 كان نقطة تحول حاسمة في الحملة على الشرق الأوسط، قائلا "في تلك الليلة أعتقد أن الأتراك خسروا حربهم"، وبعد تراجع القوات المحلية وخوفها من هجوم عثماني، سارع لورنس وضباط بريطانيون آخرون إلى الدفاع عن المدينة، وقد أنقذ وصول خمس سفن حربية بريطانية بمصابيحها الكاشفة ومدافعها الموقف بردع العثمانيين، مما مكن القادة العرب ولورنس من إعادة تجميع قواتهما وإطلاق حملة حرب العصابات الشهيرة لاحقاً، بما في ذلك الهجمات على السكك الحديد والمسيرة الكبرى نحو العقبة التي خلدتها لاحقاً السينما العالمية.
ومن المفارقات أن الضابط الذي خاض مع رفاقه معظم معارك الثورة العربية قضى في حادثة دراجة نارية عن 46 سنة في بريطانيا، حيث أقيم ضريحه بجوار كاتدرائية القديس بولس في لندن وصار من معالم البلاد التي يهتم بها ورثته من المستشرقين وأصدقاؤهم العرب.