ملخص
رفع الفنان علم البلد المستضيف أو التعبير عن عرفانه للاستقبال الحافل رد فعل طبيعي إلا أن مجموعات وأفراداً ينسب لها "فعل" أو "فضل" صناعة "ترند" "إلغاء حفل سكوربيونز في مصر" اعتبرت أن إحياء فنان أو فريق حفلاً في إسرائيل يعد تطبيعاً مرفوضاً، وأن رفع أعضاء الفريق علم أوكرانيا على أحد مسارح إسرائيل في حفل أقيم عام 2022 لم يصحبه رفع علم فلسطين مما يعني بالضرورة أن الفريق مطبع مع الكيان الصهيوني وداعم للإبادة ومتنصل من حق الفلسطينيين.
استيقظ المصريون ذات صباح على وقع "ترند" غير معتاد "إلغاء حفل سكوربيونز في مصر". ردود الفعل جاءت متناقضة، بعضهم لجأ إلى "غوغل" مترجماً كلمة "سكوربيونز" ليجدها تعني "العقارب"، والبعض الآخر طرح السؤال على تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليفهم أصل الحكاية. آخرون قفزوا فرحاً، حيث فرقة الهارد روك المفضلة لديهم في أيام شبابهم تعود إلى مصر مجدداً. قلة قليلة هي من انتفضت غضباً، وهرعت للدق على شاشاتها لتوسيع قاعدة الغضب وتكثيف الضغط على الجهات المنظمة لمنع قدوم الفريق الذي صُنف بـ"الداعم لإسرائيل".
بين "ترند" وضحاه، تحولت إحدى أشهر فرق الهارد روك والميتال في العالم إلى "الفريق الداعم لإسرائيل" و"الفريق المناهض للفلسطينيين"، وفي قول آخر "الفريق الإسرائيلي". أدلة الإدانة صور فوتوغرافية لأعضاء الفريق الموسيقي ذائع الصيت وهم يلوحون بأعلام إسرائيلية أو يحتفلون بها وهم على خشبة المسرح، مصحوبة بمحتوى يُضخ على مدى الساعة يحوي سرديات بعضها مطول عن تاريخ الفريق، وارتباطاته السياسية وانتماءاته الأيديولوجية وبعض آخر تصميمات غرافيكس أو مأخوذ من موقع الفريق وصفحات معجبيه كثيرة، لكن مصحوب بمقالات وتنظيرات من بنات أفكار صناع المحتوى.
صعود "الترند"
صعود الفريق الألماني لقمة "الترند" المصري لم يأتِ من فراغ، بل أتى على وقع حرب غزة، ورفع علم إسرائيل، وتنقيب عن سجل الفريق في إحياء حفلات في إسرائيل.
بدأ "الترند" بأنباء عن احتفال فريق "سكوربيونز" بمرور 60 عاماً على تأسيسه، وقراره بتنظيم جولة غنائية في كل من أبوظبي والقاهرة عنوانها هو اسم إحدى أغنياتهم "العودة إلى الوطن". إلى هنا والأمر طبيعي، لكن في ظل عامين من حرب ضاربة تشنها إسرائيل في غزة، وعلامات توسع العمليات العسكرية الإسرائيلية لتشمل دولاً عربية أو مجموعات في دول عربية، وإحياء الفريق عدداً من الحفلات الفنية في إسرائيل على مدى أعوام، رأى بعض المصريين ضرورة إلغاء حفل القاهرة كشكل من أشكال الدعم لغزة وأهلها، ورفض موقف إسرائيل.
وعلى رغم أن بعضهم أبدى دهشة لاستمرار أعضاء الفريق في الغناء والعزف، إذ إن متوسط أعمارهم منتصف السبعينيات، فإن غضب آخرين غطى على الدهشة. المنقبون عن المعلومات عثروا على صور لحفلات الفريق في إسرائيل عبر أعوام، ومعها مقاطع من تقارير صحافية تتحدث عن استقبال الجمهور الإسرائيلي لهم، وإهدائهم العلم الإسرائيلي، ومجاملات أعضاء الفريق وهم يتحدثون عن جمال الجمهور وروعة الحفلات وحفاوة الاستقبال.
ماذا عن علم فلسطين؟
وعلى رغم أن كل ما سبق رد فعل طبيعي لأي فنان أو فرقة يحيي حفلاً في بلد أجنبي، فإن مجموعات وأفراداً ينسب لها "فعل" أو "فضل" صناعة "ترند" "إلغاء حفل سكوربيونز في مصر"، اعتبرت أن إحياء فنان أو فريق حفلاً في إسرائيل يعد تطبيعاً مرفوضاً. واعتبر هؤلاء أن رفع أعضاء الفريق علم أوكرانيا من على أحد مسارح إسرائيل في حفل أقيم عام 2022 لم يصحبه رفع علم فلسطين، مما يعني بالضرورة – بالنسبة إلى هؤلاء - "تطبيعاً مع الكيان الصهيوني ودعماً للإبادة وتنصلاً من حق الفلسطينيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعيداً من أن فكرة "التطبيع مع إسرائيل" ترتبط بصورة رئيسة بالدول التي لم تُقم علاقات مع إسرائيل، لا سيما العربية، وتلوح في الأفق احتمالات إقامة علاقات أو ما شابه، بمعنى آخر، فإن الحديث عن "تطبيع ألمانيا مثلاً أو فرنسا أو أميركا مع الكيان الصهيوني"، هو حديث عربي بحت عن شيء لا وجود له أصلاً.
المحتوى الأدق والأكثر منطقية لدعوات الإلغاء مصدره مجموعات مصرية وأخرى عربية لفرق صغيرة تعزف موسيقى الهارد روك والميتال، أي التي تقدمها "سكوربيونز" على مدى 60 عاماً. إحدى هذه المجموعات على "فيسبوك" واسمها "مجموعة الميتال العربي" كتبت السطور التالية "الميتال ليس فقط صراخاً، الميتال صوت الحق، أكثر من 30 فرقة ميتال في العالم قالت بصوت عالٍ: فري بالستاين"، ثم ذكرت أسماء الفرق الداعمة لفلسطين، وذلك لبيان الفرق بين هذه الفرق الداعمة لفلسطين، وبين "سكوربيونز" التي لم تعرب عن دعمها.
بيان الدعم
آخرون نشروا "البيان" الذي أصدره الفريق بعد ستة أيام عقب عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وجاء فيه "نشعر بصدمة بالغة إزاء الهجمات اللاإنسانية التي وقعت صباح السابع من أكتوبر ضد شعب إسرائيل. فقدنا أرواحاً كثيرة من المدنيين الأبرياء، شباب يرقصون على أنغام الموسيقى في مهرجان، يحلمون بالحب والسلام. القصص التي نسمعها من الناجين مفجعة! ندعو الآن من أجل إطلاق سراح الرهائن، وقلوبنا ودعواتنا مع الضحايا وعائلاتهم. نسأل الله أن يمن عليكم بالشفاء العاجل".
كان للبيان وترجمته بالعربية مفعول السحر في توسع دائرة "إلغاء حفل سكوربيونز في مصر" وانتشاره انتشار النار في هشيم "الترند".
الإلغاء من دون سابق معرفة
جماهير غفيرة، بينها من لا تجمعه سابق معرفة بالفريق، فلم يسمع عنه من قبل، أو لا يعرف نوع الموسيقى والأغنيات التي يقدمها، أو لا تعنيه من قريب أو بعيد، انضمت إلى الحملات الافتراضية المطالبة بإلغاء الحفل.
قلة قليلة تعبر عن اعتراضها على دعوات الإلغاء، لا سيما أن الفريق لم يدعم إسرائيل بالمعنى السياسي للدعم، ومن منطلق أن تقديم حفلات فنية في إسرائيل أمر معتاد من قبل آلاف الفرق والفنانين، ولا يمكن المطالبة بمقاطعتهم جميعاً، أو إلغاء حفلاتهم أو زياراتهم لمصر لمجرد أنهم قدموا فنونهم في إسرائيل أو لأنهم لم يلوحوا بعلم فلسطين أو ينددوا بـ"الإبادة".
في الوقت نفسه تبقى مقاطعة فنان أو المطالبة بإلغاء حفل أو تنظيم وقفة احتجاجية أمام مسرح، وذلك اعتراضاً على موقف سياسي أو أخلاقي لفريق أو فنان مسألة معروفة ومفهومة، لا سيما في ظل حروب أو صراعات تقتل وتصيب الآلاف.
تطبيع ثقافي
ومن قمة "الترند" التي ساعد في الوصول لها، والإبقاء عليها أياماً عدة داعمون لغزة وأهلها، وفلسطين وقضيتها، من دون شرط معرفة مسبقة بـ"سكوربيونز" أو أغنياتهم، إلى تقارير إعلامية مأخوذة من صفحات الـ"سوشيال ميديا" ومعضدة ببحث عنكبوتي محموم عن أصل الفريق واسمه وأشهر أغنياته، وذلك ضمن الخلفية الكلاسيكية للتقارير الصحافية.
الملاحظ أن بعضاً من هذه التقارير عدّ تقديم فريق "سكوربيونز" حفلات في إسرائيل على مدى عشرات الأعوام بمثابة "تطبيع ثقافي" مع إسرائيل، على رغم أن الفريق ألماني وأعضاءه ألمان.
رئيس اتحاد النقابات الفنية المخرج عمر عبدالعزيز قال في تصريحات صحافية إن "الاتحاد متمسك بموقفه الثابت الداعم للقضية الفلسطينية، ويرفض بصورة قاطعة أي صورة من صور التطبيع الثقافي"، مشيراً إلى اتصالات مكثفة مع نقيب المهن الموسيقية الفنان مصطفى كامل، وذلك ليُتخذ قرار رسمي في هذا الشأن.
عادات وتقاليد
ولوحظ في كثير من التعليقات استخدام عبارة "الحفاظ على عاداتنا الشرقية وتقاليدنا الإسلامية من الأخطار التي تعرضها مثل هذه الفرق الفنية، التي تسهم موسيقاها وأغنياتها في هدم الأخلاق وتخريب الدين"، وذلك من دون الإشارة إلى "دعم إسرائيل" التي يفترض أنها السبب الرئيس الذي انطلق "الترند" من أجله.
وفي السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن بعض المصريين يربط بين موسيقى الهارد روك والميتال من جهة، وهدم الأخلاق وإشاعة الفسق والفجور والكفر من جهة أخرى. ويمكن القول إن بعض المجتمعات والثقافات – وبينها بعض المصريين – أكسب موسيقى وأغنيات الميتال سمعة سيئة، ويتم الربط بينها وبين ما يطلقون عليها "الموسيقى الشيطانية" أو "عبدة الشيطان"، وهو ما يثير الذعر، بل ويؤدي أحياناً إلى حظر ومنع وتضييق بناءً على أقاويل وأحاسيس.
شيطنة الموسيقى
في كتاب عنوانه "30 سؤالاً حول الباطنية الغربية" (الباطنية بمعنى الخاصة بفئة أو مجموعة مغلقة وتتضمن جوانب روحانية غامضة أو سحراً أو تنجيماً أو ما شابه) (2020)، يجيب المؤلفون عن أحد الأسئلة وهو: لماذا كل هذه الأشياء الشيطانية في "الهيفي ميتال؟"، بقولهم "لا يوجد كثير من الأشياء الشيطانية في موسيقى الهيفي ميتال، على رغم أنه قد يبدو كذلك للشخص العادي"، لكن بما أن مثل هذه الإجابة غير مرضية، فلنعدل السؤال قليلاً "لماذا كل هذه الإشارات للشيطان في موسيقى الهيفي ميتال؟"، الآن وصلنا إلى مكان ما، في حين أن "الأشياء الشيطانية" الصريحة ليست واضحة تماماً في موسيقى الهيفي ميتال بصورة عامة، لا يمكن إنكار أن موسيقى الهيفي ميتال مشبعة بعمق بالإشارات إلى الشيطان والشياطين والمعارف الخفية من جميع الأنواع، ومع ذلك فإن هذه الإشارات تتخذ كثيراً من الأشكال المختلفة، سواء الشيطانية من قبل فرق غامضة، أو فرق مسيحية تناهض الشيطانية. وفي كل الأحوال، كلا المحتويين على تناقضهما يمثل جزءاً صغيراً من موسيقى الهيفي ميتال، إذ معظمها موسيقى وأغان كغيرها، ولا علاقة لها بمناهضة الشيطانية أو نشرها.
رياح التغيير العربية
الغريب أن مجموعات من الشباب العربي في الدول التي خاضت تجربة "الربيع العربي" عام 2011 اعتبرت إحدى أشهر أغنيات "سكوربيونز" وهي "رياح التغيير" أو Wind of Change من أغنيات "الثورة". الأغنية التي يعدها كثر "النشيد الوطني" لسقوط جدار برلين عام 1989، والتي حققت نجاحاً تاريخياً سيظل محفوراً في تاريخ الفن، إذ باعت نحو 14 مليون نسخة في العالم، وما زالت تعزف وتسمع في شتى أرجاء الأرض، دائماً تجد نفسها مكوناً في الأحداث التي ترفع رايات التغيير والتحرر والعدالة وإعادة الحقوق، سواء عادت فعلياً أو لم تعد.
"اتبع نهر موسكفا وصولاً إلى حديقة غوركي، أصغى إلى رياح التغيير، ليلة صيف من أغسطس، جنود يمرون، أصغى إلى رياح التغيير، العالم يضيق، فهل فكرتم يوماً أن نكون قريبين جداً كإخوة؟ المستقبل في الهواء، أشعر به في كل مكان. رياح التغيير تهب في وجه الزمن، كريح عاصفة تقرع جرس الحرية لراحة البال"، ما زالت كلمات "رياح التغيير" تثير قشعريرة لدى السامعين ممن عاصروا هبوب الرياح فعلياً، ومن حلموا برياح التغيير وإن لم يعاصروها.
ويروج بعض الغربيين لإشاعة قوامها أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هي من ألفت كلمات الأغنية، وأعطتها للفريق ليغنيها، وذلك للمساعدة في إسقاط الكتلة الشيوعية، وهو ما لم يتم إثباته.
دعاوى قضائية
ما تم إثباته قبل ساعات هو أن محاميين مصريين تقدما بدعوى قضائية ضد خمسة مسؤولين هم: وزراء الثقافة والسياحة والآثار والقوى العاملة، إضافة إلى رئيس الرقابة على المصنفات الفنية ونقيب المهن الموسيقية، وذلك في شأن حفل فريق "سكوربيونز" المقرر إقامته في العاصمة الإدارية الجديدة. تقوم الدعوى على ثلاثة محاور هي: المخالفات الإجرائية حيث عدم إتمام إصدار التراخيص والموافقات اللازمة، وتعارض الحفل مع الهوية والعادات والتقاليد المصرية وتعارض أغنيات الفريق مع الشرائع السماوية، إضافة إلى مواقف الفريق السياسية المثيرة للجدل والمتعلقة بالقضية الفلسطينية، واعتبارات لوجيستية خاصة بشروط الحضور، مثل الحد الأدنى لعمر الجمهور، وعدم اصطحاب الهواتف المحمولة وغيرهما.