ملخص
عاد بعض سكان الخرطوم إلى منازلهم بعد أشهر من النزوح ليجدوها مشغولة من قبل غرباء، في ظل غياب سلطة قانونية فاعلة.
تفاوتت حالات الاستيلاء بين تبريرات الحماية والاضطرار، بينما عجز المالكون عن استرجاع حقوقهم قانونياً، أو عبر المجتمع المحلي، وخبراء يحذرون من تطبيع الظاهرة ويطالبون بإدراج قضايا الملكية ضمن مسارات العدالة الانتقالية والتوثيق المستقبلي للانتهاكات.
منذ اندلاع الحرب في الخرطوم في أبريل (نيسان) 2023، اضطر معظم سكانها إلى مغادرة منازلهم والنزوح إلى ولايات ومناطق أخرى داخل السودان وخارجه. وبعد عامين من الغياب عاد بعض من هؤلاء السكان إلى عاصمتهم ليكتشفوا أن بيوتهم أصبحت مسكونة من قبل غرباء، بعضهم يدعي أنه "يحمي المنزل"، وآخرون استقروا فيها بصورة دائمة.
وتشير شهادات عدد من العائدين إلى تعرض ممتلكاتهم للاستيلاء من دون إذن، وفي بعض الحالات تم تغيير الإقفال، أو استخدام العقار لأغراض تجارية، أو سكنية من قبل أفراد أو مجموعات لا تربطهم صلة بالمالك الأصلي. يحدث كل ذلك في ظل غياب سلطة قانونية فعالة قادرة على حماية الحقوق أو الفصل في النزاعات المتعلقة بالممتلكات.
سعد سليمان موظف سابق في وزارة الزراعة غادر منزله في منطقة الكلاكلة جنوب الخرطوم خلال الأشهر الأولى من الحرب، يقول "عدت أخيراً إلى منزلي، لكن وجدت الباب الخارجي مخلوعاً ومعاداً تركيبه، بينما يسكن المنزل رجل يدعي أنه يحرسه بتكليف من جهة عسكرية. لم يتمكن أحد من الدخول، ولم يحصل على أي مستند قانوني يسمح لذلك الشخص بالبقاء في المنزل".
في منطقة الحاج يوسف بشرق النيل، تواجه منى الطاهر وهي أرملة وأم لخمسة أطفال، وضعاً مشابهاً، تقول "تركت شقتي في بداية الحرب ونزحت إلى مدينة سنار (تبعد عن الخرطوم 360 كيلومتراً باتجاه الجنوب الشرقي). وعندما عدت بعد قرابة عام، وجدت امرأة وأبناءها يسكنون الشقة، رافضين المغادرة"، وتابعت "لا أملك مكاناً آخر، والمنطقة أصبحت على هذه الحال، وأخشى المواجهة في ظل غياب الجهات الرسمية التي يمكن اللجوء إليها واسترجاع حقي".
أما في أركويت، شرق الخرطوم، فقد فوجئ سامي عبدالرحمن، وهو مهندس مدني، بتحول منزله إلى ورشة صيانة، وعند زيارته الأخيرة منزله، وجد أن الطابق الأرضي يستخدم كمحل لتصليح السيارات، بينما يقطن غرباء في الطابق العلوي، وقال "أخبرني الشخص الذي التقيته أن كل شيء أصبح مباحاً في ظل غياب الدولة ولم أجد طريقة قانونية لاسترداد المنزل أو حتى جزء منه".
القانون السوداني
المحامي محمد عبدالرؤوف المتخصص في قانون الأراضي والعقارات أوضح أن "الأصل في القانون السوداني هو حماية الملكية الخاصة، ويعد أي دخول أو سكن في عقار من دون إذن المالك أو تفويض رسمي تعدياً صريحاً يجرمه القانون الجنائي"، وأضاف "الإشكال الحالي لا يكمن في النصوص، بل في غياب الجهاز التنفيذي الذي ينفذ القانون ويحمي الحقوق، إذ إن كثيراً من الحالات التي تم فيها الاستيلاء على المنازل تبرر من قبل شاغليها باعتبارات إنسانية أو أمنية، مثل توفير مأوى للنازحين أو حماية الممتلكات من النهب، لكن هذه المبررات لا تمنحهم قانوناً أي صفة حيازية، حتى في حال وجود نازحين يسكنون منزلاً فارغاً، يظل الأصل القانوني هو ضرورة العودة إلى المالك أو ممثله الشرعي، وليس التصرف بناء على الأمر الواقع"، وأكد أن "الوضع القائم سيخلق، مستقبلاً، نزاعات قانونية واسعة النطاق، لا سيما عند استقرار الأوضاع وعودة أصحاب الأملاك بأعداد أكبر"، وأشار إلى "ضرورة أن تتدخل الجهات القانونية، مستقبلاً، بآليات الوساطة أو لجان لحصر التعديات، بدلاً من ترك الأمور تتفاقم إلى مستوى العنف الأهلي"، وختم المتخصص في قانون الأراضي والعقارات "الحلول القانونية، في الوقت الحالي، شبه معدومة، ولا يمكن اللجوء إلى القضاء إلا في حال استعادة الحد الأدنى من عمل المحاكم والشرطة في العاصمة، وتوثيق حالات التعدي بالصورة أو عبر شهود سيكون ذا أهمية في المستقبل، بخاصة في حال ظهور لجان عدلية أو آليات جبر ضرر كجزء من عملية العدالة الانتقالية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتفاقات شفهية
في ظل غياب المؤسسات الرسمية، برز دور بعض لجان المقاومة والمجموعات المجتمعية المحلية كمصدر للمراقبة والتوثيق.
عبدالرحمن الفاتح عضو في لجنة مقاومة بأحد أحياء جنوب الخرطوم، قال "رصدنا عشرات الحالات التي تم فيها الاستيلاء على منازل منذ يونيو (حزيران) 2023، بعضها من قبل نازحين مدنيين، وأخرى من قبل مجموعات مسلحة أو أفراد مرتبطين بها"، وتابع "نحاول فقط أن نوثق ونوصل المعلومات للجهات الحقوقية، لكننا لا نملك سلطة إخراج أحد من منزل أو فرض احترام للملكية الخاصة"، وأشار الفاتح إلى أن "بعض السكان العائدين تعرضوا للتهديد أو المنع من دخول منازلهم، في حين لجأ آخرون إلى اتفاقات شفهية مع الشاغلين لتقاسم السكن موقتاً، خصوصاً في حال وجود عائلات نازحة"، منوهاً بأن "الاستمرار في هذا الوضع من دون تنظيم أو مرجعية قانونية سيخلق صراعات مجتمعية أوسع مستقبلاً". وواصل "لجان المقاومة، على رغم دورها في الحي، أصبحت عاجزة عن التدخل المباشر بسبب التعقيد الأمني والانقسام السياسي، وتخشى كثيراً من الصدام مع أي جهة مسلحة أو من تبعات التدخل في نزاعات عقارية من دون غطاء قانوني"، ودعا عضو لجنة المقاومة إلى "تشكيل آلية مدنية توثق الانتهاكات المتعلقة بالممتلكات الخاصة، ضمن أرشيف يمكن الاستناد إليه مستقبلاً في أي مسار للعدالة الانتقالية أو جبر الضرر، حتى لا تضيع الحقوق".
تطبيع الاستيلاء
يرى متخصصون في قضايا النزاع والعدالة الانتقالية أن ظاهرة الاستيلاء على المنازل خلال النزاعات المسلحة ليست جديدة، لكنها تصبح أكثر خطورة عندما تترك من دون توثيق أو معالجة قانونية لاحقة، مما يهدد بتقنين التعدي على الملكيات الخاصة وخلق نزاعات طويلة الأمد بين السكان.
وقال الباحث في قضايا النزاع فضل الماحي "مما يحدث في الخرطوم من استيلاء على المنازل يتجاوز كونه سلوكاً فردياً أو اضطراريا، إلى كونه مؤشراً إلى هشاشة الدولة وانهيار مفهوم الحيازة القانونية أثناء النزاع"، مضيفاً "المشكلة لا تكمن فقط أن هناك من استولى على منازل ليست له، بل في أن البيئة العامة باتت تتقبل ذلك كأمر واقع، في ظل غياب الدولة. هذا ما نسميه تطبيع الاستيلاء، وهو أحد أخطر مهددات العودة السلمية بعد النزاع"، وتابع الماحي "هناك تجارب عديدة في دول مرت بصراعات مشابهة، مثل سوريا والعراق، أظهرت أن التأخر في معالجة قضايا السكن والملكية قد يؤدي إلى نزاعات مجتمعية، ويعقد أي مسار للسلام أو المصالحة"، ولفت إلى أن "الأمر لا يتعلق فقط بإرجاع البيوت، بل باستعادة الإحساس بالعدالة، وضمان ألا تكون الملكية هدفاً للانتقام أو الاستغلال في أوقات الأزمات"، وأوصى الباحث في قضايا النزاع والعدالة الانتقالية بأن يتم تضمين قضايا استرداد الممتلكات والتعويض في أي تسوية سياسية مستقبلية، عبر لجان مستقلة ومحايدة تنظر في دعاوى الملكية وتتحقق من الوقائع، فضلاً عن ضرورة أن تبدأ منظمات المجتمع المدني والجهات الإعلامية في بناء أرشيف توثيقي دقيق لحالات الاستيلاء، لأن العدالة تبدأ من التوثيق، لا من المحاكم.