ملخص
أقام أصدقاء الممثل السوري أديب قدورة الذي رحل أخيراً لقاءً تكريمياً تحدثوا فيه عن خصائص تجربته في عالم التمثيل السينمائي والمسرحي والدرامي وعن الموقع الذي يمثله في حركة الدراما السورية.
ينتمي أديب قدورة (1948-2025) إلى خامة خاصة من الممثلين الذين استطاعوا أن يكونوا من نجوم شباك التذاكر في السينما السورية. بداياته في الفن التشكيلي الذي درسه في معاهد حلب ساقته للعمل مصمم ديكورات وإضاءة لعديد من الأعمال في مسرح الشعب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. بعدها انتقل الفنان السوري من أصول فلسطينية إلى الوقوف على الخشبة كممثل، بل ولعب أدوار بطولة في عروض من مثل "هبط الملاك في بابل" و"الأيام التي ننساها" و"الحب والشتاء". والفرصة الأهم في مسيرته كانت عندما التقطته عين المخرج الراحل نبيل المالح ليجسد دور البطل الشعبي أبو علي شاهين في فيلمه "الفهد" عام 1972، وعن رواية بالعنوان نفسه لحيدر حيدر، مما وضعه في واجهة الحياة الفنية السورية.
كان على أديب قدورة ألا يركن للنجاح والجوائز العديدة التي حصدها عن دوره في فيلم "الفهد"، فلقد كرر التجربة مجدداً في فيلم المالح الثاني "بقايا صور" عام 1980 عن رواية لحنا مينة. وفي كلا الشريطين المذكورين لمع وجه هذا الفنان بتجاعيده الأصلية وصوته الأجش العميق، اجتاز بعدها ابن مدينة ترشيحا الفلسطينية خيبات عديدة وخصومات الوسط الفني، خصوصاً أن اسمه أصبح بمثابة ضمان للربح والتسويق لمنتجي سينما القطاع الخاص، فلقد حقق مع الممثلة إغراءً ثنائياً لافتاً في أفلام من قبيل "عرس الأرض" عام 1978، و"الحسناء وقاهر الفضاء" عام 1975، تجربة وصفت بالجريئة تخللتها مشاهد حميمية تعرضت لهجوم لاذع من الصحافة والنقاد، وجعلت أديب قدورة ينكفئ مرة أخرى نحو عزلته التي كان يقضيها في مرسمه مصوراً ورساماً.
لكن، ومرة أخرى، تطير شهرة هذا الممثل إلى مهرجانات السينما في قرطاج وتشيكوسلوفاكيا وإيطاليا، ويعود بقوة إلى الشاشة الكبيرة عبر تجارب دولية، كان أبرزها مشاركته في الفيلم الإيطالي "الطريق إلى دمشق"، والفيلم الإيراني - اللبناني "الاجتياح". تجربتان دفعت اسم هذا الممثل مجدداً إلى سوق الفيلم العربي في مصر، فقدم أدواراً إلى جانب كل من صلاح ذو الفقار وفريد شوقي وعزت العلايلي. مما جعله يترشح لجائزة أفضل ممثل في آسيا وأفريقيا في مهرجان أيام قرطاج السينمائية لعام 1980. لعب بعدها "فهد" السينما السورية (وهو لقبه الأبرز) شخصيات مركبة وصعبة في سلسلة أنتجتها دائرة السينما في التلفزيون السوري، وكان من أبرزها "الميلاد" و"الهدف" و"عجاج أبو الليل"، ليعاود الظهور في أفلام فرنسية وإيطالية كان من أبرزها "القتلة في طرق دمشق" و"عمر الخيام"، إضافة للعبه دور البطولة في أفلام من مثل "بنت شرقية" و"الحب المزيف"، و"الانتقام حباً".
من السينما إلى التلفزيون
نجاحات قدورة في السينما جعلت مخرجي التلفزيون يلتفتون إلى موهبته الخاصة أمام الكاميرا، فتصدر اسمه بطولة أكثر من 50 عملاً في الشاشة الصغيرة، لعل أبرزها مسلسلات "عز الدين القسام"، و"الحب والشتاء" و"الدخيل" و"حصاد السنين" و"امرأة لا تعرف اليأس". نجومية جعلت عديداً من النقاد يطلقون على صاحبها ألقاباً متعددة، فثمة من أطلق عليه لقب "مارلون براندو السينما السورية" وآخرون نعتوه بـ"أنطوني كوين العرب". لكن كل هذه الألقاب لم تعف الفنان من معاقبته وإقصائه لسنوات طويلة عن الشاشة، لا سيما من رفاق المهنة.
سنوات طويلة قضاها أديب بعيداً من الأضواء، إلى أن سجل حضوره الأول بعد غياب عام 2012 في الفيلم الروائي "توتر عالي" مع المخرج المهند كلثوم، وفيه ظهر قدورة باسم شخصية "أبو فهد"، وجسد فيه شخصية أحد أبناء غوطة دمشق الهاربين من ويلات الحرب، والذي يستحضر حبيبته الميتة قرب نهر بردى وأشجار الدراق في مشهد وداعي يرثي ما آلت البلاد إليه من خراب ودمار وقتل عبثي. استعادة لافتة لوجه الممثل السبعيني أعادته مجدداً إلى أذهان الجمهور، وقدمت قدورة كأحد أبطال الزمن الجميل للسينما السورية.
وأخذ البعض على أديب قدورة العمل لمصلحة تيارين في السينما. الأول قدمه كأيقونة وكصورة بطل شعبي يرفض ظلم الإقطاع وقوات الأمن، أما الثاني فقدمه كشاب وسيم تطارده الحسناوات بين مرابع السهر وأحضان الشقق الفخمة. معادلة لم يكن من اليسير على أديب إدارتها بما يحافظ على حضوره، ويمنعه من الانجراف إلى أهواء سينما القطاع الخاص. وعلى رغم هذا بقي كثير من معجبي وعشاق هذا الممثل يعدونه مثالاً للأداء الفطري، ونموذجاً لتجسيد أدوار صعبة تحتاج لياقة بدنية ولأدوات تعبير خاصة داخل الكادر السينمائي. مهارة كان "الفهد" قد اكتسبها من عمله الطويل في مسرحيات لرواد المسرح السوري، كان من أبرزهم حسين إدلبي ورياض عصمت ووليد إخلاصي وآخرون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عاش أديب قدورة مرارة التهجير القسري عن بلاده الأم فلسطين، وشهد هجرة عائلته من ترشيحاً في قضاء عكا إلى بيروت، ومنها إلى مخيم النيرب قرب مدينة حلب. رحلة النزوح هذه تركت في نفسه كطفل صوراً من التشريد والجوع والفقر، واضطر باكراً للعمل لإعالة أسرته، مما فتح أمامه تجارب الحياة ومكابداتها، وأسهم في بناء مخيلة لفن الرسم الذي أجاده قبل التعلم في الأكاديميات الحلبية، لينتقل بعدها لتدريس التصوير في ثانويات عاصمة الشمال السوري، والإطلالة على عالم الفن التشكيلي. خبرة الرسم والتصوير أكسبته مهارات مختلفة في قراءة الشخصية ورسمها أمام الكاميرا، ودفعته إلى نحت شخوصه بفحم لحيته الكثة ورخامة صوت رجولي ميزه في فن الإلقاء المسرحي.
رحل أديب قدورة عن عمر 76 سنة بعد معاناة طويلة من مرض عضال، لكن الحادثة التي تعرض له في أثناء تجسيد شخصية في مسلسل بدوي أسهمت في تدهور حالته الصحية، ونعته نقابة الفنانين السوريين، وكتب عديد من زملائه في الوسط الفني على حساباتهم الشخصية في وداعه، فكتب الفنان أيمن زيدان في رثائه على "فيسبوك"، "كم هو موجع رحيل أديب قدورة (فهد) السينما السورية. عملنا معاً في مسلسلي (جواد الليل) و(تل الرماد). لروحه الرحمة والسكينة"، فيما كتب المخرج المهند كلثوم "فهد الشاشة الفنان العربي أديب قدورة هو الحب، هو الشغف بالذاكرة الوطنية السورية. هذا الرجل ذو القامة السينمائية المديدة. الرجل الذي يحمل في أرشيفه الشخصي 38 فيلماً كبطولة مطلقة وبطل فيلمنا (توتر عالي) وذاكرة الزمن الجميل. لترقد روحك بسلام".
ويستعيد بيت السينما في دمشق أفلام الراحل الكبير عبر فيلم وثائقي يقوم المخرج المهند كلثوم حالياً بإجراء آخر العمليات الفنية عليه، إذ سيعرض الشريط قريباً في سينما الكندي في دمشق، ويكون بمثابة تحية لهذا الفنان الذي عمل بصمت طوال سني حياته، ويزخر الشريط بمواد فيلمية تعرض للمرة الأولى عن ميسرة قدورة، إضافة لكواليس تصوير عديد من أفلامه التي صورت داخل البلاد وخارجها.