Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأخوان داردن بلغا العالمية انطلاقا من بيئتهما البلجيكية

شخصيات مهمشة أمام كاميرا محمولة مع غياب الموسيقى التصويرية

 "روزيتا" أول فيلم نال عنه الأخوان سعفة "كان" (ملف الفيلم)

ملخص

لا يتعامل الأخوان البلجيكيان جان بيار ولوك داردن مع السينما كوسيلة للترفيه. هذا الفن الذي أحسنا توظيفه في خدمة القضايا الاجتماعية، هو بنظرهما فضاء للنقاش.

على مدى أكثر من ثلاثة عقود، نسج الأخوان جان بيار ولوك داردن معاً لغة سينمائية متقشّفة هاجسها تفكيك لحظة التحوّل لدى الإنسان المقهور، باعتبارها خلاصاً. ما يميّز أعمالهما التي شاهدنا أحدثها، "أمهات شابات"، في مهرجان "كان" الأخير إذ سبق أن فازا بـ"سعفتين"، هو انحيازها للمهمشين ورهانها المستمر على إمكان التحول الأخلاقي حتى في أحلك الظروف. يقول جان بيار داردن، وهو الأخ الأكبر البالغ من العمر 74 سنة: "في كل مرة نباشر في الكتابة، نراهن على شيء واحد: تلك الفرصة التي ستجعل الشخصية تتغير". هذه الجملة، على رغم بساطتها الظاهرية، تلخّص المشروع الفني للأخوين. إنها السينما التي تراهن على الكائن والاحتمالات التي أمامه، بعيداً من العقاب والحكم الأخلاقي. 

ليس من الصدفة أن معظم الشخوص في أفلامهما يعيشون في عزلة اجتماعية ونفسية. يوضح الأخ الأصغر لوك داردن، 71 سنة: "تساءلنا ذات يوم: من هي الشخصيات التي بدأت تولد من جديد في هذا المجتمع؟ وجدنا أنها الشبان الذين يعيشون في الوحدة والعزلة. هؤلاء ليسوا ضحايا نمطيين بل نتاج تحوّلات بنيوية طرأت على المجتمعات الأوروبية منذ التسعينيات: انهيار المنظومة الصناعية، تقلّص شبكات الأمان الاجتماعي، صعود الفردانية الاقتصادية على حساب التضامن". 

في هذا السياق، أصبح العاطل من العمل ليس فقط شخصاً بلا دخل، إنما كائن فقد اعتراف المجتمع به. وفي سينما الداردن، تُرصد هذه العزلة من الداخل، لتصبح شأناً سوسيولوجياً، قبل أن ترتقي إلى تجربة ملموسة تتجلى في لغة الجسد، فيتحول الفيلم إلى مختبر لتشريح الإحساس بالخسارة. 

كثيراً ما تضع أفلام الداردن الشخصيات في مواقف تتطلب رد فعل أخلاقياً، لكنها لا تفرض عليها الخلاص، تتابع ببطء وبلا انفعال كيف تتبلور لحظة القرار. برونو في "الطفل" يبيع ابنه ثم يبدأ في إدراك فداحة ما فعل. إيغور في "الوعد" يكبت ضميره في البداية، لكنه يعود ليواجه مسؤوليته تجاه المهاجر الميت. روزيتا التي تبحث بيأس عن وظيفة، تصل في النهاية إلى لحظة مفصلية تعيد فيها تعريف علاقتها بذاتها والآخرين. التحوّل هو دائماً اشتعال بطيء من الداخل، إنه عبور أخلاقي لا يخلو من لحظات تردد. يقول جان بيار في هذا الصدد: "شخصياتنا تعبر صدمة نفسية عنيفة، لكن يمكنها أن تتغيّر". هذه القناعة تنقذ سينما الداردن من الوقوع في فخ التشاؤم التام أو الوعظية، وتُدخلها إلى مساحة سينمائية نادرة: الواقعية الأخلاقية.

يبدو أسلوب الأخوين داردن شديد التقنية في ظاهره: كاميرا محمولة، غياب الموسيقى التصويرية، حوارات قليلة، مواقع تصوير طبيعية، لكن هذه العناصر جزء من رؤية فلسفية شاملة. "السر في أن تبقى بسيطاً"، يردد جان بيار، مضيفاً أن هدفهما هو أن "تكون التقنيات أخف ما يمكن". البساطة هنا ليست شحاً في الإمكانات بقدر ما هي تقشّف أخلاقي يرفض التجميل أو التعالي. هذا التقشف يفرض بدوره شروطاً على الممثلين، فهم يعيشون حالات أكثر مما يؤدون أدواراً. ولهذا قلما يعمل داردن مع نجوم. ليس بدافع رفض النجومية وحسب، إنما بسبب قناعة بأن السينما الحقيقية تُصنع مع من يقبل الخوض في تجربة مفتوحة، لا مع من يبحث عن ضمانات.

انطلاقة وثائقية

انطلق الأخوان من الوثائقي، أنجزا ستة أفلام من هذا النوع في بداياتهما، لكن لم يتخليا عنه كمرجعية، فهو في نظرهما ليس نوعاً سينمائياً إنما طريقة في النظر. يوضح لوك بالقول: "الوثائقي مدرسة تعلّمنا منها النظر والاستماع... يجلس قبالتك رجل ليس ممثلاً وعليك إدراجه في فيلم. ينبغي على المخرج أن يجد العلاقة الصحيحة معه". هذه النزعة التوثيقية فتحت المجال لنوع خاص من الكتابة السينمائية، حين تُبنى الحبكة انطلاقاً من مبدأ اكتشاف بطيء للشخصيات. لذلك، فإن أفلام الداردن لا تسرد القصص بقدر ما تخلق حالات، تتيح للمُشاهد أن يدخل في حال موازية لما تعيشه الشخصيات.

في أحد أكثر أقواله دقة، يجيب جان بيار عن سؤال حول قدرة السينما على تغيير العالم بالقول: "أقل ما آمله ألا تكون السينما مجداً باطلاً". تصريح يتجلى فيه تواضع النظرة: فالسينما ليست أداة للتغيير السياسي المباشر، لكنها ليست بلا أثر تماماً. إنها فن يحرك شيئاً عند الإنسان يصعب تحديده، يربك المُشاهد، يوقظه، يحضّه على التفكير.

في مقابل ما يسميه بعض المتابعين بـ"السينما العالمية"، يتمسك الأخوان بخصوصية المكان واللغة والجسد. لهذا، قلّما يخرج الأخوان من بلجيكا أو من لياج تحديداً، لأنهما يعلمان أن القصص الحقيقية تولد من معرفة حميمة بالمكان والناس واللهجة. في هذا الصدد، يقول لوك: "كل سينما من سينمات العالم وُلدت في بقعتها الجغرافية... هناك شيء عالمي في النظرة، لكن كل منا يملك خصوصية، على السينما تداركها". المفارقة أن هذه المحلية هي ما يمنح أفلامهما طابعاً كونياً. العزلة، الفقر، الشعور بالذنب، التوبة، كلها مشاعر لا تحتاج إلى ترجمة للغات أخرى. لذا، حين نرى روزيتا تسير في الشوارع بحثاً عن عمل، لا نراها كفتاة بلجيكية. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على رغم حضورها السياسي الضمني، فلا تنتمي سينما الداردن إلى خطاب أيديولوجي. فهي ليست يسارية بالمعنى التقليدي، تكتفي بطرح الأسئلة ولا تأتي بحلول. وكما يقول جان بيار، فهما لا يدخلان المطعم ويختاران من قائمة الطعام، إنما يصنعان السينما التي يعرفان مفاتيحها. لا يسعيان إلى تأكيد فرضيات عقائدية شمولية. ولعل ما يميز هذه السينما هو نزوعها نحو أخلاقية بلا أخلاقوية، أي نحو طرح الأسئلة من دون تفوّق أخلاقي، وترك المجال للمشاهد كي يشارك في اختبار التردد، بدلاً من حشو رأسه برسائل جاهزة. بهذا المعنى، فإن سينما الداردن لا تبغي استعراض البؤس، ولا تقدم نفسها كمتحدثة باسم المهمشين. تتعامل مع هؤلاء كذوات تتغير، تتألم وتخطئ. بدلاً من النظر إليهم بشفقة، كما يفعل كثير من الأفلام، نراهم يُمنَحون احتمال أن يصبحوا شيئاً آخر غير ما فُرض عليهم.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما