Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الممرات الصحراوية... جغرافيا آمنة للجماعات الإرهابية

تسيطر عليها القبائل وتستخدمها التنظيمات في تهريب السلاح ونقل المقاتلين وتوزيع الغنائم وتأمين خطوط الإمداد

تشكل الممرات الصحراوية بيئة مثالية للتنظيمات الإرهابية لا سيما في ظل تفاقم آثار تغير المناخ (أ ف ب)

ملخص

تشكل هذه الممرات بيئة مثالية للتنظيمات الإرهابية، لا سيما في ظل تفاقم آثار تغير المناخ، ففي منطقة الساحل الوسطى، تتقاطع هشاشة الدولة مع قسوة الطبيعة، ما يخلق فراغاً مزدوجاً تستغله التنظيمات المتطرفة لترسيخ حضورها، وترتفع درجات الحرارة في هذه المنطقة بوتيرة تفوق المعدل العالمي.

 تُعد الممرات الصحراوية بمثابة شرايين لوجيستية حيوية تغذي العمليات الإرهابية، إذ تستعمل في تهريب السلاح ونقل المقاتلين وتوزيع الغنائم وتأمين خطوط الإمداد، وتتكامل هذه الشبكات مع بنية أوسع من الجريمة المنظمة، تشمل تجارة المخدرات وتهريب البشر وتبييض الأموال.

في هذا السياق، يتبدى تكامل خطير بين الإرهاب والاقتصاد الموازي، ما يجعل محاربته معركة ممتدة تتطلب أدوات غير تقليدية، فالخطر لا يكمن فقط في القدرة على الحركة، بل في الدمج البنيوي بين الاقتصاد غير الشرعي والعمليات المسلحة، بما يجعل التفكيك الأمني وحده غير كاف.

وتشكل هذه الممرات بيئة مثالية للتنظيمات الإرهابية، لا سيما في ظل تفاقم آثار تغير المناخ، ففي منطقة الساحل الوسطى، تتقاطع هشاشة الدولة مع قسوة الطبيعة، ما يخلق فراغاً مزدوجاً تستغله التنظيمات المتطرفة لترسيخ حضورها، وترتفع درجات الحرارة في هذه المنطقة بوتيرة تفوق المعدل العالمي، في حين تتزايد الظواهر المناخية المتطرفة مثل الجفاف والفيضانات وتناقص الأمطار الموسمية، الأمر الذي يضرب نمط الحياة الرعوي والزراعي الذي تقوم عليه المجتمعات الريفية، ويؤدي هذا الانهيار البيئي إلى تآكل سبل العيش، وإدخال المجتمعات في دوامة النزوح والتهميش والفقر، ما يجعلها بيئة خصبة لاستقطاب الفئات المحبطة واليائسة إلى صفوف الجماعات المسلحة.

في ظل هذا الواقع، لا تعد الممرات الصحراوية مجرد مساحات جغرافية هامشية، بل تتحول إلى مسالك استراتيجية توفر ملاذات آمنة، وتنظم التحركات بين بؤر التوتر، ولم تعد الظاهرة مجرد اختراق أمني عابر، بل باتت بنية مركبة ناتجة من التداخل بين الجغرافيا الطبيعية والتفكك السياسي، وأصبحت الصحراء بما توفره من عمق جغرافي واتساع وعسر رقابة رئة للتنظيمات العابرة للحدود التي تحسن استغلال التدهور البيئي لتعزيز خطابها ومضاعفة نفوذها.

ومن مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تشكل الصحراء بنسيجها الرملي اللامحدود شبكة من الطرق والمسارات التي تعجز الخرائط التقليدية عن احتوائها، فتبني فيها التنظيمات المتطرفة تحالفات مع أطراف عابرة للدولة، كاشفة عن ترابط عضوي بين الضغط المناخي والانهيار الأمني.

شراكة إثنية

تشكل البنية الإثنية العابرة للحدود في منطقة الساحل الأفريقي أحد أكثر عناصر المشهد الأمني تعقيداً، ليس فقط بسبب تشابكها الجغرافي، بل لما تمنحه من عمق اجتماعي واستراتيجي للتنظيمات الإرهابية، فقبائل الطوارق والفولاني والكانوري والعرب المهاجرين من شمال النيجر ومالي وتشاد تتحرك بحرية نسبية عبر الممرات الصحراوية الممتدة، غير معترفة بالحدود التي فرضها التقسيم الاستعماري، وهذه الجماعات لا ترى في خطوط الخرائط حدوداً سياسية، بل فضاء عشائرياً مشتركاً، حيث تتداخل روابط الدم واللغة والتاريخ المشترك، مع الضرورات اليومية للعيش في بيئة قاسية.

في هذا السياق، لا تُعد التنظيمات الإرهابية أجساماً دخيلة بالكامل، بل غالباً ما تحظى بدعم أو على الأقل تغاض من بعض التكوينات الإثنية التي ترى فيها أداة لتحقيق الأمن الذاتي أو وسيلة للحصول على حصة من الموارد، فبعض فروع الطوارق في شمال مالي على سبيل المثال، قدمت ملاذاً آمناً لبعض هذه التنظيمات مقابل الحماية من خصوم قبليين أو سلطات مركزية فقدت مشروعيتها، وفي مناطق أخرى، كما في وسط مالي أو غرب النيجر، تعاونت بعض جماعات الفولاني مع هذه التنظيمات نتيجة شعورها بالتهميش السياسي والاقتصادي، لتتحول إلى وسيط لوجيستي وبشري بالغ الأهمية.

 

 

ما تقدمه هذه التنظيمات لتلك التكوينات لا يقتصر على المال أو السلاح، بل يشمل أيضاً ترتيبات أمنية محلية، ووساطة في النزاعات، بل أحياناً تمثيلاً رمزياً لكرامة القبيلة أو الجماعة في وجه الدولة المركزية التي طالما وُصفت بالظلم والتهميش، وهكذا تتحول العلاقة من تعاون ظرفي إلى شراكة وظيفية تُمكن التنظيمات الإرهابية من التخفي، والتنقل، وبناء حواضن اجتماعية مرنة، تصعب على أي قوة نظامية اختراقها أو تفكيكها.

وفي ظل غياب البنى التحتية للدولة، من مراقبة حدودية حديثة إلى قدرات استخباراتية ميدانية، تصبح هذه الشراكات الإثنية مع التنظيمات عنصراً مفصلياً في إعادة تشكيل موازين القوة في الساحل، فهي ليست فقط ديناميات دعم ميداني، بل تحول استراتيجي، تصبح على إثره الإثنيات المتنقلة جسوراً وحواضن لهذه التنظيمات في عرض الصحراء.

توظيف المعاناة

في كتابه "مسار نحو الأمن تجديد العلاقات داخل منطقة الساحل وخارجها"، يقدم "معهد توني بلير للتغير العالمي" تحليلاً متكاملاً لعلاقة الترابط العميق بين تغير المناخ والتصحر وتصاعد النشاط الإرهابي في منطقة الساحل الوسطى، ويدعو الكتاب إلى تبني ميثاق الساحل كإطار تنسيقي دولي شامل يُدمج فيه الأمن مع التكيف المناخي والتنمية في شراكة فعالة مع دول غرب أفريقيا وهيئاتها الإقليمية.

ينطلق التحليل من طبيعة منطقة الساحل التي ترتفع فيها درجات الحرارة بمعدل ضعف المتوسط العالمي، ما يسرع تدهور البيئة وتراجع سبل العيش التقليدية، ففقدان الأراضي الصالحة للزراعة وندرة المياه وعدم انتظام الأمطار، كل ذلك أسهم في تفكيك النسيج المجتمعي وتفاقم النزاعات المحلية على الموارد، هذه الفجوات البيئية والاقتصادية فتحت المجال أمام الجماعات المتطرفة العنيفة، وعلى رأسها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" و"تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية الساحل"، التي أحسنت توظيف معاناة السكان لتوسيع نفوذها واستقطاب المجندين الجدد.

 كذلك يعرض بالأرقام كيف أصبحت منطقة الساحل مركزاً عالمياً للتطرف العنيف، ففي عام 2023 مثلت نحو 47 في المئة من الوفيات العالمية الناتجة من الإرهاب، واحتلت مالي وبوركينا فاسو المركزين الأول والثالث عالمياً في النشاط الإرهابي عام 2024.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويرى المعهد أن المتطرفين العنيفين لا يكتفون بالاستفادة من هشاشة البيئة، بل يعملون على إعادة تشكيل الواقع المحلي لمصلحتهم، فيدمرون البنية التحتية للمياه عمداً (بزيادة 40 في المئة بين 2019 و2024)، ويقدمون خدمات "حل النزاعات"، ويوفرون الغذاء والدعم للسكان مقابل الولاء، في مزيج من القوة الخشنة والناعمة.

 وتبين تحليلات المعهد أن الجماعات المسلحة تشن ما بين 35 و40 هجوماً أسبوعياً، وتستهدف البنية التحتية الحيوية وتستولي على الماشية، بل وتعيد توزيع الأصول لكسب "القلوب والعقول"، كما تُستغل الانقسامات الإثنية والدينية كوسيلة تجنيد وتفتيت إضافية للنسيج المجتمعي.

ويؤكد المعهد أن الإرهاب في الساحل لم يعد ظاهرة أمنية تقليدية، بل هو نتاج بيئة استراتيجية تتشابك فيها الكوارث المناخية مع عجز الدولة، مما يستدعي مقاربة شاملة، تتجاوز التدخل العسكري، إلى حلول مناخية وإنمائية متكاملة تعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع وتستعيد الاستقرار من جذوره. 

علاقة تفاعلية

ومن بين القطاعات التي تجعل الممرات الصحراوية أحد العوامل الحاسمة في إعادة تشكيل الديناميكيات الاقتصادية والأمنية، بروز قطاع التعدين بوصفه شرياناً اقتصادياً حيوياً، لا سيما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لذلك بات هدفاً استراتيجياً للجماعات الإرهابية التي تسعى إلى فرض سيطرتها على الموارد المحلية، واستغلالها كمصدر تمويل ووسيلة للتمدد الجغرافي.

 بحسب تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" بعنوان "الحد من تهريب الذهب في بوركينا فاسو" الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، فإن أكثر من 80 في المئة من إنتاج الذهب هناك يُستخرج عبر التعدين الحرفي غير الرسمي، وهو ما يخلق بيئة ملائمة لتغلغل الجماعات المسلحة، حيث تستغل هشاشة القطاع وضعف رقابة الدولة وغياب الأمن لفرض إتاوات على عمال المناجم، أو حتى السيطرة المباشرة على مناجم بأكملها.

وفي حالات متزايدة، أدت الهشاشة المناخية إلى تحول مجتمعات زراعية ورعوية تقليدية إلى مناجم بشرية مهيأة للتجنيد، بعد أن فقدت مصادر رزقها بفعل التصحر وتراجع الأمطار، ونتيجة لذلك، تظهر البيانات الميدانية تضاعف الهجمات على مواقع التعدين وموظفيها بين عامي 2019 و2024، حيث تنشط جماعات مثل "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" وتنظيم "داعش- ولاية الساحل" في مناطق إنتاج الذهب، إما عبر العنف المباشر أو عبر شبكات تهريب تنقل الذهب إلى الخارج، خصوصاً عبر ليبيا وغانا وتوغو.

ويوضح التقرير أن هذه الجماعات لا تستهدف فقط الأرباح السريعة، بل تسعى إلى خلق اقتصاد ظل موازٍ يمكنها من كسب الحاضنة الاجتماعية عبر توفير "الحماية" و "حل النزاعات"، ويقوض في الوقت نفسه سلطة الدولة، التي تفقد القدرة على تحصيل الضرائب أو تنظيم هذا القطاع الحيوي.

 

 

يؤكد هذا الترابط أن العلاقة بين التصحر والتطرف في الساحل لم تعد علاقة غير مباشرة، بل أصبحت علاقة تفاعلية، إذ كلما تقلصت الموارد واشتدت المنافسة عليها، زاد استعداد المجتمعات الهشة للخضوع أو التعاون مع التنظيمات المسلحة. وهكذا، يصبح المناخ، عبر بوابة الذهب، محركاً صامتاً لكن بالغ التأثير في بنية الصراع بالمنطقة.

سلطات موازية

مع استمرار استغلال الجماعات الإرهابية للممرات الصحراوية، والتي تمثل بيئات رخوة وضعيفة السيطرة، من المرجح أن تزداد قدرة هذه التنظيمات على التمدد الجغرافي جنوباً نحو المناطق الساحلية في غرب أفريقيا، خصوصاً في شمال بنين وساحل العاج وغانا، هذا التمدد لا يكون عبر المواجهة العسكرية المباشرة فقط، بل من خلال إنشاء أنظمة حكم موازية توفر الأمن والخدمات الأساسية في المناطق المهملة، ما يعزز شرعيتها المحلية ويقوض دور الدولة المركزية، ويمكن أن نرى نشوء نماذج "شبه دولة" تفرض الضرائب، وتحكم بالنزاعات، وتدير شبكات تهريب الذهب والموارد.

ويستفيد التمدد الجغرافي وبناء سلطات موازية من الانهيار المؤسساتي وانتشار الفوضى، فإذا استمر تدهور الأوضاع المناخية والمعيشية في ظل ضعف قدرة الدولة على الاستجابة، فإن بعض بلدان الساحل قد تواجه خطر التفكك الكامل لمؤسساتها المركزية، كما في حالة مالي وبوركينا فاسو، في هذا السيناريو، تتحول الممرات الصحراوية إلى شرايين لنقل السلاح والمقاتلين والموارد بين جيوب السيطرة المسلحة، وتغيب سلطة القانون لمصلحة سلطة السلاح. ومع تنامي النزوح الداخلي وفشل مشاريع التنمية، تدخل المنطقة في حلقة مفرغة من العنف والفوضى، مما يحولها إلى بؤرة تهديد أمني إقليمي ودولي يصعب احتواؤها.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير