ملخص
وسط الأزمات المتلاحقة وحملات القمع الداخلية المتكررة، بدأ جزء من المجتمع الإيراني يميل تدريجاً إلى قناعة مفادها بأن التغيير الجذري لا يمكن أن يأتي من الداخل، بل من الخارج فقط. هذه الفكرة التي ترسخت لدى بعض الإيرانيين على شكل ما يشبه "المنقذ الأجنبي"، لها جذور تعود لعقود مضت. فمنذ حقبة الحرب الباردة مروراً باجتياح العراق من الولايات المتحدة، وصولاً إلى التدخلات العسكرية في ليبيا وسوريا، ظل الاعتقاد قائماً بأن قوة خارجية قادرة على قلب موازين القوى وإسقاط نظام قمعي.
أبعاد الحرب التي استمرت 12 يوماً، التي بدأت بهجمات إسرائيلية على منشآت حيوية في إيران واغتيال قادة عسكريين كبار وعلماء في المجال النووي، تجاوزت كثيراً حدود المواجهة العسكرية التقليدية. فبينما أصيب كثير من الإيرانيين بصدمة نفسية جراء اندلاع هذه الحرب المفاجئة، ترسخ لدى آخرين شعور قوي بأن النظام الإيراني بات هذه المرة على حافة الانهيار. إذ تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة تعج بالتكهنات والآمال والمخاوف، بل وحتى الأحلام حول مستقبل إيران ما بعد النظام.
ومع تراجع وتيرة الحرب، وبعد ليلة مرعبة ومليئة بالتوتر في طهران، خيم صمت ثقيل على شريحة من المجتمع الإيراني، وكأن الأمل بالتغيير وسقوط النظام تلاشى في لحظة لدى بعض منهم.
هذا التقرير يوثق ليالي وأيام التوتر التي عاشها الإيرانيون خلال الحرب التي استمرت 12 يوماً، ويحاول الإجابة عن تساؤلات جوهرية ومنها: هل كان من المفترض أن تجلب الضربات الخارجية الحرية للإيرانيين؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فمن أين جاءت هذه الموجة من الإحباط؟ وهل يمكن أن تمثل اللحظة الراهنة، في ظل نظام بات أضعف من أي وقت مضى، فرصة فعلية للخلاص؟
لا شك في أن الحرب التي اندلت يوم الجمعة الموافق لـ13 يونيو (حزيران) الجاري بهجوم إسرائيلي على مواقع استراتيجية في إيران كانت من أكثر الأحداث غير المسبوقة في التاريخ الحديث. فقد أدى اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين إلى جانب شخصيات بارزة في البرنامج النووي الإيراني، إلى ترسيخ قناعة واسعة لدى المجتمع بأن ما تروج له السلطات حول القوة والأمن والردع، ليس سوى شعارات جوفاء.
ووصفت مريم، المقيمة في شمال شرقي طهران التي اهتز منزلها مراراً خلال أيام الحرب، في حديث لها مع صحيفة "اندبندنت فارسية"، الليلة الأخيرة من الهجمات قائلة "كأن يوم القيامة حل بالفعل، أصوات الانفجارات المتواصلة والدخان والنيران، والرعب العميق كان يخنق الأنفاس في الصدور. الناس لم يستطيعوا البقاء في منازلهم المرتجفة، وعلى رغم التحذيرات، خرجوا إلى الشوارع. كأننا جميعاً كنا نبحث عن وجودنا معاً، لعلها تكون آخر مرة. حتى أولئك الذين اعتادوا اللامبالاة، رأيت الخوف في أعينهم.
ومع حلول الصباح، عندما خمدت النيران، تمكنا أخيراً من النوم. شعرنا وكأننا لم نغمض أعيننا منذ 12 يوماً، وعندما استيقظت في الساعة الـ11 صباحاً ونظرت من النافذة، لم أر طهران بهذا الهدوء والخواء من قبل. كان المشهد يوحي بأن الجميع انهار تحت وطأة هذه الأيام، شيء يشبه نهاية انتظار مرير".
من وجهة نظر مريم، فإن هذا الشعور الجماعي الذي ساد في طهران وعدد من المدن الأخرى كان انعكاساً لضغوط اجتماعية وسياسية واقتصادية متراكمة. فالناس الذين عانوا لسنوات طويلة تحت وطأة القمع والفقر والتمييز والأزمات المتلاحقة، ظنوا لوهلة أن جهودهم المتكررة لإسقاط النظام قد تكللت هذه المرة بالنجاح. لكن، بدلاً من ذلك، حطّ مكان تلك الآمال فراغ هائل، تغلفه الحيرة وانعدام الثقة واليأس.
الأمل في التدخل الخارجي: حقيقة أم وهم؟
وسط الأزمات المتلاحقة وحملات القمع الداخلية المتكررة، بدأ جزء من المجتمع الإيراني يميل تدريجاً إلى قناعة مفادها أن التغيير الجذري لا يمكن أن يأتي من الداخل، بل من الخارج فقط. هذه الفكرة التي ترسخت لدى بعض الإيرانيين على شكل ما يشبه "المنقذ الأجنبي"، لها جذور تعود لعقود مضت. فمنذ حقبة الحرب الباردة مروراً باجتياح العراق من الولايات المتحدة، وصولاً إلى التدخلات العسكرية في ليبيا وسوريا، ظل الاعتقاد قائماً بأن قوة خارجية قادرة على قلب موازين القوى وإسقاط نظام قمعي.
وفي الأيام الأولى من الحرب التي استمرت 12 يوماً، بدأت هذه الذهنية تتشكل مجدداً لدى شريحة من الإيرانيين. الإشاعات حول عجز قوات "الحرس الثوري" وهرب بعض المسؤولين وإخلاء مقار أمنية وانهيار منظومات الدفاع الجوي، عززت الاعتقاد بأن النظام بات على شفا الانهيار. إلا أن التجارب في العراق وأفغانستان، بل وحتى في سوريا، أظهرت أن التدخل الخارجي، وإن نجح في زعزعة النظام السياسي القائم، لا يؤدي بالضرورة إلى الحرية أو الاستقرار أو انتقال ناجح نحو نظام سياسي بديل.
وفي حالة إيران، حتى المحللون الدوليون المحايدون حذروا مراراً من أن انهيار النظام من الخارج، إذا ما لم يرافق بتوافق داخلي وقيادة واضحة وتماسك اجتماعي، قد يدفع البلاد نحو الفوضى بدلاً من الحرية.
هندسة اليأس: ذراع النظام الإعلامية والأمنية
وبعد وقف إطلاق النار، فوجئ مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي بظاهرة غريبة، إذ حاولت كمية هائلة من الرسائل والتغريدات والتحليلات السطحية تصوير توقف الهجمات الإسرائيلية على أنه نهاية أي أمل في التغيير.
يقول سعيد، وهو أستاذ في جامعة طهران، تمكن خلال أيام الحرب من تجاوز قيود الإنترنت مراراً لنشر رسائل عبر شبكات التواصل، إنه في الـ23 من يونيو (حزيران) وبعد تمكنه من الدخول إلى منصة "إكس"، فوجئ بعدد هائل من الرسائل التي تحمل مضموناً واحداً تقريباً أن "تغيير النظام" فشل مرة أخرى.
برأي سعيد، فإن هذه الرسائل، التي كان معظمها يصدر عن أشخاص ذوي خلفيات سياسية معروفة، كانت تهدف إلى شيء واحد وهو: هندسة نفسية للمجتمع عبر بث الشعور بعبثية أي تحرك أو احتجاج أو حتى أمل في التغيير.
وتحدث المرشد الإيراني علي خامنئي، مراراً عن الحرب الناعمة والحرب المركبة، وأصدر تعليماته للأجهزة الإعلامية والدعائية بضرورة التخطيط لمواجهتها. وعلى هذا الأساس، تعمل "الجمهورية الإسلامية" منذ سنوات على ترسيخ أذرعها الأمنية الناعمة في الفضاء الرقمي. من العمليات النفسية، إلى صناعة الوسوم الوهمية وإثارة مشاعر اليأس وتحقير المحتجين وإثارة الانقسامات بين صفوف المعارضين، كلها تشكل أجزاء من هذه المنظومة المتكاملة.
تغيير النظام: إذا لم يكن الآن، فمتى؟
وعلى عكس ما تحاول الحكومة زرعه من إحباط في نفوس المجتمع فإن الفرصة الآن سانحة للتحرك، إذ إن عدداً من أركان النظام باتت منهكة من الداخل. تكاليف القمع ارتفعت، والقواعد الاجتماعية للنظام تضعفت، والانقسام بين الشعب والسلطة لم يكن يوماً بهذا العمق والشدة.
ووفقاً لتحليلات خبراء في الحركات الاحتجاجية فإن الانتفاضات الشعبية غالباً ما تنبعث ليس في ذروة القمع، بل في لحظات ضعف وحيرة النظام. وترى الفيلسوفة والمفكرة السياسية البارزة في القرن الـ20 هانا أرنت، أن "الثورات والحركات الشعبية تنشأ في اللحظات التي تفقد فيها هياكل السلطة شرعيتها".
بعبارة أخرى، تتاح فرصة التغيير في لحظات اهتزاز الشرعية، لا في ذروة القمع والسيطرة، أي عندما لا تطيع الناس النظام، حتى وإن كانت أدوات القمع ما تزال قائمة. وفي هذه اللحظة بالذات، إذا تمكنت القوى المدنية وجماعات المعارضة والنشطاء الثقافيين من توصيل الرسالة بوضوح (بأن التدخل الخارجي لم يجلب الحرية قط، لكن ضعف النظام يخلق فرصة تاريخية)، عندها يمكن أن ينبعث الأمل من جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نهاية الأمل بالتدخل الخارجي لتغيير النظام
إن المجتمع المدني الإيراني، على رغم كل الجراح والقمع الذي عانى منه خلال أكثر من أربعة عقود، لا يزال يتنفس. لا تزال هناك نساء ومعلمات وعمال وصحافيون وطلاب ينشطون على مستوى القاعدة الشعبية، لكن غياب التماسك والرؤية المشتركة يشكل أكبر نقاط الضعف في مواجهة موجة اليأس.
في المقابل، يرى سعيد أن المعارضة داخل إيران وخارجها يجب أن تجيب الآن أكثر من أي وقت مضى على السؤال حول الخطوة التي تنوي اتخاذها، وما الذي يمكن للإيرانيين أن يفعلوه لتحقيق هذا الهدف بأقل قدر من الخسائر؟
شهد المجتمع الإيراني خلال أقل من شهر واحد تحولات عميقة وكبيرة. وبحسب ما تقوله مريم، فإن الناس يرددون في ما بينهم أنه "لم نعد أولئك الأشخاص الذين كنا قبل شهر"، بعدما عاشوا رعباً شديداً وانغرست صدمة الحرب في ذاكرتهم الجماعية. اليوم، وعلى رغم إعلان المسؤولين السياسيين أن الحرب انتهت، لا يزال السؤال الجوهري مطروحاً: هل ننتظر الحرب القادمة، أم نتحرك من الداخل لإحداث التغيير؟
وبحسب سعيد، "فإن كانت نهاية هذه الحرب د علمتنا شيئاً، فهو أن لا أحد، حتى أعداء النظام، سيجلب الحرية للإيرانيين. وحدهم الإيرانيون من يجب أن يقرروا كيف يحولون هذه اللحظة التاريخية إلى نقطة تحول حقيقية".
ووفقاً لهذا الأستاذ الجامعي فإن المجتمع الإيراني بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الوعي الذاتي، وتذكير دائم بحقيقة أساسية وهي أنه لا يمكن لليل مظلم أن ينجلي إلا بإرادة وعزيمة جماعية.
ويشير سعيد أيضاً إلى أن "أي تحرك جماعي لإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية يتطلب أولاً فهماً واقعياً ودقيقاً للإمكانات والأدوات والقيود". ويشدد هذا الأستاذ الجامعي على أن "أية خطوة يجب أن تبنى على إدراك عميق لواقع الإيرانيين من النواحي النفسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. فلا يجوز رسم مسار الفعل من دون هذا الوعي، بل يجب الاعتماد على ذكاء الشعب وقدرته على قراءة اللحظة واختيار التوقيت المناسب".
ويرى سعيد أن التقسيمات من قبيل "الداخل بطل، الخارج متفرج" أو بالعكس "الخارج منقذ، الداخل سلبي"، لا تعكس الواقع بأية حال. بل يجب الاعتراف بأن كلا الطرفين، الإيرانيون في الداخل والخارج، يمتلكون أدواراً مختلفة لكنها متكاملة في مسار التغيير. فالإيرانيون في الخارج، بفضل ما يتمتعون به من حرية تعبير وصلات دولية وأمان نسبي، يمكنهم الإسهام في ممارسة الضغط السياسي وصناعة الرواية الإعلامية ودعم المعتقلين السياسيين والمساهمة في بلورة البديل السياسي. وفي الوقت ذاته، يظل النشطاء في الداخل، على رغم كل القيود، الأعرف بواقع المجتمع وظروفه، وهم من يمكن لحركتهم أن تدفع بالتغيير إلى مراحله الحاسمة والنهائية.
وباعتقاد هذا الأستاذ الجامعي أنه "بإمكان الإيرانيين في الداخل والخارج، إذا ما تجاوزوا حالة القطيعة وسوء الظن، ونجحوا في تحقيق تنسيق واقعي وهادف، أن يشكلوا معاً حركة جماعية حقيقية. حركة لا تقوم على الانفعال العاطفي فقط، بل تكون مدروسة وتدريجية ومنبثقة من الإمكانات الفعلية للمجتمع".
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"