ملخص
كثير من النساء السودانيات حملن على أجسادهن ندوباً لا يمحوها الزمن، بعضها مرئي، وبعضها الآخر يخزن في الذاكرة، إذ نجد بين ركام النزوح والحصار قصصاً وفصولاً من المعاناة ترويها أجساد النساء لا تقل دموية عن صوت الرصاص.
خلال الحروب، لا تكون المعارك دائماً على الجبهات، فكثير منها ينغرس في الأجساد، بخاصة جسد المرأة، إذ يتحول إلى هدف مباشر وساحة مواجهة صامتة، يحمل آثار العنف والقهر والصمود، وغالباً لا تُدوّن الحكايات كلها في تقارير الأمم المتحدة أو بيانات الإغاثة، فيبقى الجرح مختبئاً تحت الجلد.
فكثير من النساء السودانيات حملن على أجسادهن ندوباً لا يمحوها الزمن، بعضها مرئي، وبعضها الآخر يخزن في الذاكرة، إذ نجد بين ركام النزوح والحصار قصصاً وفصولاً من المعاناة ترويها أجساد النساء لا تقل دموية عن صوت الرصاص.
الجلاد والفريسة
الناجية من العنف الجنسي (س. م) قالت "عندما هاجم أفراد ’الدعم السريع‘ الحي الذي أسكن فيه بالخرطوم، لم أتمكن لحظتها من الفرار، فدخلوا البيت وسألوا في البداية عن الرجال، ثم نظروا إليّ كما ينظر الجلاد إلى الفريسة، لم أصرخ، لكنني تجمدت، فكل همي ساعتها حماية أطفالي وهم نائمون".
وأضافت السيدة السودانية "بعد برهة من الوقت أخذوني خارجاً، وهناك بدأت ليلتي المؤلمة، ومنذ ذلك اليوم، كلما لمست جسدي أشعر بالغربة، كأنني لم أعُد أملكه، بل لم أعُد أطيق المرآة ولا الليل، فجسدي ينام، لكنه لا ينسى، وللأسف لم يسعفني القانون ولا عدالة الأرض، لكنني أحاول أن أبقى حية، فقط لأحكي".
وتابعت السيدة "على رغم مرور سنتين من تلك الحادثة، لكن لا تزال آثار العنف الجسدي والنفسي تلقي بظلالها على حياتي، فلم أعُد أبدي اهتماماً بنفسي ولا حتى الأكل، فمن الصعب أن تعيش مقهوراً، فالحرب لعينة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهي مسرح للجرائم الوحشية، لذلك يجب إيقافها حتى لا تتزايد الانتهاكات لما فيها من إهانة وذلة لا يحتملان".
قهر وإذلال
أما (ن. ح) البالغة من العمر 27 سنة، فأفادت "عندما اندلعت الحرب كنت مع شقيقتي التي تسكن حي الموردة بأم درمان، حيث جئت إليها آتية من الولاية الشمالية لكي أعالج ابنتي ذات الأربع سنوات من مرض عضال، لكن بعد أسبوع من الحرب أصبح الوضع لا يحتمل من دوي الرصاص والانفجارات، ففررنا من دون أن نأخذ أي شيء من متعلقاتنا، لقد هربنا فقط للنجاة بحياتنا".
وتابعت "في الطريق جرى توقيفنا من قبل قوة ترتدي زي ’الدعم السريع‘، فقاموا بسلب كل ما في حوزتي من مال وذهب، لكن احتجزوا شقيقتي لأنها لم تكُن تملك سوى مبلغ زهيد، وطلبوا مني مغادرة المكان وإلا سيحتجزونني معها".
وواصلت "لم أحتمل رؤية شقيقتي وهم ينهالون عليها بالضرب المبرح وهي تصرخ من شدة الألم، واضطررت إلى مغادرة المكان خوفاً على نفسي وأطفالي، وحالي يرثى لها من التعب النفسي والقهر والذل، لكن بعد فترة من الزمن لحقت بنا شقيقتي وكلها دماء، فالحرب في بلادنا عنوانها قهر المرأة بالدرجة الأولى، فهؤلاء وحوش ليست بداخلهم ذرة من الإنسانية، فمتى تتوقف هذه الحرب وتقام العدالة بحق كل من ارتكب جرماً بحق إنسان؟".
أداة هيمنة
تقول الناشطة الاجتماعية نهال بن إدريس إن "أجساد النساء في السودان تحولت إلى ذاكرة حيّة للعنف السياسي والاجتماعي، بل إلى أرشيف مفتوح يوثق بمرارة تاريخاً طويلاً من الانتهاكات المقصودة التي مورست ضدهن، بخاصة خلال الحرب الأخيرة التي خطط لها بعناية على يد بقايا النظام السابق، وأذرعه الأمنية والميليشيات الدواعشية والكتائب الظلامية".
وأضافت "بكل أسف أن هذه الحرب استهدفت بصورة ممنهجة المرأة الثائرة التي كانت في مقدمة صفوف الثورة السودانية، إذ كان الهدف كسر إرادتها وإذلالها، لكن النساء قاومن القهر بالتكاتف وخلقن شبكات سرية تحفظ خصوصية الضحايا وحقهن في العلاج والرعاية".
وأشارت بن إدريس إلى أن "هناك منظمات نسوية ومبادرات محلية ودولية قدمت دعماً طبياً ونفسياً ساعد في لملمة الجروح، وشهدنا بعض حالات الانتحار، لكنها قليلة مقارنة بحجم الانتهاكات لأن الغالبية اختارت المقاومة عبر التكاتف على رغم طول مسار التعافي".
وبيّنت أن "الجسد الأنثوي في الحروب يتحول أحياناً إلى أداة هيمنة، لكن في هذه الحرب اللعينة كان العنف الجنسي ممنهجاً ومقصوداً، مقترناً بإهمال صحي كارثي، فحرمت النساء من أبسط حقوقهن الجسدية، بعما دمرت معظم المرافق الصحية وغابت الرعاية الطبية، بخاصة أثناء النزوح".
وأردفت "لا تزال هناك قصص مؤلمة عدة لم تُروَ بعد لأن المعارك مستمرة ولا يوجد أمان حقيقي، فالنساء لا يتحدثن لأن لا شيء يضمن سلامتهن، وعلى رغم محاولات التوثيق، فإن المعالجة ما زالت محدودة والعنف مستمراً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزادت بن إدريس "لا نجاة حقيقية من الحرب، فحتى إن نجا الجسد، فالروح والنفس ستظلان محملتين بأعباء الانتهاكات لأجيال مقبلة"، مؤكدة أن "غالبية النساء ما زلن في حال صدمة، خصوصاً أن المعتدين لم يكونوا فقط من الميليشيات، بل من قوات يفترض بها حماية النساء والمجتمع، بل حتى من أفراد في المجتمع نفسه بسبب فوضى انتشار السلاح".
وشددت على أن "النساء يحتجن إلى كل أنواع الدعم الممكنة قانونياً ونفسياً وثقافياً، مضيفة "نحتاج إلى خطط تأهيل طويلة ومتوسطة الأجل، لكن الأولوية الآن هي للعلاج الجسدي المتكامل، مصحوباً بدعم نفسي حقيقي".
استراتيجية ممنهجة
وواصلت بن إدريس "لا يمكن تجاوز آثار الحرب من دون إيقافها أولاً، وتحقيق سلام حقيقي يسمح ببدء التعافي عبر دعم متعدد الأبعاد، بخاصة الدعم القانوني الذي يضمن العدالة للضحايا، والدعم النفسي الشامل لمعالجة الصدمات، فضلاً عن الدعم الثقافي والاجتماعي من أجل إعادة بناء الهوية والكرامة بعد الانتهاك".
ونوهت إلى أن "نماذج التعافي موجودة، وتظهر عبر الفنون والكتابة الإبداعية والرسم، إذ بدأت النساء باستخدام أجسادهن كمساحة لبناء الهوية واستعادة الكرامة، بعدما استُخدمت هذه الأجساد سابقاً كأداة هيمنة".
وأكدت أن "ما تعرضت له النساء السودانيات ليس عنفاً فردياً، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة اتبعها تنظيم ’الإخوان‘ منذ عقود، وكانت النساء السودانيات دائماً شوكة في حلق هذا النظام، ولهذا استُهدفن في كل النزاعات من الجنوب إلى جبال النوبة والخرطوم، فهي سياسة تعتمد على كسر المجتمعات عبر استهداف النساء، وتعتبر العنف الجنسي أداة لإذلال العدو وإحداث دمار نفسي واجتماعي طويل الأمد".
وشرحت أن "استخدام الأجساد في هذه الحرب لم يكُن عشوائياً، بل يجب علينا كنساء إعادة هذه الأجساد إلى موقعها الطبيعي كمجال للمقاومة، سواء عبر الفن أو الوعي أو الإبداع".
وختمت بالقول "من المؤسف لدينا تعقيدات اجتماعية تجعل من قضايا النساء ملفات مسكوتاً عنها، إذ وُثقت نحو 190 حالة عنف جسدي فقط، لكن الأعداد الحقيقية قد تصل إلى 5 آلاف أو أقل بقليل".
خوف وانطواء
في السياق أوضح الاختصاصي النفسي سامي عبدالله أنه "في مناطق النزاع، لا يتوقف تأثير الحرب في الجسد فقط، بل يمتد ليصل إلى الأعماق النفسية للمرأة".
وأشار إلى أن كثيراً من الناجيات يعانين اضطرابات ما بعد الصدمة التي تتجلى في مشاعر الخوف المستمر والانطواء، وحتى الشعور بالاغتراب عن أجسادهن، إذ يصبح الجسد في هذه الحال مجرد ذاكرة حية، يسترجع الألم كلما استرجعت صاحباته الأحداث العنيفة".
ونوه إلى أن هذا الألم النفسي تصاحبه أحياناً أعراض جسدية مثل الأوجاع المزمنة واضطرابات النوم وفقدان الشهية، وعلاوة على ذلك تزداد معاناة النساء بسبب غياب الدعم النفسي الكافي ووصمة العار المرتبطة بالعنف الجنسي، لكن من المهم أن تُدمج الخدمات النفسية ضمن برامج الإغاثة وأن تُبنى مساحات آمنة تستعيد فيها المرأة كرامتها وتسترجع سيطرتها على جسدها وحياتها.