ملخص
في أعقاب الحرب الأخيرة مع إسرائيل انتقل "حزب الله" إلى مرحلة جديدة من التصنيع العسكري معتمداً بصورة متزايدة على تصنيع المسيرات داخل لبنان. ويأتي هذا التحول بعد تراجع خطوط الإمداد عبر سوريا وتشديد الرقابة على المنافذ. وبحسب تقارير استخباراتية ومصادر أمنية، يستخدم الحزب شركات وهمية لاستيراد مكونات دقيقة، يجري تجميعها في ورش سرية داخل الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت والبقاع، بإشراف خبراء لبنانيين وإيرانيين.
في مرحلة ما بعد الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل تبلورت معادلة جديدة تعيد رسم المشهد العسكري اللبناني وتكشف تحولات لافتة في عقيدة الحزب العسكرية، تحديداً بما يتعلق بالتصنيع المحلي للمسيرات. فبعد انقطاع طرق الإمداد الإيراني عبر سوريا، والرقابة المحكمة على المطار والمرافئ البرية، تشير تقارير استخباراتية غربية إلى أن الحزب انتقل إلى خيار أقل لفتاً للانتباه وأكثر مرونة من حيث التصنيع والنقل والتشغيل، ألا وهو المسيرات.
ووفق خبراء عسكريين فإن هذا الخيار لا يعكس فقط تحولاً تقنياً في أدوات القتال، بل يعكس تحولاً عميقاً في البنية الاستراتيجية للحزب الذي لم يعد يراهن على ضخامة الترسانة، بل على خفة الحركة ودقة الاستهداف، وتوسيع رقعة الانتشار التكتيكي من دون الحاجة إلى منشآت ظاهرة أو مراكز إطلاق ثابتة، وتوطين الصناعة العسكرية الدقيقة.
الخبرة الإيرانية
في السياق التاريخي لم يكن اعتماد "حزب الله" على سلاح الجو المسير جديداً، فمنذ عام 2004، حين اخترقت طائرة "مرصاد-1" أجواء شمال إسرائيل، بدأ الحزب بتطوير منظومته الجوية تدريجاً مستفيداً من الخبرة الإيرانية، ومن الدعم اللوجيستي الذي وفرته الأراضي السورية، ولاحقاً من التجارب الميدانية في حرب يوليو (تموز) 2006، والحروب في سوريا واليمن وغزة. غير أن عام 2019 شكل نقطة تحول، حين بدأت إسرائيل تكثف ضرباتها في الداخل السوري، مستهدفة قوافل شحن ونقاط تخزين تابعة لـ"فيلق القدس" و"حزب الله"، مما أجبر الحزب على تقليص اعتماده على الإمداد الخارجي.
وبناءً على هذه المعطيات لجأ الحزب إلى خيار أكثر خطورة: تصنيع المسيرات محلياً داخل لبنان. وتكشف معلومات متقاطعة من معهد "ألما" الإسرائيلي وصحيفة "جيروزاليم بوست" وتقارير استخبارات أوروبية عن أن "حزب الله" بات يمتلك القدرة على تصنيع مسيرات هجومية متوسطة المدى، يعتقد أنها قادرة على حمل متفجرات تراوح ما بين 5 و30 كيلوغراماً، والتحليق لمسافة تصل إلى 300 كيلومتر، مزودة بأنظمة ملاحة تعتمد على تقنية "جي بي أس" GPS المعدلة أو على خوارزميات التوجيه البصري.
شركات وهمية
ويعد هذا التحول النوعي نتاجاً تراكمياً لمنظومة معقدة من الدعم الفني واللوجيستي والمالي.
من الناحية التقنية يستورد الحزب معظم مكونات المسيرات من الأسواق الدولية عبر شركات وهمية أو مؤسسات واجهة مسجلة في دول أفريقية وآسيوية وأوروبية. تشمل هذه القطع محركات كهربائية صغيرة، وكاميرات حرارية، وشرائح تحكم دقيقة، ولواقط إرسال واستقبال، وأليافاً كربونية تستخدم في صناعة الهياكل خفيفة الوزن. وتدخل هذه المعدات غالباً إلى لبنان عبر المرافئ والمطار، مسجلة ضمن شحنات تجارية مموهة، أو تهرب براً عبر المعابر غير الشرعية.
أما عمليات التجميع فتتم وفق مصادر أمنية لبنانية وإسرائيلية، داخل ورش سرية موزعة في الضاحية الجنوبية لبيروت، والبقاع، وبعض القرى الجنوبية المحاذية للحدود. وفي بعض الحالات، تستخدم مؤسسات دينية ومدارس تابعة للحزب كمراكز تغطية لهذه الورش. وتؤكد مصادر فرنسية أن عناصر من الوحدة "190" في الحرس الثوري الإيراني، المتخصصة في اللوجيستيات الخارجية، تشرف على هذه العمليات ميدانياً، وتوفر للكوادر المحلية التدريب، وبرمجيات التوجيه، وأجهزة القياس.
تواطؤ داخلي
في الجانب المالي، لا تقل شبكة التمويل تعقيداً. يعتمد "حزب الله" على منظومة مالية عابرة للحدود، تشمل شبكات تبييض أموال في دول مثل فنزويلا وسيراليون وجنوب أفريقيا، وتحويلات غير نظامية من داعمين في أوروبا وكندا، فضلاً عن الدعم الإيراني المباشر الذي يضخ عبر وسطاء أو عبر عمليات تهريب الذهب والمشتقات النفطية. كما يستخدم الحزب غطاء شركات محلية تسجل رسمياً لاستيراد معدات تكنولوجية، وتخضع في الظاهر للقانون اللبناني، لكنها في الواقع واجهات لأنشطة ممولة من الخارج.
هذه المنظومة المتكاملة من التهريب والتمويه والاستيراد تضع الدولة اللبنانية في موقف العاجز، سياسياً وأمنياً. فالأجهزة الأمنية، تعاني نقص الإمكانات التقنية والموارد البشرية، وهي عاجزة عن رصد الشحنات المتقدمة أو تتبع حركة القطع الإلكترونية المعقدة. أما على المستوى السياسي، فإن سطوة "حزب الله"، وتهديده غير المعلن لأي طرف يتجرأ على التصدي له، تجعل أي محاولة للمراقبة أو التفتيش مجازفة مكلفة. يضاف إلى ذلك التواطؤ المباشر أو غير المباشر لبعض الجهات الإدارية التي تغض الطرف عن مخالفات واضحة، تحت عنوان الاستقرار أو توازن القوى.
وبرزت نتائج هذه المنظومة خلال الضربات الإسرائيلية الأخيرة، والتي استهدفت مباني في أحياء "الجاموس" و"الحدت" و"حي السلم" وقرى في جنوب لبنان، بحجة أنها تحوي ورشاً لتجميع المسيرات أو مراكز تشغيل وتحكم. ونشرت إسرائيل صوراً لما قالت إنها معدات اتصال فوق بعض المباني المدنية تستخدم لتوجيه المسيرات، مشيرة إلى أن هذه المواقع تشكل خطراً استراتيجياً في حال اندلاع مواجهة شاملة. وعلى رغم نفي الحزب لهذه الادعاءات، فإن تسلسل الضربات، والمعلومات الاستخباراتية التي استندت إليها، تكشف عن مدى التهديد الذي باتت تشكله هذه الصناعة المحلية على أمن إسرائيل.
تشويش استراتيجي
وإذا ما قورنت هذه الاستراتيجية بما يعتمده الحلفاء الإقليميون لإيران، فإن "حزب الله" يبدو أكثر تقدماً في مجاله من حيث التصنيع والتجميع المحلي، على غرار الحوثيين الذين يعتمدون على المسيرات الانتحارية من طراز "صماد"، أو "حماس" التي تستخدم نماذج بدائية في عملياتها المحدودة. بينما يتفوق "حزب الله" في حجم الدعم التقني، وفي بيئته الحاضنة التي تمنحه قدرة أكبر على التحرك بفضل هشاشة الرقابة وضعف الدولة، لكن أخطر ما في هذه المعادلة هو أن المسيرات باتت تمثل ركيزة في عقيدة "حزب الله" العسكرية الجديدة، التي تقوم على الحرب غير المتماثلة والضربات الدقيقة منخفضة الكلفة. فهذه الطائرات الصغيرة لا تحتاج إلى مدارج، ولا إلى طواقم كبيرة، ويمكن تشغيلها من بعد من سيارات متحركة أو من منازل عادية، وهي بذلك تقدم للحزب أداة ردع فورية، وورقة ضغط سياسية، وسلاح تشويش استراتيجي على خط المواجهة مع إسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معطيات دقيقة
في سياق متصل كشف مصدر أمني متخصص في شؤون الطيران داخل المؤسسة العسكرية اللبنانية، فضل عدم ذكر اسمه، معطيات دقيقة تتعلق بالطائرات المسيرة، موضحاً أن أحجام هذه الطائرات تختلف بصورة لافتة، إذ تراوح ما بين نماذج صغيرة جداً بحجم الذبابة أو الدبور، وأخرى يتجاوز طولها 10 أمتار، وتصل أجنحتها إلى ما بين 7 و10 أمتار.
أما من حيث إمكان تصنيعها فأشار المصدر إلى أن "عملية التصنيع المبدئية تعد سهلة نسبياً، إلا أنها تتطلب مكونات أساسية غير متوافرة في السوق المحلية. ففي حين يمكن إنتاج الهيكل الخارجي للطائرة داخل لبنان، تبقى الحاجة إلى استيراد قطع حيوية مثل المحركات، والمراوح، ونظام تحديد المواقع العالمي GPS والكاميرات، التي تشكل عناصر أساسية في منظومة الطائرة ولا يمكن تصنيعها محلياً". وشدد المصدر على أن "المحرك والكاميرا ضروريان للرؤية والتحكم بالطائرة، بالتالي لا غنى عن استيرادهما".
وفي ما يتعلق بمدى خطورة هذه المسيرات على إسرائيل، أكد المصدر أنها تمثل تهديداً حقيقياً، على رغم تفوق إسرائيل في امتلاك منظومات مضادة، وخصوصاً تقنيات الليزر. واستعاد في هذا السياق زيارته إلى الولايات المتحدة عام 2006، حيث تم إطلاع الوفد على أنظمة ليزر متطورة قادرة على إسقاط المسيرات من الجو أو من الأرض، وهي أنظمة منخفضة الكلفة نسبياً. وأضاف أن هناك اليوم بالفعل مسيرات قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة، شبيهة بتلك التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي.
وعن مكونات منظومة المسيرة، أوضح أن "بنيتها تشمل الجسم الخارجي أو الإطار الهوائي، ونظام التحكم، ومستشعرات الأهداف، إضافة إلى الذخائر التي يمكن أن تحملها"، مؤكداً أن "وحدة التحكم الأرضي تعد من العناصر المفصلية في تشغيل هذه الطائرات". وضرب مثلاً بالتجربة الأميركية، مشيراً إلى أن "طواقم في نيفادا كانت تتحكم بمسيرات تحلق فوق العراق، مع فارق زمني بسيط في الاستجابة لا يتجاوز ثانيتين ونصف الثانية".
أما من حيث الكلفة، فلفت إلى أنها تختلف جذرياً حسب النوع والمواصفاًت، إذ تبدأ من بضع مئات من الدولارات لنماذج بسيطة، وتصل إلى 30 أو حتى 40 مليون دولار في حال الطائرات الكبيرة القادرة على التحليق المتواصل لمدة 24 إلى 48 ساعة، والمزودة بصواريخ. وعن ترسانة "حزب الله"، أشار المصدر ذاته إلى أن غالب المسيرات التي يمتلكها الحزب مخصصة للاستطلاع وجمع المعلومات، وتعمل ضمن مدى قريب وتعود إلى قواعدها بعد أداء مهامها، لكنه أكد أن الحزب يملك أيضاً طائرات بعيدة المدى نجحت في اختراق العمق الإسرائيلي، مستشهداً بحادثة استهدفت فيها إحدى هذه الطائرات مطعماً إسرائيلياً كان يضم عدداً من الجنود، وأدت إلى وقوع إصابات عدة. وأضاف أن "هذه المسيرات لا تعتمد على أنظمة توجيه ليزري، ولا تحتاج إلى كاميرات فائقة الدقة، مما يجعل تصنيعها وتشغيلها أقل تعقيداً".
وختم المصدر بالإشارة إلى أن "إسرائيل تستهدف مواقع الحزب بصورة شبه يومية، بما يشمل دراجات نارية ومركبات على ارتفاعات منخفضة". أما المسيرات الإسرائيلية، فأكد أنها "أكثر تطوراً ودقة، بفضل اعتمادها على توجيه ليزري وصواريخ موجهة بدقة عالية"، مشيراً إلى أن نسبة فشلها لا تتجاوز الواحد في كل 200 عملية.
الحرب الروسية - الأوكرانية
وفي سياق الحديث المتنامي عن تعاظم قدرات "حزب الله" الجوية، أشار العميد المتقاعد جوني خلف إلى أن "المعلومات المتداولة حول إعادة تصنيع الحزب للطائرات المسيرة في لبنان، يسلط الضوء على تحول نوعي في سلوك الحزب العسكري، ويطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة المرحلة المقبلة من الصراع". وأضاف أن "الحزب يتابع من كثب مسار الحرب الروسية - الأوكرانية، واستلهم منها تكتيك إطلاق أسراب من المسيرات دفعة واحدة، ما يضاعف حجم الخطر ويعقد مهمة أنظمة الدفاع الجوي، خصوصاً أن تلك الطائرات تتميز بصغر حجمها وسهولة إطلاقها من مناطق غير مكشوفة، كالأودية والمناطق الجبلية، مما يجعل تحديد موقع الإطلاق شبه مستحيل".
وأوضح أن "هذه المسيرات قادرة على الطيران في مسارات غير تقليدية، وتغيير اتجاهها بصورة مفاجئة، مما يصعب على الرادارات كشف عنها أو اعتراضها". وقال إن "الخطورة لا تكمن فقط في التدمير الفيزيائي، بل أيضاً في الأثر النفسي والأمني الذي تخلفه، وهذا ما يجعلها أحياناً أشد فتكاً من الصواريخ".
في هذا السياق، كشف خلف عن وجود "وحدة سرية" داخل الحزب تحمل الرقم 127، وهي متخصصة بجمع وتجهيز المسيرات، مؤكداً أن هذه الوحدة شاركت فعلياً في العمليات الأخيرة. إلا أن الغموض يلف حجم ما تبقى من هذه المسيرات، وما إذا كانت معدة للاستخدام الفوري أو لا تزال قيد التجميع.
أما عن مصدر هذه المسيرات فأشار إلى أنها تصل إلى لبنان كقطع مفككة عبر شبكات تهريب متفرقة، ثم تجمع محلياً بإشراف خبراء لبنانيين أو إيرانيين. ولفت إلى أن إبقاء المسيرات غير مجمعة حتى لحظة استخدامها يقلل من الحاجة إلى صيانتها، ويمنع لفت الأنظار إليها خلال عمليات النقل أو التخزين.
وشدد خلف على أن إسرائيل تعتمد حالياً استراتيجية "الضربات الاستباقية" لتعطيل أي محاولة من "حزب الله" لإعادة تنظيم قدراته، مشيراً إلى أن سلاح الجو الإسرائيلي يواصل استهداف مواقع ومخازن في الضاحية والبقاع وجنوب الليطاني.
واعتبر أن "’حزب الله‘ اليوم لم يعد يتمتع بحرية الحركة كما في السابق، نتيجة الرقابة الاستخباراتية المكثفة، وإقفال المعابر غير الشرعية مع سوريا، والتدقيق في المنافذ الرسمية". وأوضح أن الحزب بات يعيش حال "استنزاف وحذر دائم"، مشيراً إلى أن الحديث عن هيكلة جديدة داخل الحزب أصبح أمراً بالغ الصعوبة.
وعن موقف الحزب من ملف السلاح، قال إن الضغوط الداخلية والخارجية أجبرته على انتهاج سياسة مراوغة، "لا هو قادر على إعلان التخلي عن السلاح، ولا يملك القدرة على تأكيد استمراره في امتلاكه علناً". هذا الوضع، برأيه، يعكس مأزقاً وجودياً للحزب، ويدفعه إلى استخدام خطاب ضبابي، يراوح بين التشبث الغامض بالسلاح والانتظام الشكلي في الحوار.
واختتم العميد المتقاعد في الجيش اللبناني حديثه بالتشديد على أن "المرحلة الحالية هي مرحلة مراقبة دقيقة وردع استباقي"، مشيراً إلى أن تطور الصراع سيعتمد إلى حد بعيد على قدرة "حزب الله" على المناورة ضمن هامش الحركة المتقلص، في ظل المعادلات الأمنية والسياسية الجديدة التي تفرضها الوقائع الإقليمية والدولية.
تبريرات للقصف
من جهة أخرى وفي سياق تفنيد المزاعم الإسرائيلية، شدد الصحافي حسن عليق، على أن "الحديث عن تصنيع ’حزب الله‘ لمسيرات في الضاحية ليس إلا ذريعة جاهزة تستخدمها إسرائيل لتبرير عدوانها". واعتبر أن ما جرى عشية عيد الأضحى لم يكن نتيجة معلومة استخباراتية دقيقة، بل كان قراراً سياسياً وأمنياً إسرائيلياً بفتح جولة جديدة من التصعيد. وقال "هذه ليست المرة الأولى التي تختلق فيها إسرائيل روايات عن مواقع لتجميع أسلحة أو طائرات من دون طيار، لتغطي على خروقاتها المتكررة لوقف إطلاق النار".
وأشار عليق إلى أن "الجيش اللبناني كشف ميدانياً على أحد المواقع التي جرى الإبلاغ عنها، ولم يعثر على أي أسلحة أو تجهيزات، وهو ما يدحض الرواية الإسرائيلية من أساسها". وأضاف أن "الإسرائيلي لا يحتاج إلى دليل، بل يبحث عن مبرر لقصف الضاحية كلما قرر فرض رسائل بالنار. والمسيرات مجرد شماعة جديدة".