ملخص
أبرمت حكومتا لندن ومدريد اتفاقاً جديداً حول جبل طارق التابع للمملكة المتحدة لم يعجب المعارضة البريطانية التي اتهمت حزب العمال الحاكم بالتخلي عن الإقليم، لكن رئيس الوزراء كير ستارمر يقول إن سيادة بلاده على شبه الجزيرة الواقعة جنوب إسبانيا لم تمس.
جبهة أخرى فجرها "بريكست" قبل خمسة أعوام أخمدت للتو بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بعدما أبرمت لندن ومدريد أمس اتفاقاً جديداً في شأن جبل طارق، شبه الجزيرة البريطانية الممتدة على ساحل إسبانيا الجنوبي بطول خمسة كيلومترات وعرض 1.2 كيلومتر، واسمها مشتق من العربية تيمناً بطارق بن زياد الذي استولى على المنطقة عام 711.
وقد حسمت معركة السيادة على جبل طارق عبر اتفاق وقع عام 1713 وتنازلت عنه إسبانيا لمصلحة بريطانيا، لكن اتفاق الأمس أعاد لمدريد جزءاً أساساً منها ووضع شبه الجزيرة تحت إدارة إسبانية تضبط حركة دخول وخروج الأفراد، وفق قواعد منطقة "شنغن" الأوروبية، وحتى حملة الجنسية البريطانية من غير المقيمين في الجبل لم يعد أمامهم إلا زيارته مدة ثلاثة أشهر كحد أقصى، وبعدها تملك إسبانيا صلاحية طردهم وإبعادهم منه.
واحتفظت المملكة المتحدة بـ"السيادة المنقوصة" على شبه الجزيرة، فحمت بموجب الاتفاق قواعدها الجوية والبحرية إضافة إلى مصالحها الاقتصادية، لكن كل ذلك بات تحت حماية إسبانيا حيث أصبح لحرسها الوطني والأوروبي حرية الدخول والخروج إلى المنطقة كيفما شاؤوا، ليفتشوا كل ما يرونه من أفعال وأشياء، بما في ذلك جوازات السفر البريطانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في جبل طارق قاعدة جوية وبحرية للمملكة المتحدة شديدة التحصين وتحرس مضيقاً مسمى باسمه، ويشكل المدخل الوحيد للبحر المتوسط من المحيط الأطلسي، ولعل هذا يفسر الانقسام الكبير الذي خلقه الاتفاق مع إسبانيا في الشارع البريطاني، إذ اتهم "اليمين" بجميع تياراته حزب العمال الحاكم بالتخلي عن الجبل، فكتب رئيس الحكومة كير ستارمر منشوراً قال فيه "إن الحكومة قطفت اتفاقاً يضمن مصالح المملكة المتحدة".
والسؤال هنا يدور حول المواطنين البريطانيين الذين يعيشون في الجبل، وقد أيدوا طلاق لندن وبروكسل خلال الاستفتاء المصيري عام 2016، كما صوتوا بنسبة قاربت 99 في المئة عام 2002 رفضاً لتقاسم السلطة على الجبل مع إسبانيا، فثمة أكثر من 15 ألف إسباني يعملون في شبه جزيرة جبل طارق، وإعفاؤهم من التفتيش أو التدقيق اليومي يسجل بحد ذاته انتصاراً لحكومتهم في هذه الاتفاق، فما بالك بتلك الصلاحيات التي منحت مدريد السيادة والنفوذ على المنطقة، فانتشرت على وسائل التواصل صور تظهر جبل طارق وقد اكتسى بالعلم الإسباني أو يعلوه ثور إسباني بحجمه.
يطل جبل طارق على أحد أهم المضايق المائية حول العالم، وقد انتزع الإسبان السيطرة عليه من المسلمين عام 1462، ثم تنازعوا عليه مع البريطانيين حتى أصبح عام 1830 مستعمرة بريطانية بصورة رسمية، وفي القرن الماضي أغلقت إسبانيا حدودها مع الجبل عام 1969 ثم عاودت فتحها عام 1985 وأبقت الحظر الجوي حتى عام 2006.
وينقل عبر مضيق جبل طارق ثلث النفط والغاز في العالم، كما أن 80 في المئة من البضائع التي يحتاجها الاتحاد الأوروبي تمر من خلاله، حيث تبحر في المضيق أكثر من 150 ألف سفينة سنوياً في مياه بعمق 400 متر كحد أقصى وطول 58 كيلومتراً، أما عرض المضيق فهو أقصر مسافة بين الضفتين المغربية والإسبانية وتبلغ 14 كيلومتراً فقط، وأكبرها 43 كيلومتراً بين رأسي "الطرف الأغر" و"سبارتل"، وفق المقارنة ذاتها.
منذ القرن الـ 18 كان جبل طارق رمزاً لقوة البحرية البريطانية، ويُعرف في هذا السياق باسم "الصخرة"، ومع افتتاح قناة السويس عام 1869 ازدادت أهميته الإستراتيجية وتعززت مكانته كميناء تموين، ومنذ الحرب العالمية الثانية ظلت الحامية العسكرية البريطانية وحوض بناء السفن البحري جزأين مهمين من اقتصاد شبه الجزيرة، وكثيراً ما تستخدم العمليات البحرية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مرافق الميناء.
وحتى الأمس القريب كان الجيش البريطاني عماد الاقتصاد في جبل طارق من خلال مساهمته بنحو 60 في المئة من إجمال الدخل القومي، ثم انخفضت النسبة إلى أقل من 10 في المئة بعدما دخل قطاعا السياحة والتجارة في معادلة الناتج المحلي، وبسبب نقص المساحة فلا توجد زراعة في جبل طارق بل صناعات خفيفة مثل التبغ والمشروبات والمعلبات، لكن مصادر الدخل الرئيسة هي تموين السفن والعسكريين وتجارة إعادة التصدير، إضافة إلى السياحة التي نشطت في ظل التوسع في الفنادق والشواطئ وكازينوهات القمار، ومساهمة ضرائب الدخل والرسوم الجمركية في الإيرادات، كما تقدم المملكة المتحدة للمنطقة مساعدات تنموية كبيرة تشمل الخدمات الاجتماعية والأشغال العامة والخدمات البلدية.
وتمتد شبه جزيرة جبل طارق على ستة كيلومترات مربعة، وتتكون من سهل يجاور سلسلة صخرية ترتفع تدرجياً حتى تتجاوز أكثر من 420 متراً في قمتها الشمالية القصوى، وتخلو تماماً من الينابيع والأنهار، لكنها تحوي 500 نوع من النباتات المزهرة، وتكثر فيها أشجار الزيتون والصنوبر البرية، كما تجد فيها الأرانب والثعالب وقرود المكاك، إضافة إلى أنها الموطن الوحيد لطائر الحجل البربري في قارة أوروبا.
يقدر عدد سكان الجبل العام الماضي بأقل من 40 ألف نسمة، يستخدمون في تعاملاتهم المالية جنيهاً خاصاً بالمنطقة لكنه مربوط بنظيره الإنجليزي، أما على الصعيد الديموغرافي فيشكلون خليطاً من البريطانيين والإيطاليين والمالطيين والبرتغاليين والمغاربة والإسبان، وفق أصولهم، وغالبيتهم من الكاثوليك المسيحيين، إضافة إلى أقلية مسلمة وأخرى يهودية، أما اللغة الرسمية للحكومة والتعليم فهي الإنجليزية، مع أن معظم السكان يتقنون الإسبانية أيضاً.
سياسياً يعتبر جبل طارق إقليماً تابعاً للتاج البريطاني ولكنه يتمتع بحكم ذاتي في جميع الأمور باستثناء الدفاع، وقد وُضع دستوره عام 1969 ونص على إنشاء برلمان يتألف من رئيس يعينه حاكم الإقليم و17عضواً يُنتخبون مدة أربعة أعوام، وفي عام 1981 منح سكان الجبل الجنسية البريطانية الكاملة، ويحق لمن بلغوا 18 سنة والمدنيين البريطانيين المقيمين هناك لأكثر من ستة أشهر التصويت، أما الحاكم الذي يعينه الملك البريطاني فهو رئيس المجلس التنفيذي للإقليم، ويكلف زعيم الحزب الحاكم في الانتخابات بتشكيل الحكومة.
وكشفت الحفريات أن جبل طارق كان مأهولًا بصورة متقطعة منذ عصور ما قبل التاريخ، بينما تقول الأسطورة إن "الصخرة" هي عامود من اثنين تشكلا عندما حطم هرقل جبلاً يفصل بين أفريقيا وأوروبا خلال رحلته لأسر المسخ ذي الأجسام الثلاثة على جزيرة في الأطلسي "ثيران غيريون"، أما العامود الآخر فهو جبل موسى على الضفة المغربية.