ملخص
هيكلية جديدة لوزارة الداخلية السورية شملت تعيين قادة جدد للأمن الداخلي في جميع المحافظات السورية، وشملت أيضاً تعيين معاونين لوزير الداخلية باختصاصات دقيقة، فيما شرحت مصادر سورية لــ"اندبندنت عربية" كيفية تأثير الهيكلية الجديدة في الأمن الداخلي بالبلاد.
في خطوة تعد من بين أكثر التحولات حساسية منذ انتصار الثورة السورية أعلنت وزارة الداخلية عن ولادة خريطة أمنية جديدة تعيد توزيع النفوذ وهيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع. وفي سابقة لم تشهدها البلاد منذ عقود، عُيّن قادة جدد للأمن الداخلي في كل محافظة، ضمن مسار إصلاحي شامل يتزامن مع إعادة تنظيم وزارة الداخلية وتوسيع صلاحياتها.
لكن ما وراء هذه التعيينات ليس مجرد تدوير للكفاءات، بل هو عنوان لتحول جذري في العقلية الأمنية بعد سقوط نظام حكم أمني مغلق استمر أكثر من نصف قرن، فهل تنجح هذه الهيكلة في تجاوز إرث القمع وبناء جهاز أمني مدني فاعل؟ أم أن التحديات المتراكمة ستقف حجر عثرة أمام ولادة أمن جمهوري حقيقي؟
خريطة أمنية جديدة
وأصدرت وزارة الداخلية السورية قائمة تعيينات جديدة تضم ضباطاً بصفة قادة للأمن الداخلي في عدد من المحافظات السورية، حيث عُيّن العميد أسامة محمد خير عاتكة قائداً للأمن الداخلي في محافظة دمشق، والعميد حسام مأمون الطحان قائداً للأمن الداخلي في محافظة ريف دمشق، والعميد شاهر جبر عمران قائداً للأمن الداخلي في محافظة درعا، والعميد مرهف خالد النعسان قائداً للأمن الداخلي في محافظة حمص، والعميد ملهم محمود العليوي الشنتوت في قيادة الأمن الداخلي بمحافظة حماة، والعميد عبدالعزيز هلال الأحمد في محافظة اللاذقية، والعميد محمد قصي يوسف الناصير في محافظة القنيطرة، والعميد أحمد هيثم الدالاتي في محافظة السويداء، والعميد غسان محمد باكير في محافظة إدلب، والعقيد محمد جمعة عبدالغني في محافظة حلب، والعقيد عبدالعال محمد عبدالعال في محافظة طرطوس، والعقيد ضرار عبدالرزاق الشملان في محافظة دير الزور.
التعيينات الجديدة التي أصدرتها وزارة الداخلية السورية لا تقتصر فقط على تعيين قادة للأمن في المحافظات، بل شملت أيضاً قائمة تعيينات جديدة تضم ضباطاً وأكاديميين بصفة معاونين لوزير الداخلية أنس خطاب، إذ عُيّن اللواء عبدالقادر طحان معاوناً لوزير الداخلية للشؤون الأمنية، واللواء أحمد محمد لطوف معاوناً للوزير للشؤون الشرطية، والعميد زياد فواز العايش معاوناً للوزير للشؤون المدنية، والعميد باسم عبدالحميد المنصور معاوناً للوزير للشؤون الإدارية والقانونية، والمهندس أحمد محمد أمين حفار معاوناً للوزير للشؤون التقنية، والدكتور محمد حسام رامز الشيخ فتوح معاوناً للوزير لشؤون القوى البشرية.
دمج الشرطة والأمن العام
وسبق سلسلة التعيينات هذه إعلان وزارة الداخلية عن إعادة هيكلة تنظيمية شاملة تهدف إلى تأمين سوريا على المستويين الداخلي والحدودي واستحداث إدارات جديدة لضبط الأمن، فأوضح المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا أن الوزارة عقدت الخميس الماضي جلسة تشاورية في مقرها، جمعت نخبة من الكفاءات السورية في المجالات القانونية والإدارية والشرطية، بينهم عدد من المنشقين عن النظام السابق لمناقشة الشكل الجديد للهيكلية الإدارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف البابا أنه "خلال الجلسة، عرضت الوزارة رؤيتها الجديدة للتنظيم الإداري، وأوضحت أبرز الفروق مقارنة بالهياكل السابقة. وأشار وزير الداخلية إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار الشفافية وتعزيز المشاركة المجتمعية، وفي مجال الأمن الداخلي، دُمج جهازا الشرطة والأمن العام تحت مسمى قيادة الأمن الداخلي في المحافظة، يترأسها مسؤول يمثل وزير الداخلية، وتضم مديريات عدة موزعة بحسب جغرافيا كل محافظة، أما في الإدارة المدنية، فتعمل الوزارة على إعادة تنظيم الإجراءات وأتمتة البيانات، إلى جانب التحضير لإطلاق بطاقات شخصية جديدة بهوية بصرية متطورة، على رغم التحديات المرتبطة بالبنية التحتية الضعيفة والإجراءات المتوارثة، كما أُنشئت إدارات متخصصة في استقبال الشكاوى ومتابعة التجاوزات المسلكية، إذ تتبع خمس دوائر مركزية لإدارة العلاقات العامة، إلى جانب تطوير تطبيق رقمي خاص لتقديم الشكاوى".
إعادة بناء جذري للمؤسسة الأمنية
العقيد أحمد حمادة يقول في تصريحات خاصة إلى "اندبندنت عربية" إن "التعيينات الجديدة وإعادة الهيكلة في وزارة الداخلية السورية تحمل دلالات عميقة على تحولات جارية في بنية السلطة وآليات إدارة الدولة بعد سقوط نظام بشار الأسد، ويمكن تحليل تأثير هذه التطورات في المشهد الداخلي في سوريا من خلال محاور عدة، أولها إعادة تموضع المؤسسة الأمنية، إذ إن تعيين ضباط جدد على رأس الأجهزة الأمنية في جميع المحافظات يشير إلى إعادة بناء الهرم الأمني من الصفر، بما يتماشى مع النظام السياسي الجديد الذي نشأ بعد سقوط النظام السابق، ونلاحظ أن التعيينات لم تقتصر على العاصمة دمشق أو المحافظات الكبرى فقط، بل شملت مناطق حساسة مثل درعا ودير الزور والسويداء، مما يعكس إدراك الحكومة الجديدة لأهمية بسط السيطرة الإدارية والأمنية المتوازنة في أنحاء البلاد كافة، بخاصة ضمن المناطق التي شهدت صراعات حادة".
ويضيف أن "تلميح المتحدث باسم وزارة الداخلية إلى مشاركة عدد من المنشقين عن النظام المخلوع في الجلسة التشاورية يعطي مؤشراً إلى انفتاح المؤسسة الأمنية الجديدة على الكفاءات السابقة من دون أن تكون جزءاً من شبكة الفساد والاستبداد، مما يعزز الثقة الشعبية تدريجاً، وتبدو التعيينات مدروسة بعيداً من منطق الولاء الشخصي الذي كان سائداً خلال عهد النظام السابق، وتعكس محاولة لتأسيس جهاز شرطي قائم على الكفاءة والانضباط، خصوصاً مع تعيين عقداء في محافظات كبرى مثل حلب وطرطوس، مما يشير إلى اعتماد معايير وظيفية وليس فقط رتباً عسكرية".
التحديات والفرص أمام "دولة القانون"
ويرى حمادة أن "الإعلان عن إعادة هيكلة تنظيمية شاملة واستحداث إدارات جديدة يعكس رغبة جدية في الانتقال من دولة الأمن إلى دولة القانون، كما أن الحديث عن الشفافية والمشاركة المجتمعية يعد تطوراً لافتاً مقارنة بالنهج الأمني المغلق للنظام السابق، وتعيين معاونين لوزير الداخلية بصفات وظيفية دقيقة (أمنية وشرطية ومدنية وتقنية) يدل على توزيع واضح للصلاحيات والمسؤوليات داخل الوزارة، وهي خطوة نحو تحييد الأمن الداخلي عن التدخلات السياسية المباشرة، ومن جانب آخر فإن دعوة نخبة من الكفاءات السورية إلى مناقشة شكل الهيكلية الجديدة ومنحهم دوراً في صياغة الخطة التنظيمية يمثلان محاولة لكسب الشرعية الشعبية وربما لامتصاص الحساسيات المناطقية والطائفية التي كثيراً ما ارتبط بها ملف الأمن في سوريا".
ويوضح أنه "إذا جرى تنفيذ هذه التغييرات بجدية وشفافية، فإنها قد تمثل بداية استعادة الثقة بين السوريين والمؤسسة الأمنية، ولا سيما أن الشرطة خلال عهد النظام السابق كانت أداة قمع وليس حماية، ومن جهة أخرى فإن تأمين الاستقرار الداخلي وضبط الحدود من خلال أجهزة شرطة فاعلة هو شرط أساس لأية عملية انتقال سياسي سلمي ومستدام، والتغييرات الجارية تشكل جزءاً من هذه البنية التحتية الجديدة، وعلى رغم الطابع الإيجابي العام، فإن هذه التعيينات قد تواجه مقاومة من بعض الضباط أو الفاعلين الأمنيين المرتبطين بالنظام السابق، خصوصاً في مناطق لم يجرِ تطهيرها بالكامل من نفوذهم، مما يتطلب حذراً في تنفيذ السياسات الجديدة، ومع هذا فإن هذه التعيينات وإعادة الهيكلة الأمنية تشكلان لحظة مفصلية في تاريخ سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وتمثلان محاولة لإعادة بناء الدولة من خلال أمن مبني على المؤسسات وليس الولاءات، ومن المرجح أن تكونا حجر الأساس لدولة قانونية حديثة إذا طُبقتا بفاعلية وعدالة، لكن نجاح هذه الخطوات سيتوقف على الإرادة السياسية الحقيقية وحجم التحديات الباقية من إرث الماضي".
وأفادت مصادر أمنية "اندبندنت عربية" بأن "جميع الأجهزة الأمنية في سوريا ستكون تابعة لوزارة الداخلية، فيكون وزير الداخلية هو رأس الهرم لجميع هذه الأجهزة، باستثناء جهاز الاستخبارات".
في المحصلة ومع التغيرات الجذرية التي تشهدها سوريا بعد إسدال الستار على عهد أمني دام عقوداً، تبرز التعيينات الجديدة في وزارة الداخلية كاختبار مبكر لنوايا الحكومة الجديدة وقدرتها على كسر إرث القمع وتأسيس ثقافة أمنية جديدة، في ظل دعم عربي وإقليمي ودولي واسع النطاق، وعلى رغم الإشارات الإيجابية نحو الشفافية وإضفاء الطابع المؤسسي، يبقى المسار محفوفاً بتحديات بنيوية وسياسية، ويبقى لدى المواطن السوري أمل في أن تتحول هذه الهيكلة إلى حجر الأساس لبناء جهاز أمني وطني يعيد الثقة بين الدولة والمواطن.