ملخص
منذ ما قبل انتخابه إلى ولايته الثانية، بدى ترمب وكأنه يسعى إلى قطيعة مع السياسات الأميركية الخارجية السابقة، إن كانت على شاكلة التدخل العسكري المباشر كما في فيتنام وأفغانستان والعراق، أو على شاكلة حروب إقليمية ومحلية مثل أوكرانيا وفلسطين.
لم ينتبه أحد إلى تزامن موعد انتهاء الـ 100 يوم الأولى من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع الذكرى السنوية الـ 50 لهزيمة الولايات المتحدة أمام الثوار الفيتناميين في سايغون، والتي بات اسمها منذ ذلك الوقت يحمل اسم الزعيم الفيتنامي هو شي منه أو "العم هو".
والانتباه إلى هذه المصادفة يبدو ضرورياً لفهم خلفيات سلوك ترمب وإدارته في الزمن الحالي، وهو سلوك لن تُعرف نتائجه في 100 يوم فقط، لكنه بالتأكيد يعلن قطيعة مع تاريخ التدخلات العسكرية الأميركية في الخارج، بدءاً من "معركة سايغون" الكارثية ثم ما أعقبها من غزوات لم تكن جميعها مبررة أو ضرورية، كما يجادل سياسيون ومؤرخون أميركيون.
صحيح أن هزيمة فيتنام لم تؤد إلى مراجعات أميركية حاسمة، حيث شنت الولايات المتحدة عدداً من الحروب الخاصة في بنما وغرينادا والعراق وأفغانستان، إلا أن هذه الهزيمة دفعت القوى الكبرى خلال زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى استبدال التدخل المباشر بحروب إقليمية ومحلية، ربما كان أبرزها في ذلك الوقت "حرب لبنان" التي اندلعت عشية سقوط فيتنام الجنوبية في أيدي الحزب الشيوعي الفيتنامي، ثم الخروج الأميركي الكبير من الهند الصينية.
ومنذ ما قبل انتخابه إلى ولايته الثانية، بدا ترمب وكأنه يسعى إلى قطيعة مع السياسات الأميركية الخارجية السابقة، إن كانت على شاكلة التدخل العسكري المباشر كما في فيتنام وأفغانستان والعراق، أو على شاكلة حروب إقليمية ومحلية مثلما أوكرانيا وفلسطين، وفي المكانين الأخيرين كان حاسماً في رفض التورط المباشر والتأكيد على التوصل إلى حلول سلمية، من دون أن يغفل انحيازاته السابقة، ففي فلسطين هو مع إسرائيل لكنه يريد إنهاء النزاع بينها وبين الفلسطينيين والعرب ضمن رؤيته الخاصة لشرق أوسط مزدهر، وفي أوكرانيا هو مع تسوية تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى بين كييف وموسكو، والوقائع الناشئة بسبب الصراع هي تسوية تمنع استنزافاً طويلاً يصيب أوروبا وروسيا وأوكرانيا، وقد يضطر أميركا إلى دخول أشمل في المعركة.
وفي الملف الثالث، الملف النووي الإيراني، قدّم ترمب عرضه للسلام القائم على جعل إيران بلداً طبيعياً من دون أوهام نووية، وبدأ مفاوضات جند لها الحضور العسكري الضخم والعقوبات المتتالية، لكنه لم يتراجع عن القول بأولوية التوصل إلى حل سلمي، يتيح بترابطه مع حل مماثل للصراع في فلسطين وأوكرانيا، الانطلاق نحو شرق أوسط "طبيعي" هو الآخر، تنصرف شعوبه إلى البناء والازدهار إضافة إلى شعوب العالم الأخرى.
ولم يحقق ترمب تقدماً كبيراً في مبادراته الدولية خلال 100 يوم من حكمه، قياساً إلى الوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية والأجواء التي أثارها لدى توليه المسؤولية، لكنه لم يتراجع في الوقت نفسه عن إصراره على التوصل إلى النتائج التي يطمح إليها، وأتاحت له تجربة التعامل مع الملفات الشائكة فرصاً جديدة لاستكشاف المداخل المناسبة للحلول من دون أن يبدي أي تراجع عن الأهداف المعلنة التي وضعها منذ البداية، ومع ذلك واجه الرئيس الأميركي نوعين من الانتقادات والتقييمات بينما كان يحتفل بأيامه الـ 100 الأولى.
النوع الأول داخلي يتصل خصوصاً بتدابيره الاقتصادية والإدارية ولا يتناول سياسته الخارجية، والنوع الثاني خارجي صادر عن منافسين دوليين يرون في نهجه تهديداً أو انقلاباً على السياسات التقليدية للولايات المتحدة.
وفي الداخل اعتبر زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر أن الـ 100 يوم الأولى "كانت أسوأ بداية لأي رئيس أميركي في العصر الحديث، والأسوأ لم يأت بعد"، وقال "لقد كانت 100 يوم من الجحيم بالنسبة إلى العائلات الأميركية والاقتصاد والديمقراطية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمحورت الانتقادات الأميركية لترمب حول مسائل الاقتصاد والإدارة والديمقراطية، وقالوا إنه يقوض الديمقراطية الأميركية ويهدد القيم المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان، ويحوّل النظام إلى نظام فردي سلطوي يصطدم بكل مؤسسات الدولة، لكن الانتقادات الخارجية لترمب لم يكن تهمها الأوضاع الأميركية الداخلية، بقدر ما تهمّها انعكاسات سياسات الرئيس الأميركي على موقعها ومصالحها، والإيرانيون الذين يخشون اندفاع ترمب نحو فرض صيغة اتفاق لا تناسبهم، تحدثوا عن تناقضات داخل فريق الرئيس الأميركي، والمحللون الروس الذين احتفوا بفشل ترمب في تحقيق اختراقات بارزة عبر مبادراته في أوكرانيا والشرق الأوسط، ذهب بعضهم إلى القول إن الـ 100 يوم الأولى خدمتْ روسيا، كما استنتجت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا".
واستندت الصحيفة في استنتاجها هذا إلى أن الـ 100 يوم الأولى كانت نتيجتها "غير القابلة للإنكار هي تقسيم الغرب"، وربما نهاية الـ "ناتو"، وفي تحليل آخر للمعلق الروسي المعروف، ألكسندر نازاروف، فقد اعتبر أن ترمب فشل خلال ثلاثة أشهر "في تحقيق أي إنجاز ملموس، والمجال الوحيد الذي يشهد نشاطاً حقيقياً، وهو الرسوم الجمركية، لا ينشط إلا بفعل الصينيين".
وبحسب نازاروف فإن ترمب فشل في الخروج من "المسار الذي وضعه جو بايدن وحتى باراك أوباما، فأوكرانيا تُحكم قبضتها عليه، ومن دون مغادرته لها لن يتمكن من التعامل مع أية قضية أخرى"، وكي يتمكن من الخروج فعليه، بحسب نصيحة المعلق الروسي المرموق، إجراء "التغييرات السياسية الداخلية اللازمة، أي الوصول إلى سلطة مطلقة وصلاحيات دكتاتورية، ومن دون ذلك سيجبر في السياسة الخارجية على الاستمرار في النهج القديم نفسه".
ولا تعبر هذه التحليلات عن ارتياح لمبادرات ترمب الخارجية بقدر ما تأمل في فشل نهج دولي أميركي جديد يبدو الرئيس الأميركي مصراً على استكماله بشروطه، ففي أوكرانيا وقّع على اتفاق المعادن وأتاح له لقاء الفاتيكان تصحيح علاقاته مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، مما يرمي الكرة في الملعب الروسي، وفي الملف الإيراني شدد شروطه مما يجعل طهران مضطرة إلى تقديم أجوبة واضحة تتخطى صيغة اتفاق عام 2015 الذي وقّعه أوباما.
وفي الملف الفلسطيني لا يزال واقفاً عند شروطه الأولى، غزة من دون "حماس"، وحل لفلسطين سيأخذ في الاعتبار الموقف المبدئي الذي سيتبلغه في السعودية منتصف مايو (أيار) الجاري، من أن أي سلام يجب أن يكون مبنياً على حل الدولتين.
كانت الـ 100 يوم الأولى من ولاية ترمب بمثابة استكشاف للنقاط المتفجرة في عالمنا بهدف نزع فتائل تفجيرها، وهي من دون شك رد عميق، وربما قطع مع مرحلة من التدخلات الأميركية العسكرية المباشرة التي كانت فيتنام نموذجها المدوّي.